الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستهلت سنة سبع عشرة وستمائة:
فى هذه السنة، كانت وقعة البرلّس «1» : بين السلطان الملك الكامل والفرنج. وكانت من الوقعات العظيمة، المشهورة. قتل من الفرنج فيها عشرة آلاف. وغنم المسلمون خيولهم وسلاحهم. فرجعوا إلى دمياط.
وفيها أخذ ابن حسّون- مقدّم الشّوانى «2» الإسلامية- للفرنج إحدى عشرة حرّاقة «3»
وفيها فى يوم الاثنين، السابع عشر من جمادى الآخرة، احترق بمدينة قوص، بظاهرها- خان الأمير مجد الدين مكرم بن اللمطى. وعدم للتجار فيه ما يقارب قيمته خمسمائة ألف دينار.
وكان متولى الأعمال القوصية، يومئذ، الأمير سيف الدين: سنقر الدّوادار العادلى. فكتب الأديب الفاضل: نجم الدين عبد الرحمن ابن وهيب القوصى «1» ، عن المتولى، كتابا إلى السلطان الملك الكامل، يخبره بهذه الحادثة، وهو:
«المملوك يقبّل الأرض بالمقام العالى، المولوىّ السلطانى، الملكى الكاملى الناصرى: غياث الاسلام، سلطان الأنام، ولىّ النعمة، كاشف غياهب الغمّة، جامع فضيلتى السيف والقلم، ورافع زينتى العلم والعلم- لا زالت آيات ملكه باهرة، ونجوم خرصانه «2» فى سماء العجاج «3» زاهرة، ووجوه أوليائه ناضرة، إلى ربها ناظرة ووجوه أعدائه ساهية ساهرة، تظنّ أن يفعل بها فاقرة «4»
وينهى وقوع الكائنة التى عظم مصابها وأصاب عظيمها، وآلم موجعها وأوجع أليمها، وسقم بها من القلوب صحيحها، وصحّ بها من الخطوب سقيمها. وأحالت الأفكار فى ميدان الفكرة، وأطلق من الألسن والأعين عنان العبرة والعبرة. وهى حلول النار بالخان، الذى أنشأه الأمير مجد الدين مكرم بن الّلمطى بظاهر مدينة قوص وهذا الخان المذكور، قد كان محطا للرفيق ومجتمعا للسّفّار، يأتون إليه من كل فجّ وطريق، خصوصا الكارم «1» الإسكندرى- عوّضهم الله أموالهم، وبلّغهم آمالهم- فلا ينزلون بغيره منزلا، ولا يختارون سواه حصنا وموئلا. وإذا حل به أحدهم فكأنه ما فارق وطنه. يتخيّرون منازله وغرفه، ويهرعون إليه كما يهرعون ليوم عرفة.
فاتفق لقضاء الله السابق وقدره اللاحق، وإظهار ما كان من مغيّبه مستورا، وتلاوتهم كان ذلك فى الكتاب مسطورا- فاتفق يوم الاثنين السابع عشر من جمادى الآخرة، أن خطبت على أعاليه ألسن النّيران، واسودّ الفضاء المشرق لتتابع الدّخان. وعاين أهله الهلاك، وجاءهم الموت من كل مكان. فلم يلبثوا إلا ساعة من نهار، وقد احدقت بهم النار إحداق الأجفان بالأحداق واستدار عليهم اللهب استدارة الأطواق بالأعناق. وتلالهم لسان القدر: ما عندكم ينفد وما عند الله باق.
وزحفت الخطوب إليه زحفا، وصار للوقت دكا دكّا. والناس حوله صفّا صفّا. هذا، ولسان النار يقول: هل من مزيد؟ ومدامع الخلق تهمى وتزيد، فعلت الأصوات عند ذلك بالدعاء، وكاد اللهب يخمد من جريان ماء البكاء، وشهد الناس منه اليوم المشهود. وهبّت الأرياح فلم تخمد للأرواح ضراما، وخالفت هذه النار نار الخليل «1» ، فلم تعقب بردا وسلاما! فكلّ مالك لموضع صار فيه «مالكا «2» » . وكلّ ذى حال حسنة حاله حالكا. فمن فائز بنفسه دون نفائسه، ومن راغب فى هربه لشدة رهبه، ومن آبق «3» بمرده «4» دون أهله وولده. قد لزم كل منهم ما يعنيه، وعمل بقوله عز وجل:«يوم يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه» . فإنا لله وانا اليه راجعون، ولأمره طائعون.
لا صادف لمصادف قضائه، ولا صارف لصرف بلائه.
لم يبق هذا المصاب لهولاء القوم جلدا، ولم يؤخّر عنه حزنا ولا كمدا.
وكلّ أحد منهم يقول: أهلكت مالا لبدا «5» . فكم من كريم كان يجزل الهبات فصار جديرا بأن يتصدّق بها عليه. وكم من مموّل كان يؤدى الزكاة فصار مستحقا بأن تصرف إليه. كانوا أعزّاء فى الغربة بأموالهم، فصاروا
أذلّاء فى المواطن لإقلالهم. لم يخلص لهم إلا النّزر اليسير، والشىء الحقير، والقليل من الكثير مقدار أزوادهم إلى مواطنهم، وكفافهم إلى وصول مساكنهم.
هذا، ولم يعلم السبب فى وقوع النار. فقال قوم: صاعقة سمائية، وقال قوم: آفة أرضية. وتزاحمت فى ذلك الظنون، وعند الله من علمه السّرّ الكنون. إلا أن المملوك أرسل عليه من الماء طوفانا، وأجرى اليه بحارا- ولا أقول غدرانا- إلى أن عاد غريقا بعد ما كان حريقا، وصار موردا بعد ما كان موقدا. وأصبح ماء ثجّاجا «1» بعد ما كان سراجا وهاّجا. وعلموا أن المدفوع من بلاء الله أعظم، وقرأوا:«ولكن الله سلّم» .
أنهى المملوك ذلك، ليطالح بخفىّ الأحوال وجليّها، حتى لا يخفى عن علمه السامى خافية- لا زالت أنوار المملوك بذلك المقام متوالية متلالية- إن شاء الله تعالى.
وفيها، فى العشر الآخر من شعبان، صرف قاضى القضاة تاج الدين ابن الخرّاط «2» عن القضاء، بمصر والوجه القبلى.
وسبب ذلك أن إحدى بنات مرزوق العلائى تزوجت بإنسان علّاف اسمه داود، وهو غير كفء لها. فاستدعاه السلطان إلى المنصورة، وعقد له
مجلسا وسلم المرأة لزوجها. وصرف القاضى عن الحكم، وصك الشهود.
وأضاف قضاء مصر والوجه القبلى لقاضى القضاة: شرف الدين بن عين الدولة الصّفراوى. «1»
ثم ولى القاضى تاج الدين المذكور، بعد ذلك، قضاء دمياط وكان بها، إلى أن مات- رحمه الله.
وفيها خرّبت صفد «2» . ثم عمّرها الفرنج بعد ذلك، عندما تسلموها من الملك الصالح إسماعيل- فى سنة ثمان وثلاثين.
وفيها قتل صاحب سنجار «3» أخاه. فسار الملك الأشرف إليها، فأخذها وعوض صاحب سنجار الرّقّة «4» وفيها قصد مظفّر الدين بن زين الدين- صاحب إربل «5» - الموصل.
فخرج إليه بدر الدين لؤلؤ، فهزمه زين الدين، فأفلت لؤلؤ وحده. فانتصر الملك الأشرف له، ونازل إربل. فبعث الخليفة إليه، فردّه عنها، وأصلح بين الملوك.
وفى هذه السنة، كانت وفاة الملك الفائز: إبراهيم، بن الملك العادل.
وكان قد وافق الأمير عماد الدين بن المشطوب، وحلف له جماعة من الأمراء بالديار المصرية على الملك الكامل. وكاد أمره يتم. فاتفق من إخراج ابن المشطوب ما قدّمناه. وبقى الملك الكامل فى ضيق منه.
فيقال انه استشار الصاحب- صفى الدين بن شكر الوزير- فى أمره، فأشار بإرساله إلى الملوك ببلاد الشّرق، يستحثّهم على الحضور. فلما كانت واقعة البرلّس، قال السلطان الملك الكامل للملك الفائز: إن الملك المعظّم قد أبطا علينا والملك الأشرف، وليس لهذا المهم سؤال، فتوجّه إلى أخيك الملك الأشرف، وعرّفه ما نحن فيه من الضائقة. فتوجه.
وكان الملك الأشرف على الموصل. فمرض الفائز بين سنجار والموصل.
فمات- وقيل انه سمّ- فردّه من معه الى سنجار. فدفن عند تربة عماد الدين زنكى- رحمهما الله تعالى.
وحكى ابن جلب راغب، فى وفاته، أن السلطان جهّزه إلى الملك الأشرف، باتفاق من الملك المعظم، وبرأى الصاحب صفى الدين، وأنه.
جهز معه شيخ الشيوخ، فسقاه سمّا فى طريقه. فلما شعر الفائز به، قال له:
يا شيخ السّوء فعلتها بى! كل من هذا الذى أحضرته. فأكل منه، فماتا جميعا «1»
وحكى غير ابن جلب راغب- وهو أقعد منه بهذه الحادثة- فى وفاة شيخ الشيوخ، فقال ما معناه: كانت وفاة شيخ الشيوخ: صدر الدين «1» أبى الحسن محمد، بن الإمام شيخ الشيوخ عماد الدين أبى الفتوح عمر «2» ، ابن الفقيه أصيل خراسان أبى الحسن على، بن الإمام الزاهد: أبى عبد الله محمد، بن حمّويه «3» ، الحمّوى الخراسانى النّيسابورى الجوينى، البحيراباذى «4» الشافعى- فى منتصف جمادى الآخرة- وقيل فى يوم الاثنين رابع عشرين الشهر بالموصل، بعلة الذّرب «5» . وكان الملك الكامل قد أرسله إلى الخليفة، يستنجده على الفرنج، فمرض بين حرّان والموصل، فوصل إلى الموصل ومات بها. وقيل كانت وفاته فى جمادى الأولى.
ومولده بجوين فى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وجوين هذه، التى نسب إليها، ناحية كبيرة من نواحى نيسابور، وإليها ينسب إمام الحرمين أبو المعالى: عبد الملك الجوينى. وأما أبو المعالى الجوينى: محمد بن الحسن ابن عبد الله- فهو منسوب إلى جوين: قرية من قرى سرخس. وهو إمام فاضل. وأما وقّاد بن قيس الجوينى الشاعر فمنسوب إلى جوين: بطن من سنبس «1» .
وفى هذه السنة كانت وفاة السيد الشريف: قتادة بن إدريس، الزّيدى الحسنى «2» العلوى، أمير مكة. وكنيته أبو عزيز. كان رحمه الله عادلا منصفا. واطمأن الحاجّ فى أيامه. وما وطىء بساط خليفة قط. وكان يحمّل إليه فى كل سنة من بغداد الخلع والذهب. وكان يقول: أنا أحقّ بالخلافة من غيرى.
وبعث إليه الخليفة الناصر يستدعيه، ويقول له: أنت ابن العم والصاحب، وقد بلغنى شهامتك وحفظك للحاج، وعدلك وشرف نفسك، وقد أحببت أن أراك وأشاهدك، وأحسن إليك. فكتب إليه:
ولى كفّ ضرغام أدلّ ببسطها
…
وأشرى بها بين الورى وأبيع
تظلّ ملوك الأرض تلثم ظهرها
…
وفى وسطها للمجدبين «1» ربيع
أأجعلها تحت الرّجا، ثم أبتغى
…
خلاصا لها، إنى إذا لوضيع
وما أنا إلا المسك فى كل بقعة
…
يضوع «2» ، وأما عندكم فيضيع
وكانت وفاته- رحمه الله إحدى الجماديين، بمكة- شرفها الله تعالى- وله سبعون سنة.
وملك بعده ابنه الحسن- وقيل أن ابنه الحسن سمّه- وكان له ولد آخر اسمه: راجح. وكان قتادة قد اتسعت ولايته من حدود اليمن إلى المدينة: وله قلعة ينبع واستكثر من المماليك. وذكر ابن الأثير وفاته فى سنة ثمان عشرة.
والله أعلم.
وفيها، كانت وفاة الملك المنصور: محمد بن عمر بن شاهنشاه ابن أيوب- صاحب حماه.
وكان شجاعا محبّا للعلماء. وصنف كتابا سماه: «المضمار» جمع فيه جملة من التواريخ، وأسماء من ورد عليه وأقام عنده، فى عشرة مجلدات. وكان كثير الصدقة، حافظا لرعيته. وكانت وفاته بحماه فى شوال، ودفن عند أبيه.
وقام بعده بملك حماه ولده الأكبر: الملك الناصر قليج أرسلان.
ثم أخذ منه الملك الكامل حماه، وأعطاها لأخيه الملك المظفّر، واعتقل قليج أرسلان فى الجبّ بقلعة الجبل، بظاهر القاهرة المعزّية.
وفيها كانت وفاة الملك الصالح: نجم الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن أرتق، صاحب آمد. وكان شجاعا عاقلا جوادا، محبا للعلماء. وكان الملك الأشرف يحبّه، وحضر إلى خدمة الأشرف غير مرة إلى دنيسر، وغيرها. ومات بآمد فى صفر.
وقام بعده ولده الملك المسعود. وكان ضد اسمه: بخيلا فاسقا. حضره الملك الكامل بعد ذلك فى آمد، ووجد فى قصره خمسمائة امرأة من الحرائر يفترسهنّ، من بنات الناس. فأخذه الكامل إلى مصر، وأحسن إليه.
وكاتب الروم وسعى فى هلاك الكامل. فقبض عليه واعتقله فى الجبّ. ثم أطلقه، فتوجه إلى التتار. وكان معه جواهر كثيرة، وأخت جميلة، فقتله التتار، وأخذوا ما معه.
وفيها، فى العشر الأول من ذى الحجة، توفى الشيخ القدوة العارف:
أسد الشام عبد الله اليونانى «1» صاحب الكرامات المشهورة والرّياضات والمجاهدات. وكان- رحمه الله ورضى عنه- لا يقوم لأحد من الملوك ولا لغيرهم، تعظيما لله تعالى، ويقول: لا ينبغى القيام لغير الله تعالى.
وكان لا يمسّ بيده درهما ولا دينارا، ولا يلبس غير الثوب الخام، وقلنسوة
من جلد الماعز. ويبعث إليه بعض أصحابه فى الشتاء بفروة قرظ «1» ؛ يلبسها، ثم يؤثر بها إذا اشتد البرد. وكان إذا لبس ثوبا قال: هذا لفلان وهذا لفلانة، يوعد به ويعطيه إذا أتاه غيره.
وكان من خبر وفاته أنه دخل الحمام فى يوم الجمعة واغتسل، ولبس ثوبيه، وكان قد سمّاهما لا مرأتين، وصلى الجمعة بجامع بعلبك وهو صحيح. وجاءه داود المؤذّن وكان يغسل الموتى، فقال له: ويحك يا داود، انظر كيف تكون غدا! فلم يفهم. ثم صعد الشيخ المغارة، وكان قد أمر الفقراء أن يقطعوا الصخرة التى عند الّلورة، التى كان ينام تحتها ويجلس عندها، وعندها قبره. فنجّزت فى نهار الجمعة، وبقى منها مقدار نصف ذراع. فقال لهم: لا تطلع الشمس إلا وقد فرغتم منها.
وبات فى ليلة السبت، وهو يذكر أصحابه ومعارفه، ويدعو لهم حتى طلع الفجر. فصلى بهم الصبح، وخرج إلى صخرة كان يجلس عليها، فجلس وبيده سبحة. وقام الفقراء ليكملوا حفر الصخرة، فطلعت الشمس وقد فرغوا منها، والشيخ قاعد وبيده السّبحة. وجاء خادم من القلعة إليه فى شغل، فرآه نائما، فما تجاسر أن يوقظه. فجلس ساعة، فلما طال مجلسه قال لخادم الشيخ: يا عبد الصمد، ما أستطيع أن أقعد أكثر من هذا. قال عبد الصمد: فتقدمت إليه، وناديته: سيّدى سيّدى! فما تكلم.
فحركته، فإذا هو ميت! فارتفع الصياح.