الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غايته خمسة عشر ذراعا ونصف ذراع. فعدم الناس القوت، وأكل بعضهم بعضا، وأكلوا أولادهم والميتة. وخرج خلق كثير من الديار المصرية إلى الشام والسواحل.
وحكى ابن جلب راغب «1» فى تاريخ مصر: أنه نودى على دجاجة، تزويد فيها إلى أن بلغت ألف درهم ورقا. وبيعت بطيخة بفرس. قال:
وكانت الدّجاجة تباع بالأوقية. وحكى- أيضا- أن بعض الناس سمع صياح امرأة، تفتر ثم تعاود الأنين والصراخ! فتتبع الصوت، حتى انتهى به إلى منزل وفيه امرأة سمينة ملقاة، وشاب يقطع من لحم فخذها. فلما راتهم قالت: لا تعارضوه فإنه ابنى، وأنا قلت له يقطع من لحمى، ويأكل ويطعمنى، مما آلمنا من الجوع! ولم يسمع بمثل هذا.
ذكر وفاة القاضى الفاضل وشىء من أخباره
هو القاضى الفاضل الأسعد محيى الدين، أبو على عبد الرحيم، بن القاضى الأشرف أبى الحسين على بن الحسن، بن الحسين بن أحمد، بن الفرج «2» بن أحمد، اللّخمى- الكاتب. كانت وفاته فجأة فى ليلة الأربعاء، السابع من شهر ربيع الآخر، سنة ست وتسعين وخمسمائة.
ومولده بعسقلان فى خامس عشر جمادى الآخرة، سنة تسع وعشرين وخمسمائة.
وكان أبوه قاضى عسقلان «1» ، وصاحب ديوانها. ونسبته إلى بيسان نسبة انتقال. وذلك أن قاضى عسقلان كان قاضى البلاد الشمالية من ساحل الشام، وبيسان «2» فى ولايته. وكان إذا خرج إليها قاض لحقه من الوخم ما يوجب مرضه، ومنهم من يموت. فقرر قاضى عسقلان على الشهود أن يخرج كلّ واحد منهم إلى بيسان ثلاثة أشهر، ويعود، ويخرج غيره. فجاءت النّوبة لحد القاضى الفاضل «3» ، فمضى إليها وصح بها جسمه. فاختار الإقامة بها. فأجيب إلى ذلك وعمر بها أملاكا، فعرف بالبيسانى.
ثم تقلبت بوالد القاضى الأحوال إلى أن ولى القضاء بعسقلان، والنظر فى أموالها. وبقى إلى زمن الظافر «4» ، فدخل إلى مصر لمحاققة واليها «5» بسبب كند كبير «6» ، من الفرنج كان الوالى داجى عليه وأطلقه. فانتصر
بعض الأمراء للوالى ونصروه، فخانق الأسعد «1» . وصودر، ووقع التحامل عليه، إلى أن لم يبق له شىء.
وخرج ولده الفاضل إلى ثغر الإسكندرية، واجتمع بابن حديد- القاضى والناظر بها- وعرّفه بوالده فعرفه بالسّمعة، فاستكتبه ابن حديد، وأطلق له معلوما. وبقيت كتبه ترد إلى مجلس الخلافة بخط الفاضل وهى مشحونة بالبلاغة. فكشف عن ذلك ابن الخلّال والجليس بن الحبّاب- وكانا فى ديوان المكاتبات- فحسداه على فضيلته، وعلما أنه يتقدم، فقالا للظافر عنه: انه قصّر فى المكاتبة.
وكان صاحب ديوان المجلس- الأثير بن بنان- يحكى أنه دخل على الظافر، فأمره أن يكتب لابن حديد بقطع يد كاتبه، بسبب أنه جعل بين السطرين الأولين مقدار شبر، وهذا سوء أدب، فقال الأثير للظافر: يا أمير المؤمنين، تأمر بإحضار الكتب، فأحضرت. فلما قرأها الأثير علم فضل الفاضل، فقال له: هذا الكاتب لم يحصل منه سوء أدب، وانما حسد على بلاغته، فعمل على أذاه. فقال: اكتب لابن حديد يسيره إلينا،
لسنتخدمه. فصار من كتاب الدّرج «1» ، فى أواخر الدولة العبيديّة «2» .
وأما اتصاله بملوك الدولة الأيوبية فحكى عن الأثير بن بنان أنه قال:
لما ولى أسد الدين شيركوه اختص به ابن الصقيل البلنسى «3» . وكنت بالقصر أنا والفاضل، فدخل علينا ابن الصقيل وقال: كنت البارحة عند السلطان، وذكركما وتوعّدكما بالقتل. ثم خرج من عندنا. فلم يكن بأسرع من أن طلبنا أسد الدين من العاضد، فأرسلنا إليه.
قال الأثير: فلما دخلنا عليه وجدنا الأمراء عنده. فسلمت سلاما سمعه من حضر، فلم يرد علينا! فقلت له: ولم لا ترد السلام؟ فالتفت إلىّ، وقال: لستما عندى من أهل السلام! لأن النبى صلى الله عليه وسلم يقول:
السلام تحية لملّتنا، وأمان لذمتّنا. ولا تحية لكما عندى! فوقفنا، فقلت:
لا قدرة لى على القيام، فقال أجث، فجثوت. ثم قلت ولم لا أتربع؟
ففسح لى فى ذلك. قلت: وصاحبى. قال: وصاحبك.
ثم التفت إليه دونى، وقال له: تكتب للفرنج، على لسان شاور، وتقول فى حقنا ما قلت، وتحثهم على قتالنا! والله لأقتلنك شرّ قتلة، ولأسلّن لسانك، ولأقطعنّ يدك ورجلك، من خلاف!! فقلت: أدام الله سلطان مولانا. هذا القاضى إذا عدم، لا يوجد مثله فى جميع البلاد. فالتفت إلىّ، وقال: نجرّب قولك. وقال له: أكتب كتابين: أحدهما للمولى نور الدين بن زنكى، يقرأ على منبر دمشق يهنّيه بالفتوح، وكتاب يقرأ على منبر القاهرة. واشتغل فى الحديث. فسارع الفاضل فى نجاز «1» الكتابين، وجعل أسد الدين يسارقه النظر، والفاضل يكتب كأنه يكتب من حفظه. وفرغ منهما إلى أسرع وقت. فقال أسد الدين: أقرأهما، فقرأهما. قال الأثير: والله لو حسن الرقص فى ذلك المكان، لرقصت!.
فعند ذلك التفت إلىّ أسد الدين، وقال: يا قاضى، جزاك الله خيرا فى حقه. عندنا كتبة بالشام نأمرهم بالشىء، فيمضون ويقيمون اليوم واليومين، ولا يأتون به على الغرض. وهذا قلنا له كلمتين، كتب هذه الكتب التى لا نظير لها. وأقمنا عنده إلى صلاة المغرب، فقام للصلاة. فقال لى: تقدم. فقت: هذا أفضل منى، لأنى توليت المكوس «2» ، وهذا لم يل شيئا منها. فتقدم الفاضل وصلّى. واتصل به. هذا ما نقل عن الأثير بن بنان.
وقيل: إنه لما اتصل بخدمة الملك الناصر صلاح الدين، وأن الأثير كان يكتب بين يديه قبله، فاشتكى من بطئه فى المكاتبات، فقيل له: إن الأسعد البيسانى لم يكن فى الكتاب أرشق منه. فاستدعاه وأمره بكتاب، فكتب بين يديه وبالغ فيه، وأسرع فى نجازه وقرأه عليه. فعظم عند الملك الناصر، ونعته بالقاضى الفاضل. وكان له شعر حسن.
وقيل: إن أول اتصال الفاضل بالدولة العبيديّة فى أيام العادل بن الصالح ابن رزّيك «1» . وأنه استخدم فى ديوان الجيوش، فأقام فيه مدة.
فلما كانت دولة شاور الثانية، نقله إلى ديوان المكاتبات شريكا للموفّق بن الخلّال. فلم يزل إلى أيام أسد الدين، فاتفق له ما ذكرناه.
ولما استقرّ الملك الناصر فى الملك، علت منزلته عنده، واختص به وقرب منه، وتمكن فى دولته. قال: ومن سعادة الفاضل أنه مات قبل ملك العادل، لأنه كان بينهما شحناء باطنة. ولما مات، صلىّ عليه الملك الأفضل. ودفن بسفح المقطم- رحمه الله. وقد ذكرنا من كلامه فى باب كتابة الإنشاء ما يدل على تمكنه وفضله.