الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستهلّت سنة أربع وخمسين وستمائة:
ذكر تفويض قضاء القضاة بالديار المصرية للقاضى: تاج الدين عبد الوهاب بن القاضى الأعز خلف
فى هذه السنة، فوّض السلطان- الملك المعز- قضاء القضاة بمصر والوجه القبلى، لقاضى القضاة: تاج الدين عبد الوهاب، بن القاضى الأعزّ خلف، بن محمود بن بدر العلامى «1» - وهو المعروف بابن بنت الأعزّ.
وكتب له تقليد شريف معزّى، تاريخه تاسع شهر رمضان. وكان ذلك جاريا «2» فى ولاية قاضى القضاة: بدر الدين يوسف السّنجارى.
فاستقر القاضى بدر الدين- قاضى القضاة- بالقاهرة والوجه البحرى.
ثم فوّض ذلك، فى بقية هذا الشهر، لقاضى القضاة تاج الدين- المشار إليه- بتقليد تاريخه لثمان بقين من شهر رمضان من السنة. فكمل له بهذه الولاية قضاء القضاة بالمدينتين، والعملين القبلى والبحرى، وسائر أعمال الديار المصرية. وعزل قاضى القضاة: بدر الدين السّنجارى عن القضاء.
وقد شاهدت تقليدى قاضى القضاة تاج الدين. ونسخة التقليد الأول- بعد البسملة، ومثال العلامة المعزية:- «حسبى الله. الحمد لله مقيم منار الشريعة الهادية، وناشر أعلامها.
ورافع محلّها على الشرائع ومعلى مقامها. وهادى الخليقة إلى اتباع أقضيتها وأحكامها. وناصر دينه باتّساقها وانتظامها. ومشيد أركانها بصالحى أئمّتها وحكامها، وجاعلهم أئمة يهدون بأمره فى نقض الأمور وإبرامها. وصلّى الله على سيدنا محمد، خاتم الرسل وإمامها. ومنير الملّة بعد إظلامها. وعلى آله وأصحابه، نجوم سماء المعارف وبدور تمامها- صلاة لا تنقطع مادة دوامها، ولا يأتى النّفاد على لياليها وأيامها.
أما بعد. فإنا لما فوّض الله إلينا من أمور بريّته، واستحفظنا إياه من تدبير خليقته، وآتانا بقدرته من اليد الباسطة، وجعلنا بينه وبين عقد خلقه الواسطة، ومنحناه من السلطان والتّمكين، وخصّنا به من الفضل المبين- لا نزال من حسن التدبير فى تصعيد وتصويب، ومن مصالح الإسلام فى تمهيد وترتيب، ومن الرأى الأصيل فى خبب وتقريب «1» ، عالمين بأن الله تعالى يسأل كلّ راع عما استرعاه، وكلّ ساع عما سعاه، ويحاسبه عليه يوم رجعاه، ويجد عمله مكتوبا مسطّرا، وتجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا- وكان أولى الأمور بالنظر، وأحقّها أن يصان صفوها عن الكدر،
منصب الشريعة، الذى هو ملاك الدين وقوامه، وانتظام الإسلام والتئامه، والطريق التى فرض الله اتباعها على خلقه، والسبيل التى من فارقها فقد خلع ربقة «1» الإسلام من عنقه-.
ارتدنا لهذا المنصب الشريف من يرعاه ويصونه، وتجرى على يده حياطته وتحصينه. ونظرنا فيمن يقع عليه سهم الاختيار، ويظهر جوهره الابتلاء والاختبار. فكان المجلس السامى القاضى الأجلّ، الإمام الصدر، الفقيه الكبير العالم العامل الفاضل، الأعزّ المرتضى، الورع الكامل المجتبى، الأشرف السعيد، تاج الدين جلال الإسلام، مفتى الأنام، شمس الشريعة، صدر العلماء، قاضى القضاة، سيد الحكام، خالصة أمير المؤمنين: عبد الوهاب بن القاضى الأجل، الفقيه العالم الأعز، أبى القاسم خلف- أدام الله تأييده وتمكينه، ورفعته وتمهيده، وقرن بالنّجح قصوده- طلبتنا المنشودة، وإرادتنا المقصودة. لما جمع الله فيه من الخلال الفاخرة، والديانة الجامعة لخير الدنيا والآخرة، والعلم الذى أمسى به للهداة علما، وعلى أئمة وقته مقدّما. وأصبح كل مانع إليه مسلّما. وراح بقداح الفضائل فائزا، ولكنوز العلوم الشريفة حائزا. فهو فقيه مصره، لا،
بل فقيه عصره. وبكّار «1» زمانه علما وورعا، وسوّار «2» وقته تقمّصا بالتقوى وتدرّعا.
قدّمنا خيرة الله تعالى، وولّيناه قضاء القضاة وحكم الحكام، بمصر المحروسة، وجميع الوجه القبلى: من البرّين الشرقى والغربى، إلى منتهى ثغر عيذاب «3» ، وما يجاوره- من حدود مملكتنا، وبلاد دعوتنا، وجميع ما فى هذه الولاية من المدارس وأوقافها، وكلّ ما كان فى نظر القاضى الفقيه شرف الدين بن عين الدولة- رحمه الله من ذلك، وما استجدّ بعده، واستقرّ فى نظر الحكام. وفوّضنا إليه ذلك التفويض التام. وبسطنا يده فى الولاية والعزل. وحكّمناه فى العقد والحلّ. فليستخر الله فى تقلّد ما قلّدناه، وقبول ما فوّضناه إليه ورددناه. وليحكم بين الناس بما أراد الله. فإن قبول ذلك يجب عليه وجوبا، لما يتحقق أن الله يجريه فى أحكامه، ويقدّره فى أيامه، من حياطة الدين ومصالح المسلمين.
وإذا احتاج الحكّام وولاة الأمور إلى وصايا يطال فيها ويطنب، ويبالغ فى توكيدها ويسهب- وجدناه غنيّا عن ذلك، بما سنّاه الله له ويسّره، وخلقه من كماله وقدّره، ومثله لا يوصّى، ولا يستوعب له القول ولا يستقصى. والله تعالى يرقّيه إلى درجات الكرامة، ويجعل فيما فوّض صلاح الخاصّة والعامّة والاعتماد فيه على العلامة الشريفة، السلطانية الملكية المعزّيّة- زاد الله علاها وشرفها، إن شاء الله عز وجل. كتب فى التاسع من شهر رمضان، سنة أربع وخمسين وستمائة. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيّبين الطّاهرين، وسلم تسليما كثيرا. وحسبنا الله ونعم الوكيل» .
ونسخة التقليد الثانى:
«الحمد لله، كافل المزيد لمن شكره، ورافع الدرجات لمن أطاعه فيما نهاه وأمره، وهادى أمّة الحق إلى السبيل الذى يسّره، وشرعه الذى ارتضاه لدينه وتخيّره. وجاعل العلماء ورثة أنبيائه، فيما أباحه من الأحكام وحظّره.
أحمده حمدا لا يحصى عدده. وأشكره شكرا يتجدّد كلما طال أمده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، شهادة تستنفد الإمكان. ويشهد بالإخلاص فيها الملكان-. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذى اصطفاه وانتخبه. وفرض اتباعه على خلقه وأوجبه. وبعثه رسولا فى الأميّين. وأرسله رحمة للعالمين.
ونصب شريعته سبيلا منجّيا. وطريقا إلى الرسل مؤدّيا. وشرف رتبتها وعظّمها. وأعلى قدر من رقى ذروتها وتسنّمها- صلى الله عليه- ما تعاقب شمس وقمر. وذكر مبتدأ وخبر وجرى بالكائنات مشيئة وقدر.
وعلى الأنبياء الذين أخلصهم بخالصة ذكرى الدار، وجعلهم من المصطفين الأخيار. وعلى آله أولى الأيدى والأبصار. وأصحابه المهاجرين والأنصار. صلاة دائمة الاستمرار. باقية على تعاقب الليل والنهار.
أما بعد، فإن الله. تعالى- جعل شريعة نبيّه صراطا متّبعا وطريقا مهيعا «1» ومحلّا مرتفعا. وأنزل بتعظيمها قرآنا، وجعلها بين الحق والباطل فرقانا. فقال مخاطبا لنبيّه- تنبيها وتعليما، وتبجيلا لقدرته وتعظيما: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ، لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. وعظّم قدر العلماء فى آياته المحكمات، وكلماته البيّنات، فقال عز وجل: يرفع الله الذين آمنوا منكم، والذين أوتوا العلم درجات.
فتعيّن بذلك على ولاة الأمور، من الاجتهاد المأثور، أن يتخيّروا لهذا المنصب الشريف، من الولاة: من هو أجلّهم علما. وأعدلهم حكما، وأنفذهم فى الحقّ سهما. وأضواهم حسّا، وأشرفهم نفسا، وأصلحهم يوما وأمسا. وأطهرهم وأورعهم. وأجداهم للإسلام وأنفعهم.
وكنا قد مثلنا كنانة «2» العلماء بمصرنا، فعجمنا عيدانها. واختبرنا أعيانها. فوجدنا المجلس العالى: القاضى الأجلّ، الصدر الكبير، الإمام
العالم العامل. الزاهد العابد، الكامل الأوحد، المجتبى المؤيد الأعز الأسعد، تاج الدين جلال الإسلام، ضياء الأنام، بهاء الملّة، شمس الشريعة سيد الحكام، قدوة العلماء: يمين الملوك والسلاطين، قاضى قضاة المسلمين، خالصة أمير المؤمنين: عبد الوهاب، بن القاضى الفقيه، الأجلّ الأعز، أبى القاسم خلف- أدام الله تأييده وبسطته، وتمكينه ورفعته- قد زادت صفاته على هذه الصفات، وأوفت عليها أتمّ الموافاة.
واختبرنا منه رجلا، لو عرضت عليه الدنيا لم يردها. ولو صوّر نفسه لم يزدها. ووقع على سيادته إجماع الحاضرين والبادين، والمسودين والسّائدين. وشهدوا بها، ونحن على ذلك من الشاهدين.
ففوّضنا إليه ما فوّضناه: من قضاء القضاة بمصر المحروسة، والأقاليم القبلية، وما معها. والأوقاف والمدارس وما جمعها- الجارية فى نظر الحكم العزيز. ثم تجدّد لنا نظر يعمّ المسلمين شانه، ومنظر يرمقهم بالمصالح إنسانه. وعلمنا أن هذه الولاية بعض استحقاقه، وأنها قليلة فى جنب نصحه للمسلمين وإشفاقه. وأن صدره الرحيب لا يضيق بأمثالها ذرعا، ولا يعجز- بحمد الله- أن يرعيها بصرا من إيالته وسمعا. إذ كان قد.
أحيى بها السّنّة السّلفيّة، وأظهر أسرار العدل الخفيّة. وزاد الحقّ بنظره وضوحا، والمعروف دنواّ والمنكر نزوحا- رأينا أن نجمع إليه قضاء القضاة بالقاهرة المعزية والوجه البحرى، وما كان يتولاه من قبله، من أوقاف البلاد ومدارسها، وربطها ومحارسها، ومنابت العلوم ومغارسها.
وقد أكملنا له بذلك قضاء القضاة بجميع الديار المصرية: أرجاء وأكنافا، ومداين وأريافا، وأوساطا وأطرافا. وجعلناه الحاكم فى أقضيتها،
والمتصرف فى أعمالها ومدانيها. وأقاصى بلادها وأدانيها. وأطلقنا يده فى أحكامها، وما يراه من تولية وعزل لحكّامها. والنظر فيما كان الحكّام قبله يتولونه من الوقوف. وهو غنىّ أن يوصّى بنهى عن منكر أو أمر بمعروف. لما فيه من صفات الكمال، وشريف الخلال. ولم نستوف وصية فى عهدنا إليه ولم نستقصها، واستغنينا عن مبسوط الأقوال بملخّصها- تحقّقا أنه صاحب قياس الشريعة ونصّها.
فليحكم بما فوّضناه إليه، وبسطنا فيه يديه: من الجرح والتّعديل «1» ، والإقرار والتّبديل. والله يوفّقه فيما تولاه قائلا وفاعلا، ويرشده لمراضيه مسئولا وسائلا، ويجعل الصلاح للكافّة به شاملا. ويقرن التقوى بلسانه وقلبه، ويلبسه من السعادة ملبسا لا تتخطّى الخطوب إلى سلبه. ويجعله داعيا إلى الله على بصيرة من ربه. إن شاء الله عز وجل.
«كتب لثمان بقين من شهر رمضان المعظم، من سنة أربع وخمسين وستمائة. بالإشارة العالية الصاحبية، الوزيريّة المولويّة الشّرفيّة، ضاعف الله علاها. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله، وسلّم.
حسبنا الله ونعم الوكيل» .
وكتب الوزير الصاحب شرف الدين الفائزى- على كلّ من هذين التقليدين، تحت خط السلطان فى بيت العلامة، ما مثاله:«تمثيل الأمر العالى- أعلاه الله وشرّفه» .