الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر أخبار السلطان الملك المعظم غياث الدين تورانشاه، بن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، ابن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد، بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد، بن أيوب، وهو التاسع من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية
ملك الديار المصرية والشام، بعد وفاة والده السلطان الملك الصالح وكان مقيما بحصن كيفا «1» ، وما مع ذلك، منذ تركه والده هناك- كما تقدم. فلما مات السلطان، اجتمع رأى الأمراء على إقامته، وجهزوا لإحضاره الامير فارس الدين أقطاى، كما ذكرنا آنفا.
وكان السلطان الملك الصالح، فى مرض موته، قد كتب إلى ولده الملك المعظم هذا كتابا، أسند فيه الملك إليه، واشتمل كتابه على جملة من الوصايا. وقد وقفت على الكتاب المذكور- وهو بخطّ السلطان الملك الصالح بجملته. وقد رأيت أن أشرح ما تضمّنه، لما فيه من الوصايا التى يتعين على الملوك التمسك بها والرجوع إليها، والإعتماد عليها.
ابتدأ السلطان الملك الصالح كتابه هذا- الذى منه نقلت- بأن كتب فى طرّته قبل البسملة: والده أيوب بن محمد «2»
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» *
الولد تورانشاه- أصلحه الله ووفّقه يا ولدى، أنت تعلم ما سبب تأخير طلبك إلا ما أعلمه منك، من الصّبيانية والجرأة وقلة الثبات. والملك ما يحتمل هذا. والوالد ما يشتهى لولده إلا الخير. والخصائل التى أعرفها منك اتركها، يدوم لك الملك. وإن أنت خالفت أمرى وبقيت على ما أعلمه منك، يروح منك الملك. واثبت فى جميع أمورك. وسنّ سيرتى فى العسكر. واترك الأشياء على ما هى عليه: كل أحد متولّى الشغل الذى هو فيه، ولا تحدث حادث.
والوصية بجميع الأمراء، وأكرمهم واحترمهم، وأرفع منزلتهم. فهم جناحك الذى تطيربه، وظهرك الذى تركن إليه. وطيّب قلوبهم، وزيد فى إقطاعهم. وزيد كلّ أمير على [ما] معه من العدّة عشرين فارس. وأنفق الأموال. وطيّب قلوب الرجال، يحبوك وتنال غرضك فى دفع هذا العدو.
ولا تؤاخذ بما جرى فى دمياط، فهذا أمر سماوىّ، ما لأحد فى هذا حيلة.
والأخ فخر الدين بن الشيخ ما عندى من أقدّم سواه، فأكرمه، واحترمه كما تحترمنى. واجعله عندك كالوالد. واسمع قوله ورأيه ولا تخالفه.
واجعل له من العدة مائتى فارس.
يا ولدى: الوصية بأم خليل، فلها علىّ من الحقوق والخدمة ما لا أقدر أصفه، ارعى جانبها وأكرمها واحترمها، وارفع منزلتها، فهى عندى بمنزلة عظيمة. وكنت طيّب القلب بصحبتها، آمنا على نفسى من جهتها، فاجعلها لك مثل الوالدة. واجتهد فى اتصال الراحة إليها، وطيّب
قلبها، واجعلها حاكمة على جميع أمورك وأموالك. ولا يبدو منك كلمة تضيّق صدرها، ولا توجع لها قلبا أبدا، ولا من يتعلق بسببها، ولا من يضيق صدرها بسببه.
ولا تخرج عن رأيها وتدبيرها. وهذه وصيتى فلا تخالف أمرى.
واخدمها كما تخدمنى، واحترمها كما تحترمنى. ولا تجعل على يدها يد.
والوصية بجميع العيال، أحسن إليهم فلهم علىّ خدمة. ولا تقصّر فى حق الصغير منهم والكبير. واحفظ وصيتى، فمتى خالفتنى يروح منك الملك، وتكون عاقّا لى. وكتبت هذه الوصية ولم يطلع عليها أحد، لئلا تضيق صدورهم. وكتبتها فى مدة طويلة.
واعلم يا ولدى أن الملك فى ابتداء ملكه كمثل الشّجرة فى ابتداء طلوعها، فيأتى ريح يهب عليها يحرّكها، وربما يقلعها من أصلها. فإذا مضت عليها الأيام والسنين قوى أصلها، واشتد ساقها، فلا تحركها الرياح العواصف. فاعلم يا ولدى إشارتى، وتنبّه لغرضى. وإن ضاق صدرك من شخص فاحتمله، وأحسن إليه تحسن سيرتك، ويحبّك عدوّك. ولا تعجل بالعقوبة. واعلم أن الناس أعداء لبعضهم البعض، فلا تسمع كلام أحد دون أن تقابل بينه وبين خصمه، ولو أتاك مقطوع اليد. فربما خصمه أسوأ حالا منه. فإذا عرف هذا منك، تقلّ الشّكاوى والرّفاعات «1» ، ويستريخ خاطرك.
والذى أعرّفك به يا ولدى: لمّا نزل العدوّ على زمن الشّهيد «1» رحمه الله على دمياط، ما كان فيها سوى الوالى والكنانيّة، وأهلها حفظوها إلى أن وصل الشّهيد من القاهرة، وعسكر مصر من الشام. وما قدر العدو ينزل برّ دمياط، وما كان فيها ذخيرة شهر واحد.
فلما اختلف العسكر على الشّهيد- رحمه الله وتحزّبوا- مثل ابن المشطوب «2» والأكراد- مع الملك الفائز، غضب الشّهيد، وساق إلى أشموم. وتبعه العساكر، وتركوا جميع الخيم والقماش. وخرج من دمياط من خرج، والوالى.
وما بقى فيها إلا أهلها. وغلّقوها وقعدوا فيها وحفظوها، إلى أن مات أكثر من فيها والباقى تكشّحوا، وخلت الأصوار من المقاتلين. فصعدت الفرنج وأخذتها، بعد أن تعبوا من النّقوب من تحت الأرض، وشربوا بالبتاتى، والزحف عليها من جميع الجهات، وما قدروا يأخذوها.
وأنا قويّت دمياط، وملأتها ذخائر من كل شىء، يكفيها عشرين سنة، مع ما كان عند أهلها من الذخائر. واكشف من الديوان يعرّفوك ما كان فيها من الخيرات. وقويّتها بجميع عسكر الديار المصرية، من فارس وراجل، ونقدى، وما خليت لها عذر، حتى بقيت وحدى فى أشموم بسبب المرض.
فلما أن أقبل العدو وشاهدوه وطلبوا البرّ بالحراريق، انهزموا وسلّموا لهم البرّ، واشتغلوا بالنساء ونقلهم من دمياط، وهربت العوامّ وتبعهم الأجناد.
وكان المقدّم عليهم الأخ فخر الدين ساق خلفهم وردّهم، وجعل على أبواب دمياط كل باب أمير. فلما أصبح، ما وجد فى المدينة أحد. هربوا الكنانية فى الليل، وكسروا الخوخ «1» ونزلوا من السّور، وتركوا أموالهم وذخائرهم نهبوها المسلمين بعضهم بعض. وأخلوا دمياط، حتى أخذتها الفرنج ثانى يوم. وهذا كله بقضاء الله وقدره.. واصبر تنال ما تريد.
وهذا العدو المخذول، إن عجزت عنه، وخرجوا من دمياط وقصدوك، ولم يكن لك بهم طاقة وتأخّرت عنك النّجدة، وطلبوا منك الساحل وبيت المقدس وغزّة وغيرها من الساحل- أعطيهم ولا تتوقّف، على أن لا يكون لهم فى الديار المصرية قعر قصبة.
وإن نزلوا منزلة من تقدّمهم من العدوّ قبالة المنصورة، فرتب العسكر يكونوا ثابتين خلف السّتاير مع البحر، ليل ونهار. فهم ما لهم زحف إلا بالشّوانى «2» ، فقوّوا الشّوانى، كيفما قدرتم. واجهدوا أن يكون بعض الحراريق «3» على بحر المحلّة من خلف مراكبهم، تقطع عنهم الميرة. وهو يكون- إن شاء الله- سبب هلاكهم. فتلك المرّة ما انتصر الشهيد- رحمه الله عليهم إلا من بحر المحلّة.
وتكون العرب مع الخوارزمية مع ألفين فارس بينهم وبين دمياط.
واستخدم، الفارس والراجل. وأنفق الأموال ولا تتوقف. وإن كان الشّرق لا ينجدوك لأجل الناصر وإسماعيل، واشترطوا أن تردّ عليهم بلادهم، ورأيت الغلوبيّة، ولا بدّ من ذلك وإلا ذهب الملك- فالضرورات لها أحكام.
إعلم- يا ولدى- أن الديار المصرية هى كرسىّ المملكة، وبها تستطيل على جميع الملوك. فإذا كانت بيدك، كان بيدك جميع الشّرق. ويضربوا لك السّكّة والخطبة.
فاتّفق أنت والأخ فخر الدين، وأرضى الناصر «1» بما يطيب به قلبه.
فالناصر ما أخرجه من يدى إلا تغيّرى عليه، بسبب أوراق كانت تصل إلىّ عنه أنه فعل وصنع. وكشفت عن ذلك، ما رأيت لها صحّة. فلما انقطع رجاه منىّ لتغيّرى، استند إلى إسماعيل وابن ممدود، وجرى منهم ما جرى.
كل ذلك من إسماعيل وابن ممدود، وهو يشاركهم فى جميع ما يفعلوه.
وأما الذى فعله معى على نابلس فما كان إلا مصلحة عظيمة، أنا أشكره عليها. طلع بى الكرك إلى أن ذهبت أيام القطوع. لولا ذلك أخذنى إسماعيل «2» ، لأنه ضيّق علىّ أرض الشام بالعسكر فى طلبى، فما فعل فى حقى إلا خير. فهو كان السبب فى خروجى، فى الوقت الذى كان قدّر الله بتوجهى فيه إلى الديار المصرية بالملك. فلا يضيع له هذا القدر.
وكنت نويت له كلّ خير. فإن حصل بينكما اتّفاق، وصفت نيّته فى محبتك، ووفى لك باليمين، فخاطرك به مستريح فى أمر الساحل. فما ذنوبه عندى ذنوب إسماعيل، الذى بارزنى، وأخذ منّى دمشق، واعتقل ولدى، وفعل فى حقّى ما فعل، وأعطى الساحل والحصون التى فيه لعدوّ الدّين، واستعان بالكفر «1» علىّ، وعلى أخذ بلادى. فارضيه بشىء يستعين به: بصرى مع السّواد، ولا تعطى له قلعة بعلبك. وتحسن إلى أولاده وأهله، وينفذوا إليه. فالله يقابل المسىء، ويجازى المحسن وأطلق المحتبسين كلهم، إلا من كان له تعلّق فى قبض عمك، أو مفسد فى الدولة.
فإن قدّر الله لك بالنصر على هذا العدوّ المخذول «2» ، وأخذت دمياط- إن شاء الله تعالى- ابنى باشورة «3» تكون طول قامة، وبسطة بشراريف، ومرامى من فوق وأسفل، وتكون الباشورة عرّض يتمكّن القتال عليها، إما بالحجر أو بالطوب الأحمر، ويكون لها سلالم، بين كل سلّم وسلّم ثلاثين خطوة. تعمل هذه الباشورة من قبالة برج السّلسلة، قريب من الماء البحر إلى البرزخ، إلى المكان الذى نزلوا فيه الفرنج، وفوق منه بثلاث رميات نشّاب. ومن آخر هذه الباشورة تحفر خندق، من البحر المالح إلى البحر الحلو، مثل ما حفره الشّهيد «4» تلك المرّة، بحيث إذا جاء العدو
لا يقدر على الماء الحلو، ولا يبقى له منزلة ينزل فيها. وبين كل سلمين لعبتين يرموا بالحجارة، والعسكر تقاتل من على الباشورة والمنجنيق والرّماة ترمى من خلف الباشورة من المرامى، ما يقدر أحد يقرب البر. وعجبت كيف غفل عن هذا الشهيد- رحمه الله وعمل قلعة.
فهذه الباشورة فيها ألف مصلحة قسّطها على الأمراء وعلى بيت المال والأسرى الفرنج تعمل فيها. واجتهد فى عملها تأمن على دمياط وتستريح وإن لم يخرج العدوّ من دمياط وتطاول الأمر ينتظروا نجدة تصل إليهم، ازحف عليهم من برّ دمياط ومن برّ البرزخ، بالفارس والراجل وبالشّوانى من البحر، لعل أن تملكوا برّ البرزخ. فإذا ملكتوه ملكتم فم البحر، ومنعتوا أن يدخل إليه مركب، أو يخرج.
ويا ولدى: قلّدت إليك أمور المسلمين، فافعل فيهم ما أمرك الله به ورسوله. يا ولدى إياك والشّرب، فإن جميع الآفات ما تأتى على الملوك إلا من الشّرب. ولا تخالفنى تندم، وتدخل عليك العارض «1» . فما يسقيك إلا من تأمن إليه، ولا يدخل عليك العارض إلا من القريب. يا ولدى:
وامنع المسلمين والنصارى أن يعصروا الخمر. وطهّر العساكر من القحاب، والمدن. ولا تجلس مع من يشرب، فيزين لك الشيطان فتشرب، فتكون قد خالفتنى، وتدخل عليك العارض. وأنا قد جرّبت الأشياء ووقعت فيها، وتحقّقت الخطأ من الصواب، وندمت وقت لا ينفع الندم. فاجتنب يا ولدى ما حذّرتك منه. فقد أخبرك مجرّب صادق، مشفق عليك
وانظر يا ولدى فى ديوان الجيش. فهم الذين أفسدوا البلاد وأخربوها- وهم النّصارى- أضعفوا العساكر، وكأن البلاد ملكهم يبيعوها بيع. إذا كتب منشور لأمير يأخذوا منه المائتين وأكثر، ومن الجندى من المائة ونازل. ويكون الجندى خبزه «1» ألف دينار يفرقوا خبزه فى خمس ست مواضع: فى قوص وفى الشرقية وفى الغربية، فيريد الجندى أربع وكلاء، يروح الخبز للوكلا. ومتى يحصل للجندى من خبزه شىء، إذا كان مثلا فى بيكار «2» ويقاسى العليقة بثلاثة نقرة «3» ، كيف يكون حاله؟ يخرب بيته ويهلك! فهذا سبب هلاك الجندى. والنصارى يقصدوا هذا، لخراب البلاد وضعف الأجناد، حتى تروح منا البلاد. وجندى يحصل له وجندى ما يحصل له شىء أصلا.
تردّ عبرة البلاد «4» إلى ما كانت عليه فى زمن صلاح الدين- رحمه الله. والجندى لا يكون خبزه مفرّق، بل فى موضع أو موضعين قريبين.
فتعمر البلاد ويقوى الجندى ويقوى الفلاح. فإذا كانوا جماعة فى بلد، وكل أحد يخرب من ناحية ويجور المقطعين على الفلّاحين، تخرب البلاد. وهذا كله فعل النصارى.
وبلغنى أنهم بعثوا إلى ملوك الفرنج فى الساحل فى الجزائر، وقالوا لهم.
أنتم ما تجاهدوا المسلمين، بل نحن نجاهدهم الليل والنهار، بأخذ أموالهم ونستحلّ نساهم، ونخرّب بلادهم ونضعف أجنادهم. تعالوا خذوا البلاد، ما تركنا لكم عاقة. فالعدوّ معك فى دولتك- وهم النصارى. ولا تركن لمن أسلم منهم ولا تعتقد عليه، فما يسلم أحد منهم إلا لعلّة، ودينه فى قلبه باطن كالنار فى الحطب! يا ولدى، أكثر الأجناد اليوم عامّة، وباعة وقزّازين: كل من لبس قباء «1» وركب فرس، وجاء إلى أمير من هؤلاء الترك، وقدم له فرس، ويبرطل نقيبه وأستاذ داره «2» على خبز جندى، من جندى معروف بالشجاعة والحرب- طرده أميره، وأعطى خبزه لذاك العامى الذى لا ينفع وأكثرهم على هذه الحالة. فإذا عاينوا العدو وقت الحاجة هربوا، وينكسروا العسكر. لأنهم ما يعرفوا قتال، ولا هو شغلهم. فينبغى أن لا يستخدم [إلا] من يعرف يلعب بالرمح على الفرس، ويرمى بالنّشّاب والأكرة، وتظهر فروسيته- حينئذ يستخدم.
واحفظ يا ولدى ما أقوله لك، فهذا جميعه ما عرّفنى به إلا الأخ فخر الدين، وأخبرنى أنه وقف على كتاب بخط صلاح الدين، أن الفيّوم وسمنّود والسواحل والخراج للأسطول. فالأسطول أحد جناحى الإسلام.
فينبغى أن يكونوا شباعا. ورجال الأسطول إذا أطلق لهم كل شهر عشرين
درهم مستمرة راتبه، جاءوا من كل فجّ عميق، ورجال معروفين بالقذف والقتال. وإنما تجو «1» وقت الحاجة تقبضوا ناس مستورين لهم أطفال وبنات، وهو الذى يطعمهم ويسقيهم، تأخذوه فى الأسطول ولا ينفع، تموت أطفاله بالجوع، ويدعو علينا! كيف تنتصر على العدو؟! وتأخذوا إلى البحر عند قبض الأسطول كل يوم ألف دينار، لأنه يقبض من الصبح إلى المغرب، مساتير وبياعين وأرباب معايش، يجو أهاليهم إلى بيت الوالى، كل أحد يزن الذهب ويخلّص نفسه «2» . والفقير الذى ماله قدرة تحدّروه فى المراكب. فقد نبّهت الولد على هذه الأشياء. والأخ فخر الدين عرفنى بهذه الأحوال جميعها. فاسمع ما بقوله لك.
الولد يتوصّى بالخدام: محسن ورشيد والخدام المقدّمين، لا تغيرهم. فما قدّمت أحد من الخدام ولا من المماليك إلا بعد ما تحققت نصحه وشفقته. وأستاذ الدار وأمير جاندار تتوصى بهم. وكذلك الحسام لا تغيرهم. فإنى أعتمد عليهم فى جميع أمورى.
القيمريّة «3» ، الولد لا يسمع كلام بعضهم فى بعض. وناصر الدين عند كذب وخبث. وما باطنه جيّد. وقد عرّفت الأخ فخر الدين الرّسل الذى مسكوا من دمشق إلى حلب من عنده. والحسام يكون بمفرده لا حلّ ولا ربط. وضيا الدين القيمرى، إن احتاجوا إلى أن يخرج عسكر إلى جهة من الجهات، يكون مقدّم. وناصر الدين أرجل لا يخرج مع عسكر.
وسيف الدين القيمرى تعمل معه ما يقرّر مع الأخ فخر الدين، يكون مقدّم العسكر فى دمشق. وابن يغمور مشدّ «1» ، وناصر الدين على المظالم. فابن يغمور يصلح يكون مشدّ ووالى وجابى الأموال، ولا يصلح يكون مقدّم على عسكر، ولا يصلح لجنديه. ولا تؤمن إليه كل الأمن. بل تمشّى به الحال فى مكان مدة، ثم ينقل إلى غيره. وهو بالكتّاب أليق.
وكذلك قرائب فخر الدين عثمان كلهم لا يصلحوا لجندية. ابن العزيز الرأى عندى أن تؤخذ جماعته، ويبقى هو ومماليكه بمفردهم، ويقطع له ولمماليكه، وحاشيته ودوره، ما يقوم بهم من خاصة. فالأخ فخر الدين يعرف ما جرى منه، فهو نحس مفسد مخسخس. وقد عرف الأخ فخر الدين حاله وما جرى منه فى دمياط وغير دمياط، فما يصلح لصالحة.
متولّى ديوان الأحباس «2» اصرفه. وولىّ ابن النّحوى، فقد سألنى المتصدرين ذلك. وطرائق بن الجباب غير صالحة. والوكيل اصرفه. وولىّ ابن الفقيه نصر، فهو رجل جيّد فقيه عنده خوف من الله.
وقد عيّنت فى ورقة عند الأخ فخر الدين عشرين من المماليك تقدّمهم، تعطى لكل واحد كوس «3» وعلم، وتحسن إليهم.
وتتوصّى بالمماليك غاية الوصية. فهم الذى كنت أعتمد عليهم، وأثق بهم. وهم ظهرى وساعدى. تتلطّف بهم، وتطيّب قلوبهم، وتوعدهم بكل خير. ولا تخالف وصيتى. ولولا المماليك ما كنت قدرت أركب فرس، ولا أروح إلى دمشق، ولا إلى غيرها. فتكرمهم وتحفظ جانبهم.
فهذه وصيتى إليك، فاعمل بما فيها ولا تخالف وصيتى. وكل يوم طالعها، واقف عليها. ولا تعمل شىء دون أن تشاور الأخ فخر الدين. والله يقدر بما فيه الخير- إن شاء الله تعالى.
يا ولدى، إن ألزموك- الحلبيين- أن تدفع الكرك «1» إلى الناصر، فأعطه الشّوبك. وإن لم يرض زده من الساحل، حتى يرضى. ولا تخرج الكرك من يدك. الله الله احفظ وصيتى. فلا تعلم ما يكون من هذا العدو والمخذول، لعله- والعياذ بالله- أن يتقدم إلى مصر يكون ظهرك الكرك، تحفظ فيه رأسك وحريمك، فمصر ما لها حصن. ويجتمع عندك العسكر وتتقدم إليهم، تردهم عن مصر. وإن لم يكون لك ظهر مثل الكرك، تفرقت عنك العساكر. وقد عزمت أن أنقل إليها المال والذخائر والحرم، وكل شىء أخاف عليه، واجعلها ظهرى. والله ما قوى قلبى واشتد ظهرى، الا لما حصلت فى يدى.
الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد نبيه- وآله وصحبه- وسلامه هذا آخر ما تضمنه كتاب الوصية. وقد نقلته بنصّه وهيئته- على ما فيه من لحن فى بعض ألفاظه، ونقص ألفات فى بعضه.
ولم يعتمد الملك المعظم ما أوصاه به، ولا رجع إليه ولا عرّج عليه، بل خالفه فى جميع ما تضمنته وصيته. وكان من أمره، وزوال ملكه، ما نذكره.
ولنرجع إلى سياقة أخبار الملك المعظم:
قال: ولما وصل إليه الأمير فارس الدين، وهو بحصن كيفا، رحل وسلك البرّيّة «1» . وأخفى أمره عن الملوك المجاورين له. خشية من غائلتهم.
وترك بالحصن ولده الملك الموحد، وسار حتى انتهى إلى دمشق.
فكان وصوله إليها فى يوم السبت، سلخ شهر رمضان، سنة سبع وأربعين وستمائة. وعيّد بها عيد الفطر. وخلع وأنعم على الأمراء، وأقرّ الأمير جمال الدين موسى بن يغمور على النّيابة بدمشق. وأفرج عن كل من كان فى حبس والده. قال أبو المظفر: وبلغنى أنه كان بدمشق ثلاثمائة ألف دينار، فأخذها صحبته، وتجهز إلى الديار المصرية وكان رحيله من دمشق فى الخامس والعشرين من شوال، منها. وكان سبب تأخره بدمشق، هذه المدة، أن الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ كان قد سيّر إليه جماعة من المماليك الصالحية. يستحثه على سرعة الحضور فأوهمه بعضهم أن فخر الدين حلّف العساكر لنفسه. وأنه متى حضر قتله، واستقلّ بالأمر. فأنفق الملك المعظم الأموال بدمشق. واستحلف العساكر.
وحلّف المماليك الذين حضروا من جهة الأمير فخر الدين، على قتل فخر الدين. فحلفوا له. فاتفق قتل فخر الدين قبل وصول الملك المعظم، كما تقدم.
وجهز الملك المعظم كاتبه- معين الدين، هبة الله بن أبى الزّهر حشيش- إلى قلعة الكرك، فى مستهل ذى القعدة فحقّق ما بها من الأموال