الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستهلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة
ذكر الخلف الواقع بين الأمراء الصّلاحيّة «1» والسلطان الملك العادل
قال المؤرخ: كان ابتداء فساد الحال بينهم فى سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
وسبب ذلك أن الملك العادل لما ملك الديار المصرية أقطع الإقطاعات المخلولة عن الأمراء المنصرفين عن الخدمة، وحاسب المستمرين حسابا شديدا، فساءت ظنونهم وتغيرت قلوبهم، وفسدت نياتهم.
وكان فارس الدين ميمون القصرى «2» مقيما بنابلس، فلما بلغه إسقاط خطبة الملك المنصور بن العزيز، واستقلال الملك العادل بالملك- عظم ذلك عليه ونفر منه، وأنكره. وكتب إلى الملك العادل يقول:«إنا دخلنا فى طاعتك، ونصرناك على موالينا: أولاد الملك الناصر، مراعاة للملك العزيز، وخوفا أن يتطرق إلى ولده ضرر ويزول عنه ملكه، ولا بد أن تعيده إلى حاله. وإن لم ترجع عما فعلت، كان ذلك سبب فساد قلوب الجند، ودخول الوهن على الدولة» . فغالطه العادل فى الجواب.
فراسله ميمون ثانيا يقول إنا كنا حلفنا على قاعدة، فإن كانت تغيرت فلا يسعنا المقام بعد ذلك بهذه الدار، وأنا أسال أن أعطى دستورا «3» ليقوم
عند الله وعند الناس عذرى، فأرسل إليه الملك العادل، يقول: لم أدخل فى هذا الأمر إلا بعد أن رضى به الجماعة. فإن كرهت مجاورتى فصر إلى أرزن الروم»
، وتزوج بصاحبتها ماما «2» خاتون، فإنها أرسلت إلىّ وطلبت منى من أنفذه إليها.
وكان «ميمون» قد كاتب الأمراء الصّلاحيّة، فأجابوه: «إنا قد افتضحنا بين الناس بأننا نقيم فى كل يوم ملكا، ونعزل آخر. ثم إلى من نسلم هذا الأمر؟ أما الملك الأفضل فغير أهل، وغيره من إخوته فغير عظيم فى الأنفس. والملك الظاهر بعيد عنا، ولا يمكنه أن يترك بلاده ويصير إلينا.
قال: واتفق ورود رسل الملك الظاهر- صاحب حلب- إلى عمه العادل، فى شهر ربيع الآخر من السنة، وهما: نظام الدين كاتبه، وعلم الدين قيصر الصّلاحى. فلما وصلا إلى بلبيس، أرسل العادل إليهما أن لا يدخلا القاهرة. وأن يذكرا رسالتهما لقاضى بلبيس يبلغها عنهما، وإن لم يفعلا فيرجعا إلى صاحبهما.
فعادا إلى الملك الظاهر، واجتمعا بميمون القصرى فى عودهما، ورغباه فى الخدمة الظاهرية. فمضى إلى صرخد «3» وبها الملك الظافر أخو الأفضل. ولحق بميمون جماعة من الصلاحية.
واعتزل عنه فخر الدين جهاركس «1» فى قلاعه- وكان معه بانياس «2» وتبنين «3» وشقيف أرنون «4» ووافقه على الاعتزال زين الدين قراجا، وأظهر الاعتزال عن الفريقين. وباطنهما مع الملك العادل.
قال: ولما وصل ميمون إلى صرخد، كاتب الأفضل والظاهر ودعاهما إليه. وأنفذ إلى الملك الظاهر فخر الدين الطّنبا الجحاف «5» فلما وصل إليه، قوى عزم الملك الظاهر على الخروج. فراسل ميمون، وأخذ عليه وعلى من معه من الأمراء العهود والأيمان.
ثم قدم عليه أخوه الأفضل فى تاسع جمادى الأولى، وسارا إلى أفاميه «1» ، وبها قراقوش- مملوك شمس الدين بن المقدّم «2» - فأغلق الأبواب دونهما، وامتنع من تسليمها. فضرب الظاهر ابن المقدّم «3» تحت القلعة ضربا موجعا، بحيث يراه مملوكه قراقوش، فلم يكترث لذلك. وراسله ابن المقدّم فى تسليمها، فامتنع كل الامتناع. فلما أيس الظاهر منه أرسل ابن المقدم إلى حلب، وأمر باعتقاله بها.
وسارا بعد ذلك إلى بعلبك لقصد دمشق، وسار إليهما ميمون القصرى ومن معه والملك الظافر، واجتمعوا بمكان يعرف بالزّرّاعة «4» . وتشاوروا على قصد دمشق، وبها يومئذ الملك المعظم عيسى بن العادل وهو صغير، والقيّم بأمره فلك الدين سليمان بن شروة بن جلدك- وهو أخو العادل لأمه- ومن الأمراء الأكابر عز الدّين أسامة «5» . فساروا بأجمعهم إلى دمشق، وحاصروها فى رابع عشر ذى القعدة، سنة سبع وتسعين، واشتد الحصار.
قال: ولما اتصل بالملك العادل خروج الظاهر من حلب، خرج من القاهرة فى شهر رمضان من السنة. وجدّ السير إلى أن نزل على نابلس، وجعل يعمل الحيل والمكايد بين الظاهر والأفضل، وإفساد قلوب الأمراء الذين مع الظاهر. وأرغب الملك الظاهر أنه إن فارق أخاه الأفضل يملكه قطعة من بلاد المشرق، التى بيد العادل.
وكاتب الظاهر فخر الدين جهاركس، وزين الدين قراجا، وأرغبهما فى الانضمام إليه. فوقع الاتفاق معهما- بعد مراجعة- أن الأفضل يسلم لزين الدين قراجا صرخد وعشرة آلاف دينار، وللأمير فخر الدين جهاركس عشرين ألف دينار. واستقرت القاعدة على ذلك. فلما تسلما ذلك وصلا إلى الخدمة الظاهرية، واجتمعا بالأفضل والظاهر.
ثم شرعا يستوقفان الأمراء عن حصار دمشق «1» . فاتصل ذلك بالملكين فهرب جهاركس وقراجا وصار إلى بانياس، فراسلهما الظاهر وقبّح فعلهما.
فأعادا الجواب: إنا قد استشعرنا الخوف بسبب ما نسب إلينا. ونحن على الطاعة ومتى فتحت دمشق كنا فى خدمتكما. وجدّ الظاهر فى حصار دمشق إلى أن نزل وقاتل بنفسه، وجرح فى رجله بسهم. ثم هرب الطّنبا الهيجاوى من عسكر الظاهر وتلاه علاء الدين شقير، ودخلا دمشق. ودخل معهما
جماعة من المفاردة «1» فانحلّ لذلك عزم الظاهر، ورجع عن دمشق إلى بلاده وصحبه الملك الأفضل.
وقيل: بل كان سبب الرجوع عن دمشق أن الاتفاق كان قد حصل بين الأخوين: الأفضل والظاهر، على أنه إذا فتحت دمشق كانت للأفضل. فإذا استقر بها، سار هو والظاهر إلى مصر، وقاتلا العادل، فإذا حصلت مصر لهما تكون حينئذ للأفضل، ودمشق للظاهر. فلما قوى الحصار على دمشق ولم يبق إلا فتحها، حسد الظاهر أخاه الأفضل عليها، وقال آخذها لنفسى. فلاطفه الأفضل وسأل أن ينعم بها عليه، فامتنع، وقال:
إن فتحت تكون لى دونك. فلما أيس منه الأفضل، خرج من ساعته واجتمع بالأمراء، وقال: إن كنتم خرجتم إلى فقد أذنت لكم فى الرجوع إلى العادل، وإن كنتم خرجتم إلى أخى الظاهر فشأنكم وإياه. وكتب فى الوقت إلى عمه الملك العادل، وهو يطلب منه سميساط «2» وسروج «3» ورأس العين «4» ، فأعطاه ذلك، وحلف عليه. فلما اتصل ذلك بالظاهر كتب أيضا
إلى عمه العادل، يطلب منه منبج «1» وأفامية «2» وكفر طاب «3» ، فأعطاه ذلك. وارتحلا عن دمشق.
فبقى الأفضل بسميساط، إلى أن مات.
وعاد الظاهر إلى حلب. وصحبه ميمون القصرى. فأقطعه الظاهر إقطاعات عظيمة. وهى: أعزاز «4» وقلعتها، والخوار «5» وبلدها، ونهر الجوز «6» وبلده، وجسر «7» الحديد وبلدها، وأماكن متفرقة، وأكرمه إكراما تاما. وبقى فى خدمته، إلى أن مات فى سنة عشر وستمائة. وسار معه أيضا سرا سنقر والفارس البكّى، وجماعة الصّلاحيّة، وأقطعهم الإقطاعات الحسنة.