الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نجم الدين أيوب، فحضر إلى الشام، ثم إلى الديار المصرية، ورتّب له راتب من جهة الملوك- أسوة أولاد الملوك الأيوبية. وهو باق إلى وقتنا هذا، مقيم بالقاهرة المعزّيّة- حماها الله تعالى.
وأما الملك المغيث فتح الدين عمر ابن السلطان الملك العادل، بن السلطان الملك الكامل، بن السلطان الملك العادل بن أيوب- صاحب الكرك والشّوبك
فإنه لما قبض الأمراء على والده- كما قدّمنا ذكر ذلك- وملك عمّه الملك الصالح نجم الدين أيوب الديار المصرية، مشى فى خدمته مدة. ثم رأى منه نجابة ونبلا وشهامة، فأمر باعتقاله فى الدار القطبيّة «1» عند عمّة السلطان وعمة والد الملك المغيث- وهى ابنة السلطان الملك العادل، أخت الملك الكامل- رحمهم الله تعالى. فلم يزل عندها، إلى أن مات الملك الصالح وملك ولده الملك المعظم تورانشاه. فأمر بإرساله إلى قلعة الشّوبك، واعتقاله بها. وندب لذلك الأمير عز الدين الحلّى، والأمير سيف الدين بلبان النّجاحى، فتوجها به إلى الشّوبك، واعتقلاه بها، وعادا إلى الديار المصرية.
فما كان بأسرع من أن قتل الملك المعظم تورانشاه- كما ذكرنا- فلما اتصل خير مقتله بابن رسول، وشهاب الدين عمر بن صعلوك- وكانا متولّيى «1» أمر الشّوبك- نهضا وأخرجا الملك المغيث من الاعتقال، وملّكاه وحلفا له، وحلّفا من عندهما- وكانوا نحو عشرة- وحلّفاه بالوفاء لهم.
فأرسل إليهما بدر الدين بدر الصّوابى الخادم- النائب بقلعة الكرك- وأنكر عليهما إقدامهما على هذا الأمر بغير إذنه. فأرسلا إليه يقولان: بك فعلنا ذلك. فأعاد عليهما الجواب: إذا كان كذلك، فانقلاه إلى عندى فحلف للملك المغيث وحلف الملك المغيث له، وتوثّق كلّ منهما من صاحبه بأكيد الأيمان. فانتقل الملك المغيث من الشّوبك إلى الكرك- فى سنة تسع وأربعين وستمائة. وتسلّم ما بها من الخزائن، التى بقيت مما نقل إليها الملك الصالح نجم الدين أيوب- بعد ما أخذه الملك المعظّم منها فوجد بها تسعمائة ألف وتسعين ألف دينار عينا. واستمرّ بالكرك والشّوبك، ورزق بها أولاده.
وراسل الملك الناصر صلاح الدين يوسف- صاحب دمشق وحلب- وأرسل إليه والده الملك العزيز: فخر الدين أبا المظفر عثمان، برسالة.
فأكرمه الملك الناصر وأبرّه وقرّبه، وأجلسه فى مجلسه بالقرب منه ورتّب له فى كل يوم ألف درهم، وأربعمائة جراية وأربعمائة عليقة، وغير ذلك، ونقّله فى مستنزهات دمشق، وأقام عنده نحو ثلاثة شهور. ثم ركّبه الملك الناصر بشعار السّلطنة، وأعاده إلى أبيه. وقد عامله بنهاية البر وغاية الإكرام.
وكان للملك المغيث أخبار، يأتى ذكرها فى أثناء دولة الترك.
وبعث الملك المغيث ولده العزيز الى هولاكو، يلتمس له أمانا. وجهز معه شهاب الدين بن صعلوك والنجيب خزاعة- وهما أعيان أصحابه.
فأخبرنى الملك العزيز أنه اجتمع بهولاكو بتوريز، فأمره بالجلوس، مع صغر سنه فى ذلك الوقت. فنظرت اليه الخاتون- زوجة هولاكو- وسألته بترجمان عن أمّه، وهل هى باقية أم لا؟ فقال: هى باقية عند أبى. فقالت للترجمان: قال له: تحبّ أن أردّك الى أبيك وأمك، أو تقيم عندى؟
قال: فأعدت عليها: أنه لا أمر لى فى هذا، وإنما أبى أرسلنى إلى القان»
يسأله الأمان لنفسه ولمن عنده، وأنا تحت أوامره. فنهضت قائمة وكلّمت هولاكو، وشفعت. فأشار إليها، فقالت: قد أعطاك القان أمانا لأبيك، ودستورا «2» بالعود!.
قال: فضربت له جوكا، ورجعت من عنده. وأرسل معى من التتار من يوصلنى إلى الكرك، ويكون بها شحنه «3» . قال: فلما وصلت إلى دمشق نزلت بدار العقيقى، ونزل التتار بمدرسة العادلية. وكان كتبغا نوين قد توجه للقاء العساكر المصرية. فكانت الكسرة على التتار- على ما نذكره.
قال: فاتصل الخبر بنا، فتحصّنا بدار العقيقى «4» . فلما كان فى نصف الليل رجع التتار هاربين. فقصدوا أخذى معهم، فمانع عنى من
معى، وأعجلهم الهرب عن حصار الدار، فتركونى. قال: ولما جاء الأمير جمال الدين المحمّدى إلى دمشق- قبل وصول الملك المظفر قطز إليها- خرجت إليه وتلقيته، وسلمت عليه. فسأل عنى، فأخبر أننى ابن الملك المغيث، فعوّقنى إلى أن قدم السلطان الملك المظفر قطز. فأمر بإرسالى إلى قلعة الجبل.
فنقل إليها. فكان بها معوّقا فى برج، عند الأمير سيف الدين بلبان النّجاحى. إلى أن أعاده الملك الظاهر بيبرس إلى أبيه الملك المغيث- على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فى أخباره.
ولم يزل الملك المغيث بالكرك والشّوبك، إلى أن استولى الملك الظاهر على الشّوبك، لأربع بقين من ذى الحجة، سنة تسع وخمسين، عند ما جرّد إليها الأمير بدر الدين الأيدمرى. وبقى بيد الملك المغيث الكرك وأعمالها.
ثم حصل الاتفاق بين السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس والملك المغيث، وحلف السلطان الملك الظاهر له يمينا مستوفاة، وأشهد عليه بما تضمنه مكتوب الحلف.
وقد شاهدت المكتوب. وهو بخط القاضى فخر الدين: إبراهيم بن لقمان- صاحب ديوان الإنشاء. وما فيه من اسم السلطان بخطّ السلطان، ومثاله:«بيبرس» .
ونسخة هذه اليمين- على ما شاهدته ونقلت منه:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» *
أقول وأنا بيبرس. والله والله والله، وتا لله وتالله وتالله، وبالله وبالله وبالله، العظيم الرحمن الرحيم، الطالب الغالب الضار النافع، عالم الغيب والشهادة والسّر والعلانية، القائم على كل نفس بما كسبت، والمجازى لها بما احتسبت. وجلال الله وعظمة الله وكبرياء الله، وسائر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا- إننى من وقتى هذا وساعتى هذه، وما مدّ الله فى عمرى، قد أخلصت نيّتى وأصفيت سريرتى، وأجملت طويّتى، فى موافقة المولى: الملك المغيث فتح الدين عمر، بن السلطان الشهيد الملك العادل سيف الدين أبى بكر، بن محمد، بن أبى بكر بن أيوب، ومصافاته ومودّته.
لا أضمر له سوءا ولا غدرا، ولا خديعة ولا مكرا لا فى نفسه ولا فى ماله، ولا فى أولاده، ولا فى مملكته ولا فى قلعته، ولا فى بلاده، ولا فى أمرائه، ولا فى أجناده، ولا فى غلمانه، ولا فى مماليكه، ولا فى ألزامه ولا فى عربانه، ولا فى رعيّته، ولا فيما يتعلّق به وينسب إليه، من قليل وكثير.
وإننى والله لا أعارضه ولا أشاققه، ولا آمر من يعارضه فى بلاده الجارية فى مملكته، وهى: قلعة الكرك المحروسة، وربضها وسائر عملها، والغور المعروف بغور زغر «1» - بكماله، وحدّ ذلك من القبلة الحسا، ومن الشمال حد الموجب نصف القنطرة والمسيل، ومن الشرق الثنيتين، ومن الغرب السبخة المعروفة بأبى ضابط، ومنتهى حد الغور المذكور من القبلة الكثيب الرمل المعروف بالدبة، ومن الشمال الماء النازل من الموجب إلى البحيرة.
وإننى والله لا آمر ولا أشير، ولا أكتب، ولا آذن بصريح ولا بكناية، ولا بقول لأحد، فى التعرض لبلاده المذكورة، ولا السعى فيها بفساد. وإننى والله متى حضر المولى الملك المغيث فتح الدين عمر المذكور إلى خدمتى، عند حلولى بالشام المحروس، لمنازلة عدوّ يطرق بلادى، أو لعدو يطرق بلاده، لا أتعرض إليه بأذيّة، ولا أقصده بسوء فى نفسه ولا فى ماله ولا فى بلاده، ولا فى أمرائه ولا فى أجناده، ولا فى عربانه ولا فى مماليكه، ولا فى رعيته، ولا فيمن يصل صحبته من أصحابه.
وإننى والله لا أطالبه، ولا أطالب أحدا من أمرائه وأجناده، وأصحابه ومماليكه ولا من غلمانه، ولا من رعيته ولا من عربانه، ولا أحدا من سائر أصحابه، بسبب متقدّم إلى تاريخ هذه اليمين المباركة. ولا أمكّن أحدا من أمراء دولتى، ولا من جندها، ولا من سائر مماليكى، وأصحابى من الجماعة البحريّة وغيرهم، من مطالبته ولا مطالبة أحد من أمرائه وأجناده ومماليكه ورعيته، وسائر أصحابه، أهل الكرك وغيرهم، بسبب متقدّم عن تاريخ هذه اليمين المباركة- صامت كان أو غير صامت- من قماش وأثاث، وغير ذلك.
وإننى والله، لا أستخدم أحدا من أمراء المولى الملك المغيث: فتح الدين عمر المذكور، ولا من أجناده ولا من أجناد أمرائه، ولا من مماليكه ولا من مماليك أمرائه، ولا من عربانه ولا من غلمانه، الا من انفصل عنه بدستور. ومتى تسحّب أحد من أمرائه أو أجناده، أو أجناد أمرائه أو مماليكه، أو مماليك أمرائه أو غلمانه أو عربه، أو غير ذلك من أصحابه وفلاحى بلاده، وحضر إلى بلادى أو الى مملكة من ممالكى، والتمس عوده اليه- تقدّمت باعادته اليه، بجهدى وطاقتى.
وإننى والله متى قصد بلاد المولى الملك المغيث فتح الدين عمر المذكور عدوّ- مسلما كان أو كافرا- أعنته على دفعه وزجره وردعه، جهدى وطاقتى. وإننى والله، متى تعرض أحد من عرب بلادى الى بلاد المولى الملك المغيث فتح الدين عمر المذكور، أو الى جهة من جهات مملكته، أو الى أحد من رعيته أو أحد من سائر أصحابه، أو سعى بفساد فيما يتعلق بمملكته، واطّلعت عليه- تقدّمت بزجره وردعه عن ذلك. وفعلت فى أمره ما تقتضيه السّياسة.
وإننى والله- أفى للمولى الملك المغيث: فتح الدين عمر، بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر، بن الملك الكامل محمد، بن أبى بكر بن أيوب- بهذه اليمين من أولها إلى آخرها، ما دام وافيا لى باليمين التى يحلّفه بها نائبى، لا أنقضها ولا شيئا منها، ولا أستثنى فيها ولا فى شىء منها، ولا أستفتى فيها ولا فى شىء منها، طلبا لنقضها أو نقض شىء منها.
ومتى نقضتها أو نقضتها فيها أو فى شىء منها، طلبا لنقضها أو نقض شىء منها، فكلّ ما أملكه من صامت وناطق- صدقة على الفقراء والمساكين من المسلمين. وكلّ مملوك أو أمة فى ملكى، أو أتملكهما فيما بقى من عمرى، حرّ من أحرار المسلمين. وعلىّ أن أفكّ عشرة آلاف رقبة مؤمنة من أيدى الكفار، إن خالفت هذه اليمين أو شيئا منها.
وهذه اليمين يمينى، وأنا بيبرس. والنّيّة فيها بأسرها نيّة المولى الملك المغيث فتح الدين عمر، بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر، بن الملك الكامل ناصر الدين محمد، بن أبى بكر، بن أيوب، ونيّة مستحلفى له بها- أشهد الله علىّ بذلك، وكفى به شهيدا. فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما.
وشهد على السلطان الملك الظاهر، بهذه اليمين، من نذكرهم وهم:
الأتابك فارس الدين أقطاى، وأقوش النّجيبى، وقلاوون الألفى، وعز الدين أزدمر «1» ، وأيدمر الحلّى، وبيسوى الشّمسى، وبيليك
الطرندار، وأيبك الأفرم، وكاتب اليمين إبراهيم بن لقمان بن أحمد. وهى مؤرّخة فى الثالث والعشرين من المحرم، سنة ستين وستمائة. وشهد على السلطان اثنان ممن حضر من الكرك، وهما: أمجد الكركى- وهو كاتب الملك المغيث- وكان قد أمّره، وآخر لم أحقّق اسمه عند قراءته.
وبآخر رسم خط الشهود خط المستحلف. وصورته:
أحلفت مولانا السلطان الكبير، العالم المجاهد، المرابط المؤيّد المنصور، الملك الظاهر أبا الفتح بيبرس بن عبد الله، الصالحى، أعزّ الله سلطانه- بهذه اليمين المباركة من أولها إلى آخرها، على الوجه المشروح فيها، تاريخ الثالث والعشرين من المحرم، سنة ستين وستمائة- أحسن الله تقضّيها. وكتبه خزاعة بن عبد الرّزّاق بن على- حامدا لله تعالى ومصلّيا.
وجهز السلطان الملك الظاهر للملك المغيث ولده الملك العزيز فخر الدين عثمان- وكان معتقلا بالقلعة من الأيام المظفّريّة، كما قدمنا- فأطلقه السلطان الآن، وأقطعه ذبيان «1» بمنشور، ثم سيّر إليه السلطان بعد ذلك صنجقا وشعار السلطنة. فقبّل الملك المغيث عقب الصّنجق، وركب بشعار السلطنة.
وظن الملك المغيث أن الصلح قد انتظم بمقتضى هذه اليمين، فركن إلى ذلك. ثم جهّز والدته فى سنة إحدى وستين وستمائة إلى الملك الظاهر.
فوجدها السلطان بغزّة، فأنعم عليها إنعاما كبيرا، وعلى من معها. وأجرى معها الحديث فى وصول الملك المغيث إليه، لينتظم الصلح شفاها، وتتأكد
أسبابه. وأعاد عليها العطاء ثانيا، وجهّزها إلى الكرك. وجهز فى خدمتها الأمير شرف الدين الجاكى المهمندار «1» ، لتجهيز الإقامات للملك المغيث.
فاغترّ الملك المغيث بذلك. واستخلف ابنه الملك العزيز فخر الدين بالكرك، واستحلف له من تركه بقلعة الكرك، وترك عنده بقية أولاده- إخوة الملك العزيز- وكان له سبعة أولاد ذكور، أسنّهم الملك العزيز فخر الدين عثمان. وولد له بعد قبضه ابنان. وكان الملك العزيز، يوم ذاك، صغير السن، فإن مولده- كما أخبرنى به- فى الأول من يوم الإثنين ثالث شوال، سنة اثنتين وخمسين وستمائة.
وفارق الملك المغيث الكرك، وتوجه إلى السلطان الملك الظاهر، وهو بمنزلة الطّور. فلما بلغ السلطان وصول الملك المغيث إلى بيسان، ركب إليه وتلقاه، وساقا جميعا إلى منزلة السلطان. فلما وصل الملك المغيث إلى باب الدّهليز، ترجّل ودخل إلى الخيمة. فأدخل على خركاه «2» ، وقبض عليه وعلى من معه- وذلك فى يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى، سنة إحدى وستين وستمائة. وأظهر السلطان لقبضه سببا، نذكره فى أخبار السلطان الملك الظاهر- إن شاء الله تعالى- تقف عليه بعد هذا.
ولمّا قبض عليه، جهّزه فى تلك الليلة إلى قلعة الجبل- صحبة الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقانى. ولما وصل إلى قلعة الجبل، أدخل البرج الذى كان به ولده الملك العزيز فخر الدين عثمان، فقال للأمير سيف الدين بلبان النّجاحى- متولّى قلعة الجبل-: فى هذا البرج كان ولدى عثمان؟
قال: نعم.
ولم يستقّر بذلك البرج، بل نقل منه فى يومه، وأدخل إلى قاعة من قاعات الدور السلطانية، فقتل من يومه. وكان آخر العهد به.
وتولى ذلك الأمير عز الدين أيدمر الحلّى- نائب السلطنة- بالغيبة.
واستدلّ على قتله أن بعض الخدام حكى، فقال: لما أدخل الملك المغيث إلى القاعة، طلب له طعام من الآدر «1» السلطانية- قال الخادم: فتوجهت لإحضار الطعام، فأتيت به على رأس خادم آخر، فوجدت الأمير عز الدين قد خرج من القاعة، وأغلق الباب! فقلت: قد حضر الطعام. فقال: بعد أن أغلقنا الباب لا نفتحه فى هذه الليلة. فرجعت بالطعام. ولم يفتح ذلك الباب، إلى ثلاثة أشهر أو نحوها.
وكان مولد الملك المغيث- رحمه الله تعالى- بمنزلة العبّاسة «2» فى شهر ربيع الأول، سنة أربع وثلاثين وستمائة.