الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستهلت سنة تسع وستمائة:
ذكر عزل الصاحب صفى الدين عبد الله بن على بن شكر وولاية الصاحب الأعز بن شكر
وفى يوم الاثنين، لسبع مضين من شهر ربيع الأول، سنة تسع وستمائة، صرف الصاحب صفى الدين من الوزارة والزم داره.
ونحن الآن نذكر فى هذا الموضع سبب اتصاله بخدمة السلطان العادل، وموجب انفصاله.
كان قد اتصل بالخدمة العادلية فى أواخر الأيام الناصرية. فلما مات ابن النّحّال النصرانى- كاتب الملك العادل- تقدم صفى الدين، فرآه شهما مقداما فقدمه، وتمكن من دولته. فلما كانت حادثة الأفضل، ورجوعه عن دمشق بعد حصارها، وخرج العادل فى طلبه اجتاز بالبيت المقدس، ومعه صفى الدين، فتحلف معه أنه إن قدّر الله تعالى له بملك الديار المصرية، يمكنه من المصريين، وحلفه على ذلك فحلف له.
فلما ملك العادل الديار المصرية، لم يتمكن صفى الدين من مصادرات المصريين، لأمرين: أحدهما ما حل بالناس من الغلاء المشهور، والثانى ملازمة العادل ببلاد الشام. فلم يزل كذلك إلى سنة اثنتين وستمائة عند قدوم العادل من الشام، فأمسك الصاحب جماعة من رؤساء المصريين، وأصحاب الدواوين والمستخدمين وغيرهم، وعاقبهم أشد عقوبة ونكّل بهم، وفعل بهم ما أوجب حقد الناس عليه. وكثر بطشه بالناس، وأقام لنفسه حرمة عظيمة زادت على حرمة السلطان وعظم أمره، حتى كان أولاد
الملك العادل يأتون إلى داره فيجلسون على بابه، حتى يؤذن لهم، فثقل ذلك على أمراء الدولة وخاطبوا السلطان فى أمره، وهو لا يسمع فيه كلام متكلّم.
فلما كان فى سنة ست وستمائة- والسلطان على سنجار- اتفق أن الصاحب تحدّث معه فى شىء، لم يوافق رأى السلطان، فتوقف عن إجابته. فقام الصاحب من مجلس السلطان، وقد غضب، وجرح جرحا مفرطا فى المجلس، حتى خجل العادل ممن حضره، ووجدوا للكلام مجالا فتكلموا فيه. وكان العادل من أثبت الناس، وأحلمهم وأقلهم بطشا، وصفىّ الدين بخلاف ذلك. فبقيت هذه الحادثة فى نفس السلطان كامنة.
وكان القاضى الأعز بن شكر فى هذه السفرة نائب الوزارة بالديار المصرية، وهو ناظر الدواوين بها فى خدمة الملك الكامل، فحصل بينهما مودة.
فحسده من كان ينوب عن الصاحب فى الوزارة قبله. وكانوا يكاتبون «1» الصاحب ويقولون له إنّ الأعز قد توثب عليك، واتصل بالكامل وتمكن منه.
فلما كان فى ذى الحجة، سنة سبع وستمائة، اجتمع بنو شكر عند الصاحب على طعامه. فأشار أن توضع زبديّة «2» طعام مخصوص بين يدى الموفق- وهو أحد من كان ينوب عن الوزارة- فقال أحد الحاضرين: يده طويلة! - يريد أنها تطول لمكان الزبدية. فقال آخر: طوّلها الذى صرفه من نيابة الوزارة- يعرض به أنه كان يتبرطل! فضحك الأعز ضحكا مفرطا،
بمعنى أنه أمين، ليس فيه ما يقال كما قيل فى غيره! فغضب الصاحب لذلك وانتهره، لإساءته فى مجلسه بالضحك.
فأسرع الأعز فى القيام إلى داره. فلما قام، قال بعض من حضر للصاحب: لا تأمنه من سوء يكيدك به. وأغروه به، فأمر باحضاره. فلما جاءه الرسول، علم أنه إن وقع فى يده لا يأمنه على نفسه. فتسّور من مكان فى داره، وطلع إلى القلعة، واحتمى بالكامل. فلما سمع الصاحب بذلك طلبه من الكامل، فدافعه به. فغضب واجتمع بالملك العادل، وقال: ان الأعز لزمه حساب، وقد أحماه الكامل علينا. وكرر عليه القول. فتحدث العادل مع ابنه الكامل فى ذلك، فقال: يصلح بينهما. وقصد الكامل بذلك مدافعة الأيام، ليقع سفر العادل إلى الشام معه، فيسكن ما عند الصاحب منه، فلم يزده ذلك إلا حنقا.
فلما كان فى آخر ذى الحجة- سنة ثمان وستمائة- ركب الكامل إلى دار الوزارة، وحضر مجلس الوزير، والأعز معه، وأصلح بينهما. فاصطلحا ظاهرا، والبواطن بخلاف ذلك. وقصد الصاحب أن الأعز إذا انصرف إلى داره، قبض عليه، فلم يفارق الأعز الخدمة الكاملية بالقلعة. فازداد الصاحب حنقا عليه، وتحدث مع العادل أن يعزله عن نظر الدواوين.
فتوقف السلطان فى ذلك.
وتمادى الأمر، إلى آخر صفر. فامتنع الصاحب من الكتابة على المناشير والتّواقيع، وحلف أنه لا يباشر والأعزّ يكتب معه أيدا. فتعطلت أحوال الناس، وشكوا ذلك إلى السلطان. فأرسل إلى الصاحب بروضه،
ويقول: لا بد أن أمكّنك من الأعز، وهو لا يزداد إلا غضبا وإساءة فى الجواب. فإذا عاد رسول السلطان إليه، لا يمكنه مخاطبته بما قاله الصاحب، ويغالط فى الجواب. فأرسل السلطان بعض الأمراء إلى الصاحب برسالة، ومعه أحد مماليكه، وقال له احفظ ما يقوله الصاحب، وأعده علىّ. فكان من جملة قول الصاحب: والله لا كتبت والأعز يكتب معى أبدا. فعند ذلك، خرج السلطان على ابنه الكامل وانتهره، وأغلظ فى القول، وقال: يسلّم الأعز إلى الصاحب فى هذه الساعة!.
فلما عاد الكامل إلى القلعة، تلقاه الأعز على عادته. فقال: قد أمر السلطان بتسليمك للصاحب، وخرج علىّ بسببك، وعجزت عن حمايتك.
فقال له الأعز: يا مولانا، والله عداوتى للصاحب بسببك! وهو أنه كاتبنى فى حقك أنه لا بد أن يعمل على صرفك من مملكة الديار المصرية، وأن يجعل عوضا عنك الأشرف موسى. وهذه كتبه إلىّ. فلما وقف الكامل على الكتب كان من جملة ما تضمنته:«وأما هذا المجنون- يشير إلى الكامل- فلا بد من صرفه، وإحضار الأشرف إلى الدّيار المصرية» . وتضمنت من سبه وشتمه كثيرا.
فعاد الكامل للعادل، والكتب معه، وجاء فى غير الوقت المعتاد.
فقال له العادل: ما جاء بك الآن؟ فقال: هذا الصاحب يريد أن يوقع بين السلطان وأولاده، وبين الإخوة. هذه كتبه للأعز، وعداوته بسببها. فلما وقف العادل عليها، عظم عليه سبه لابنه- وكان العادل يدارى جميع أولاده، خوفا أن يقوم أحدهم عليه، فتنخرق حرمته- فقال نعزله، ولا يسلّم إليه الأعز. ويكتب الأعز وحده.