الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر توجه رسول السلطان الملك الناصر يوسف إلى الديوان العزيز ببغداد، وما جهزه صحبته من الهدايا والتقادم، وما أورده الرسول فى الديوان العزيز من كلامه
ولما استولى الملك الناصر على دمشق، جهز الصاحب كمال الدين أنا حفص عمر بن أبى جراده- المعروف بابن العديم «1» إلى الديوان العزيز «2» .
قال تاج الدين على بن أنجب- المعروف بابن السّاعى- فى تاريخه:
كان وصول كمال الدين بن أبى جراده إلى بغداد، فى شعبان، سنة ثمان وأربعين فأكرم، وخرج إلى لقائه موكب الديوان العزيزى، مصدّرا بعارض الجيش، مجنّحا بخادمين من خدم الدار العزيزة. فالتقاه ظاهر البلد، ودخل معه. وقبّل صخرة باب النّوبى على العادة، وانكفا إلى حيث أنزل
وحضر- فى اليوم الثالث من قدومه- دار الوزير، وأدى رسالته.
وعرض ما صحبه من تحف وهدايا. ومن جملة ذلك: دار خشب بديعة الصنعة، وخمسة وعشرون «1» جملا، وعشرة أرؤس من الدواب: منها أربع بغلات، وبقيتها من جياد الخيل، مجلّلة بالأطلس [وزرديات «2» وخوذ- عمل الفرنج- ومائة وخمسين طقشا «3» ، وثلاثمائة ترس لليد، وعشرين ثوبا سقلاط «4» . ومن الثياب: الأطلس] والرّوسى والخطائى «5» والمموّج، ومقاصير ونقايير وخياشى مذهبة، وحريرى ألف وخمسمائة قطعة، وصناديق بها أوانى ذهب وفضة مجوهرة، وثلاثمائة مجلّد بخطوط منسوبة، وأصول صحيحة الضّبط، ومصحف كريم بخط ابن الخازن، وكتب عليه من نظمه قوله:
«وعليكم نزل الكتاب وفيكم
…
وإلى ربوعكم نحنّ ونرجع»
قال: وكان قد جلس له الوزير فى الشّبّاك العالى، وجلس بين يديه على الصّفّة الطويلة، ظاهر الشباك، حاجبا باب النّوبى- وذكر جماعة.
قال: ثم أذن للرسول فى الدخول، وجلس إلى جانب حاجب باب النّوبى. وقرأ القرّاء، ثم نهض الرسول، وخطب خطبة بليغة من إنشائه قال ابن أنجب: وكنت حاضرا ومن خطّه الرائق نقلتها، وهذه نسختها:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» *
الحمد لله الذى أسبغ علينا جزيل النّعمة. ودفع عنا وبيل النّقمة.
ومنّ علينا بالخلفاء الراشدين، والأئمة المهديّين وجعلنا باقتفاء آثارهم والاهتداء بأنوارهم خير أمّة.
أحمده على هباته السنيّة، وصلاته الهنيّة، ومننه التى لا تحصى بحدّ ونعمه التى لا تستقصى بعدّ- حمد من لزمه الحمد ووجب. وتمسك من الطريقة المثلى بأقوى سبب. وأحلّنا الله دار المقامة من فضله، لا يمسّنا فيها نصب.
وأشهد أن لا إله الله وحده، شهادة من أزال عنه الشكّ ونفى، وخلص منه الإيمان وصفا. وتبوّأ من منازل الفوز غرفا، واكتسب بطاعة إمامه فخرا وشرفا. وأشهد أن محمدا عبده المصطفى المجتبى، ورسوله
الذى اقتعد ذروة الشّرف واحتبى. وتبّوأ على المقامات رتبا، وفضل العالمين أصلا ونسبا- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ما هبّت شمال وصبا.
والصلاة والسلام على قسيم النّبىّ فى النّسب، وشريكه فى مدارج الفخار والرّتب. واحدىّ ماله من المناقب والحسب: خليفة الله فى أرضه.
القائم بسننه وفرضه. المستخرج من عنصر النبوة، المخصوص بفضيلتى.
العلم والأبوة:
إمام الزمان، المتهجّد بتلاوة القرآن. الذى هجر فى حفظ دين الله وسنه «1» . ودعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة. ذى الفضل المبين، والحقّ اليقين. الإمام الأوّاه: المستعصم بالله، أمير المؤمنين «2» لا زالت جباه الملوك العظماء بثرى عتباته الشريفة موسومة. وأرزاق العباد بما جرى من أوامره اللطيفة مقسومة. والأقضية والأقدار جارية بما يوافق حكمه ومرسومة. والأقذية والأقذار بطول بقائه منفيّة محسومة:
ماذا يقول الذى يتلو مدائحه
…
وقد أتتنا بها الآيات والسّور
إن قال، فالقول يفنى دون غايتها
…
وإن أطال، ففى تطويله قصر
خليفة الله، لا تحصى مناقبكم
…
إنّ البليغ بها فى حصرها حصر «3»
أما الشفاعة عنكم فى المعاد لنا
…
لذى الكبائر والزّلّات تدّخر
أما النّدى من نداكم جاد صيّبه «1»
…
من بعد ما ضنّ، فاستسقى به عمر «2»
فالغيث فى هذه الدنيا لنا بكم
…
والغوث نرجوه فى الأخرى وننتظر
وبعد: فإن الله- وله الحمد- جعل لنا أئمّة خيرة، راشدين بررة.
يهتدى بهداهم، ويجتدى «3» نداهم. دفع عنّا الشّبه والياس، ورفع بهم النّقمة والالتباس. وآخر نسل عمّ نبيّه العبّاس. من تمسك بهداهم اهتدى.
ومن حاد عن طريقهم حادّ «4» الله واعتدى. بحبّهم يدرك الأمل والسّول.
وطاعتهم مقرونة بطاعة الله والرسول. تعظيمهم واجب مفترض وبموالاتهم يدرك الفوز والغرض. أقرب الناس إلى الله من هو فى ولايتهم عريق، وأولاهم بالنجاة من هو فى بحر محبّتهم غريق.
ولما كان عبد الديوان العزيز: يوسف بن محمد بن غازى- المستعصمى «5» - ممّن تقمّص بلباس هذه الأوصاف، وتخصص باقتباس هذه الشّيم الشّراف. وتردّى بالتمسك فى هذه الحلّة الجميلة، وتبدّى بالتّنسّك بهذه الخلّة الجليلة. واغتدى متقلّبا فى صدقات الدّيوان. واغتذى
من نعمه بلبان الإحسان، وورث ولاء هذا البيت النبوى الفاخر، كابرا عن كابر، وأصبح أوّلا فى العبوديّة، وإن أمسى زمنه الآخر. وكان أحقّ العبيد بأن يقبل- لسلفه سوالف الخدم. وأولاهم بأن يسبل عليه معاطف أذيال الجود والكرم- أحبّ أن تظهر عليه آثار هذه النّعمة، وأن يدرك بها الفضل فى الدنيا، كما يرجو فى الآخرة الرّحمة.
فارتاد من رعيّته من يقوم مقامه فى تقبيل الأرض، ويقف عنه هذا الموقف الجميل لأداء الفرض. ووجد هذا العبد المملوك- الماثل بين يدى مولانا: سلطان الوزراء وسيد الملوك- أقدمهم فى ولايات هذه الدولة النّبويّة المعظّمة أصلا، وأبلغهم فى موالاة المواقف المقدسة المكرمة نسلا، وأصلبهم، عند العجم «1» فى دعوى الرّقّ والولاء عودا. وأثبتهم فى التّعلّق بدولة الحقّ والانتماء عمودا. فندبه إلى المسير إلى دار السلام.
والنيابة عنه فى هذا المقام. والطّواف حول كعبة الرجاء والاستلام. وإنهاء ما تجدّد من الأحوال بمصر والشّام. وأن يضرع إلى عواطف الإفضال، ومشارع النّوال. ويخضع لمواقف الآمال، وشوارع الإقبال فى أن يحفظ له حقّ الآباء والجدود.
وقد وقف العبد المملوك عنه فى هذا الموقف الجليل، وحجّ عن فرضه إلى كعبة الجود والتّأميل. وحظى باستلم حجر ركنها وفاز بالتّقبيل. ويودّ مرسله لو فاز به أو استطاع إليه سبيل. فإنه قد حصل للعبد من القبول والثواب. ما أفاء على الأمل وزاد على الحساب. وتصدّق عليه من الديوان
العزيز بصدقة، يبقى فخرها فى الأعقاب. ولا ينسخ حكمها مرّ السّنين والأحقاب. والله تعالى يسبغ ظلّ الديوان العزيز على كافّة أوليائه. ويمتّعهم بدوام اقتدار سلطانه وطول بقائه. ويوزعهم «1» شكر مولانا سلطان الوزراء وجزيل آلائه. ويتولّى حسن مجازاته عنهم، فإنهم عاجزون. والحمد لله رب العالمين. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما.
قد سيّر عبد الديوان العزيز: يوسف، إلى الخزائن المقدسة، والمواطن التى هى على التقوى مؤسّسة- خدمة على يد أقلّ مماليك الديوان وعبيده من طارف إنعام الديوان العميم وتليده، وسالف الإحسان القديم وجديده. وهو يضرع إلى العواطف الرحيمة، ويسأل من الصّدقات العميمة، أن ينعم عليه بقبولها، والتّقدّم بحملها إلى الخزائن الشريفة ووصولها، وأن يكسى بذلك فخرا لا يبلى جدّته مرّ الليالى والأيام. ولا يذهب نضرته كرّ السّنين والأعوام. والسلام.
فعند ذلك، أذن الوزير مؤيّد الدّين بن العلقمى فى إحضار الهدايا والمدّ، المقدّم ذكره، فأدخل شيئا فشيئا- والرسول قائم- إلى أن أحضر جميعه، وعرف قبوله. ثم انكفأ إلى منزله، واستحسن إيراده، واستجيد إنشاده وزيد فى احترامه، وبولغ فى إكرامه