الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستهلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة:
ذكر مسير السلطان الملك الكامل إلى بلاد الروم
وفى هذه السنة، وصل الملك الأشرف، صاحب دمشق، إلى السلطان بالديار المصرية، وحرّضه على قصد بلاد الروم. فخرج بالعساكر من القاهرة فى ليلة السبت، لخمس خلون من شعبان، واستناب بالديار المصرية ولده الملك العادل: سيف الدين أبا بكر.
وسار حتى وصل إلى دمشق، وجمع سائر الملوك. وسار من دمشق، فنزل بظاهر البيرة «1» . واجتمعت الملوك، فكانوا ثلاثة عشر ملكا: كلهم من بنى أيوب. وعرض العساكر أطلابا، فكبرت نفسه وتعاظم. ثم دخل بهم الدّربندات «2» ، وأشرف على أرض الروم، وما شكّ فى أخذها.
فاجتمع الملوك إلى الملك الأشرف، قالوا: متى فتح الملك الكامل بلاد الروم، استولى على ممالكنا، وعوّضنا عنها من بلاد الروم. فاتفقوا على خذلانه، ومكاتبة صاحب الروم: علاء الدين كيقباد، بن كيخسرو
السّلجقى، فكاتبوه. فوقعت الكتب إلى الملك الكامل، فرحل عن الدّربندات لوقته، وعاد إلى السّويداء «1» وخيّم بها.
وكان عند نزوله على الدّربندات، أرسل الملك المظفّر صاحب حماه، والطّواشى شمس الدين صواب، وجماعة من الأمراء، إلى خرت برت «2» .
وكان بها عسكر كثيف من عساكر الروم، فكسروهم، وأسروا بعض الأمراء الكاملية، وطلع الملك المظفر، والطواشى صواب، والبانياسى وجماعة من الأمراء، إلى القلعة، فأقاموا بها سبعة عشر يوما، وطلبوا الأمان من صاحب الروم. فأمّنهم على تسليم القلعة، ولا يأخذوا منها شيئا.
ففعلوا ذلك، ونزلوا إليه. فخلع عليهم وأعادهم إلى الملك الكامل.
ولم يسلم من خيلهم فى هذه الوقعة إلّا سبعة أو ثمانية: كلّ أمير على فرس.
فسيّر السلطان الملك الكامل إليهم الخيول، فركبوها ووصلوا إلى السلطان إلى السّويدا، فأحسن إليهم. ثم عاد إلى الديار المصرية، وقد حصلت الوحشة بينه وبين سائر الملوك. وكان وصوله فى جمادى الأولى، سنة اثنتين وثلاثين.
ولما رجع، جهّز صاحب الروم جيشا كثيفا إلى حرّان والرّها وآمد، والسّويدا وقطينا «1» ، فاستولى على ذلك، ورتّب فيهم من يحفظهم. وكانت هذه الجهات تحت يد شهاب الدين غازى- أخى السلطان- والملك الصالح نجم الدين أيوب: ولده.
فلما اتصل ذلك بالملك الكامل، تجهز بعساكره وخرج من القاهرة، فى ثالث عشرين ذى القعدة من السنة: وكان قد أوصى ولده الملك الصالح نجم الدين وأخاه شهاب الدين غازى- أن صاحب الروم إذا قصد البلاد يتركونها، ويحضرون، وقال له: إذا أخذ البلاد استعدتها منه، وإذا أخذكم لا أقدر على استعادتكم منه. فلما وصل عسكر صاحب الروم إلى البلاد، تركاها، وسارا بعسكرهما إلى سلميّه.
ولما قدم السلطان إلى دمشق، كان بها ولدا «2» ولده الملك الصالح، وهما: جلال الدين، وتورانشاه، فخرجا يسلّمان على جدّهما، فانتهرهما، فخرجا من عنده. واتصل ذلك بأبيهما، فعلم أن الغضب انما هو عليه، لا على ولديه. فأرسل إليهما وأخذهما من دمشق، ولم يشعر بذلك جدّهما.
وسار عن سلميّه، ومعه شهاب الدين غازى، فوصل إلى حصن كيفا، ووصل شهاب الدين إلى ميّافارقين. فعظم ذلك على السلطان، وذكر ما فعله الصالح لبعض الأمراء. فتلطف فى الاعتذار عنه، وقال: الملك الصالح معذور، لأ السلطان سلّم له البلاد وجعله تحت الحجر. ثم فعل
السلطان بأولاده ما فعل. فأرسل إليه وطيّب قلبه، وأمره أن يمضى هو وشهاب الدين غازى لمحاصرة السّويداء، فتوجّها إليهما.
ووصل السلطان إليها أيضا. ثم مضى إلى آمد، فهرب العسكر الرّومىّ منها. ووصل السلطان إلى حرّان، وفتحها عنوة فى ثالث جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين. وفتح قلعة الرّها عنوة. وتسلّم السّويداء عنوة، فى جمادى الآخرة. وهدم قلعة الرّها. وأسر من كان فى هذه القلاع من الروم. وأخذ قطينا فى شهر رجب عنوة، ونزل على دنيسر «1» فأخربها، إلا الجامع.
وسيّر جميع. الأمراء إلى الديار المصرية فى الجوالق، وكانوا أكثر من ثلاثة آلاف. ورتب ولده الملك الصالح بآمد. وأضاف إليه حرّان والرّها ونصيبين، والخابور «2» ورأس عين والرّقّة، وجعله سلطانا مستقلا. وعاد إلى الديار المصرية. فوصل إلى القاهرة فى شعبان، سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.
نعود إلى تتمة حوادث سنة إحدى وثلاثين وستمائة.
فيها ولى الأمير جمال الدين يغمور «1» شدّ الدواوين بالديار المصرية وفيها عمّر الملك الأشرف مسجد جرّاح خارج باب الصّغير بدمشق، ورتّب فيه خطبة للجمعة، يصلى فيه سكان الشّاغور وغيرهم.
وفيها قدم رسول الأنبرور ملك الفرنج بالهدايا والتّحف، وفى جملة ذلك دب أبيض، شعره مثل شعر السّبع، ينزل إلى البحر فيصيد السمك ويأكله، وطاووس أبيض، وغير ذلك.
وفيها عزل قاضى القضاة عماد الدين بن الحرستانى عن قضاء الشام، ووليه قاضى القضاة شمس الدين بن سنىّ الدّولة.
وفيها، توفى الأتابك: شهاب الدين طغرل الخادم، عتيق السلطان الملك الظاهر، صاحب حلب- وكان أرمنىّ الجنس، حسن السّيرة محمود الطريقة، صالحا عفيفا، زاهدا كثير الصدقة والإحسان، يقسّم الليل أثلاثا: فالثّلث الأول يجرى حكايات الصالحين وأحوال الناس ومحاسنهم، وينام الثلث الأوسط، ويحيى الثّلث الآخر قراءة وصلاة وبكاء. وكان حسن الوساطة عند الملك الظاهر
ولما توفى الظاهر، قام بأمر ولده العزيز أحسن قيام. واستمال الملك الأشرف، حتى حفظ على الملك العزيز البلاد- ولما استعاد الملك الأشرف تلّ باشر «1» ، دفعها لهذا الخادم، وقال هذه تكون لصدقاتك وما يلزمك، فإنك تكره أن تتصرف فى أموال الصغير، فنقل إليها من الأموال والذخائر كلّ نفيس. وكان قد طهّر حلب من الفسق والفجور والمكوس. وكان الملك الأشرف يقول: إن كان لله تعالى فى الأرض ولىّ، فهو هذا الخادم، الذى فعل ما عجز عنه الفحول.
فلما ترعرع الملك العزيز بن الملك الظاهر، فى سنة تسع وعشرين وستمائة- قال له بعض خواصّه: قد رضيت لنفسك أن تكون تحت حجر هذا الخادم! فأخذ منه تلّ باشر، ونزع يده منه. وبقى الأتابك لا ينفّذ له أمر ثم مرض وتوفى بحلب، فى ليلة الحادى عشر من المحرم، من هذه السنة.
ودفن بمدرسة الحنفية خارج باب الأربعين- رحمه الله تعالى.
وفيها توفى الشيخ أبو عبد الله: الحسين بن محمد بن يحيى، بن مسلم الزّبيدى. سمع أبا الوقت عبد الأوّل «2» بن عيسى، وغيره.
وهو من ساكنى باب البصرة، وحضر إلى الشام وحدّث بدمشق بصحيح البخارى عن أبى الوقت غير مرّة. وهو شيخ شيوخنا. ولما وصل إلى دمشق، أكرمه الملك الأشرف، وحصل له دنيا صالحة بعد فقر وضرورة.
ثم عاد إلى بغداد، فمرض قبل وصوله إليها، وتوفى بعد أن دخلها بأيام.
كانت وفاته يوم الاثنين، الثالث أو الرابع والعشرين من صفر، سنة إحدى وثلاثين وستمائة. وسئل عن مولده، فقال: سنة ست، أو سبع، وأربعين وخمسمائة- الشّكّ منه- ودفن بمقبرة جامع المنصور.
وفيها توفى ركن الدين منكرس الفلكى: مملوك فلك الدين- أخى الملك العادل لأمّه- كان من أكابر الأمراء. ولّاه العادل مصر والشام نيابة عنه. وكان صالحا ديّنا، عفيفا عادلا، كثير الصدقات. وله بقاسيون مدرسة وتربة أوقف عليها أشياء كثيرة. وكانت وفاته. بجرود «1» : قرية من قرى دمشق، وحمل منها فدفن بتربته بقاسيون- رحمه الله تعالى.
وفيها توفى الأمير كريم الدين الخلاطى. وكان كثير المروءة حسن الملتقى، يتعصّب فى الخير. خدم الملك الكامل والمعظم والأشرف. وتقدّم فى زمن الملك العادل. وكانت وفاته بدمشق، ودفن بقاسيون- رحمه الله تعالى.
وفيها توفى صلاح الدين أبو العباس: أحمد بن عبد السيد بن شعبان ابن محمد بن جابر، بن قحطان الإربلى- وهو من بيت كبير بإربل «1» .
وكان حاجبا عند الملك المعظم: مظفر الدين بن زين الدين صاحب اربل.
فتغير عليه واعتقله مدة. فلما أفرج عنه، خرج منها إلى الشام، واتصل بخدمة الملك المغيث: محمود بن العادل- وكان قد عرفه من إربل- فحسنت حاله عنده.
فلما توفى الملك المغيث، انتقل الصّلاح إلى الديار المصرية، وخدم الملك الكامل فعظمت منزلته عنده، ووصل منه إلى ما لم يصل إليه غيره، واختصّ به فى خلواته. وجعله أميرا.
وكان الصلاح ذا فضيلة تامة، ومشاركة حسنة. وله نظم حسن، ودوبيت «2» . ثم تغيّر عليه الملك الكامل، واعتقله، فى المحرم سنة ثمانية عشر وستمائة، والسلطان بالمنصورة. فاستمر فى الاعتقال بقلعة الجبل، مضيّقا عليه، إلى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين.
فعمل الصلاح دوبيت، وأملاه على بعض المطربين، فغنّى به عند الملك الكامل. وهو:
ما أمر تجنّيك على الصّبّ خفى
…
أفنيت زمانى بالبكا والأسف
ماذا غضب بقدر ذنبى، ولقد
…
بالغت وما قصدك إلا تلفى
فاستحسنه الملك الكامل، وسأل لمن هو؟ فقيل: للصلاح الإربلى.
فأمر بالإفراج عنه. وقيل إن الشعر غير هذا، وهو:
اصنع ما شئت، أنت أنت المحبوب
…
ما لى ذنب، بلى- كما قلت- ذنوب
هل يسمح بالوصال فى ليلتنا
…
يجلو صدا القلب ويعفو، وأتوب
ولما أفرج عنه، عادت مكانته عنده إلى أحسن ما كانت عليه ولما توجه الملك الكامل إلى بلاد الروم كان فى خدمته، فمرض بالعسكر بالقرب من السّويدا، فحمل إلى الرّها فمات قبل وصوله إليها، فى خامس عشرين ذى الحجة، سنة إحدى وثلاثين وستمائة. وكان مولده فى شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
ولما مات وجد بداره بدمشق خمسة عشر ألف دينار، وبداره بالقاهرة خمسة آلاف دينار. ولما عاد السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية، أقطع ولده صنافير «1» بالقليوبيّة خاصا له، وجعل معه أقارب والده ومماليكه- وعدتهم سبعة عشر نفرا- وذلك فى سنة اثنتين وثلاثين.
وتوفى الأديب الفاضل: نجم الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن أبى محمد عبد الوهاب بن الحسن بن على، المعروف بابن وهيب القوصى، بحماه.