الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادسًا: نشأة علم الجرح والتعديل
نشأ علم الجرح والتعديل مع نشأة الرواية، وبناءًا على الحديث السابق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من جرح وعدل، وعلى ذلك المنهج سار المحدثون، فطلبوا الإسناد، وقوَّموا الرواة، وعدَّلوا في ذلك كل العدل، فأعطوا كل راوٍ ما يستحقّه من أوصاف الضبط والعدالة دون محاباة، وضربوا في ذلك أروع الأمثلة في الاحتساب والتجرُّد.
فقد أثنى بعض الصحابة على بعض التابعين، وورد آثار عنهم في ذمِّ بعضهم أيضًا، فقد يكون أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه، هو أول من تثبت في الأخبار، فقد ثبت عَنْ قَبِيصَة بن ذُؤَيْب، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَتِ الجَدَّة إِلَى أَبِي بَكْر الصِّدِّيق تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا؟ فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ نَبِيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم شَيئًا، فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ. فَسَأَلَ النَّاسَ، فَقَالَ المُغِيرَة بن شُعْبَة:"حَضَرْتُ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهَا السُّدُسَ"، فَقَالَ أَبُو بَكْر: هَلْ مَعَكَ غَيرُكَ؟ فَقَامَ مُحَمَّد بن مَسْلَمَة، فَقَالَ مِثْلَمَا قَالَ المُغِيرَة بن شُعْبَة، فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْر، ثُمَّ جَاءَتِ الجَدَّةُ الأخْرَى إِلَى عُمَر بن الخَطَّاب رضي الله عنه، تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى شَيْءٌ، وَمَا كَانَ القَضَاءُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ إِلا لِغَيْرِكِ، وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الفَرَائِضِ، وَلَكِنْ هُوَ ذَلِكَ السُّدُس، فَإِنِ اجْتَمَعْتُمَا فِيهِ فَهُوَ بَيْنَكُمَا، وَأيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا.
والغرض من هذا الحديث، هو الدلالة على التثبت من قِبَل أبي بكر رضي الله عنه في الأخبار، ولم يكتفي براوٍ واحد.
وكذلك فعل عمر رضي الله عنه، فقد أخرج البخاري عَنْ أَبِي سَعِيد الخُدرِيّ، قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأنْصَارِ، إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَر ثَلاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَرَجَعْتُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاثًا فَلَئم يُؤْذَنْ لَهُ، فَلْيَرْجِعْ". فَقَالَ: وَاللَّه لَتُقِيمَنَّ عَلَيهِ بِبَيِّنَةٍ، أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ أُبَيّ بن كَعْب: واللَّه لا يَقُومُ مَعَكَ إِلا أَصغَرُ القَوْمِ، فَكُنْتُ أَصْغَر القَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ، فَأَخْبَرْتُ عُمَر أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ.
قال ابن حبان: وتَبعَ عمر على ذلك التثبت علي رضي الله عنه، باستحلاف من يحدثه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا ثقات مأمونين؛ ليعلمهم تَوَقِّي الكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: وأخرج مسلم في مقدمة "صحيحه": عَنْ طَاوس، قَالَ: جَاءَ هَذَا إِلَى ابن عَبَّاس - يَعْنِي: بُشَيْر بن كَعْب- فَجَعَلَ يُحَدِّثهُ، فَقَالَ لَهُ ابن عَبَّاس: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا. فَعَادَ لَهُ، ثُمَّ حَدَّثَهُ. فَقَالَ لَهُ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا. فَعَادَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَدْرِي أَعَرَفْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ،
وَأَنْكَرْتَ هَذَا؟ أَمْ أَنْكَرْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ، وَعَرَفْتَ هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ ابن عَبَّاس: إِنَّا كُنَّا نُحَدِّثُ عَنْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إِذْ لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ، تَرَكْنَا الحَدِيثَ عَنْهُ.
وعَنْ مُجَاهِد، قَالَ: جَاءَ بُشَيْر العَدَوِيّ إِلَى ابن عَبَّاس، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ ابن عَبَّاس لا يَأْذَنُ لِحَدِيثِهِ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابن عَبَّاس؛ مَا لِي لا أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي، أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَلا تَسْمَعُ، فَقَالَ ابن عَبَّاس: إِنَّا كُنَّا مَرَّةً، إِذَا سَمِعْنَا رَجُلا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا، وَأصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُول، لَمْ نَأْخُذْ مِنَ النَّاسِ إِلا مَا نَعْرِفُ.
وهذا الذي ذكر من احتياط بعض الصحابة في حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتثبتهم من الرواة، لم يكن كثيرًا، ولا صريحًا بالاتهام؛ لعدم كثرة دواعيه، ولما سبق من قول عمر لأبي موسى: أما إني لم أتَّهمك.
ثم تكلَّم التابعون في الجرح، وكان كلامهم في ذلك قليلا أيضًا؛ لقرب العهد بمنبع الوحي، رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعامة من تكلم فيه آنذاك إنما كان للمذهب، كالخوارج، أو لسوء الحفظ، أو الجهالة؛ فإنهم لم يكونوا يعرفوا الكذب.
قال علي بن المديني: محمد بن سيرين أوَّل من فتَّش عن الإسناد، لا نعلم أحدًا أوَّل منه.
وروى الأعمش، عن إبراهيم النخعي، قال: إنما سُئل عن الإسناد أيام المختار.
أخرج مسلم بسنده عَن ابن سِيرِين، قَالَ: لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الفِتْنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ البِدَعِ فَلا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ.
وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى خالد بن نزار، قال: سمعت مالكًا يقول: أول من أسند الحديث ابن شهاب الزهري.
وقال يحيى بن سعيد القطان: الشعبي أول من فتش عن الإسناد.
وقال يعقوب بن شيبة: سمعت علي بن المديني يقول: كان ابن سيرين ممَّن ينظر في الحديث ويفتش عن الإسناد، لا نعلم أحدًا أول منه، ثم كان أيوب، وابن عون، ثم كان شعبة، ثم كان يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي.
قال يعقوب: قلت لعلي: فمالك بن أنس؟ فقال: أخبرني سفيان بن عيينة، قال: ما كان أشد انتقاء مالك للرجال.
قال الذهبي: فأول من زكى وجرح عند انقضاء عصر الصحابة: الشعبي، وابن سيرين، ونحوهما، وحفظ عنهم توثيق أناس وتضعيف آخرين. . . .، فلما كان عند انقراض عامة