الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووجه الدلالة من الحديث؛ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نصح لفاطمة، فأعلمها بعيب أبي جهم أنه لا يضع عصاه عن عاتقه، وعيب معاوية أنه صعلوك لا مال له، وذلك لِمَا فيه من المصلحة الخاصة، فمصلحة الدِّين أَوْلَى.
وقد فهم أهل العلم من النصوص المتقدمة، أنه لا حرج عليهم أن يتكلَّموا في شخص، جارحين أو ناهين عن الرواية عنه، لما رأوا فيه من عدم الأهلية، وحثّ الناس على الرواية عن فلان، لما رأوا من الأهليَّة عنده ما يُوجب قبولهم لروايته.
قَالَ يَعْقُوب بن سفيان: سَمِعْتُ الحَسَن بن الرَّبِيع، قَالَ: قَالَ ابن المُبَارَك: المُعَلى بن هِلال هُوَ، إِلا أَنَّهُ إِذَا جَاءَ الحَدِيث يَكْذِب. قَالَ: فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّة: يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن؛ تَغْتَابُ. قَالَ: اسْكُتْ، إِذَا لَمْ نُبَيِّنْ، كَيْفَ يُعْرَفُ الحَقُّ مِنَ البَاطِلِ؟ أَوْ نَحْو هَذَا مِن الكَلامِ.
عَنْ عَمْرو بن عَلِيّ، ثنا عَفَّان، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ إِسْمَاعِيل ابن عُلَيَّة جُلُوسًا، فَحَدَّثَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِثَبتٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: اغْتَبْتَهُ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: مَا اغْتَابَهُ، وَلَكِنَّهُ حَكَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِثَبتٍ.
وقال مسلم في مقدمة "صحيحه"، (بَابُ الكَشْفِ عَنْ مَعَايِبِ رُوَاةِ الحَدِيثِ، وَنَقَلَةِ الأخْبَارِ، وَقَوْلُ الأئِمَّةِ فِي ذَلِكَ)، ثم نقل كلامًا كثيرًا، وختمه بقوله: وإِنَّمَا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُم الكَشْفَ عَنْ مَعَايِبِ رُوَاةِ الحَدِيثِ، وَنَاقِلِي الأَخْبَارِ، وَأَفْتَوْا بِذَلِكَ حِينَ سُئِلُوا، لِمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الخَطَرِ؛ إِذِ الأخْبَارُ فِي أَمْرِ الدِّينِ إِنَّمَا تَأْتِي بِتَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، أَوْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، أَوْ تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ، فَإِذَا كَانَ الرَّاوِي لَهَا لَيْسَ بِمَعْدِنٍ لِلصِّدْقِ وَالأمَانَةِ، ثُمَّ أَقْدَمَ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ مَنْ قَدْ عَرفَهُ، وَلَم يُبَيِّنْ مَا فِيهِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ جَهِلَ مَعْرِفَتهُ، كَانَ آثِمًا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ، غَاشًّا لِعَوَامِّ المُسْلِمِينَ؛ إِذْ لا يُؤْمَنُ عَلَى بَعْضِ مَنْ سَمِعَ تِلْكَ الأخْبَار أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا، أَوْ يَسْتَعْمِلَ بَعْضَهَا، وَلَعَلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا أَكَاذِيبُ لا أَصْلَ لَهَا، مَعَ أَنَّ الأخْبَارَ الصِّحَاحَ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ وَأَهْلِ القَنَاعَةِ، أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى نَقْلِ مَنْ لَيْسَ بثِقَةٍ وَلا مقنعٍ، وَلا أَحْسِبُ كَثِيرًا مِمَّنْ يُعَرِّجُ مِنَ النَّاسِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ هَذِهِ الأحَادِيثِ الضِّعَافِ، وَالأسَانِيدِ المَجْهُولَةِ، وَيَعْتَدُّ بِرِوَايَتِهَا بَعْدَ مَعْرفَتِهِ بِمَا فِيهَا مِنَ التَّوَهُّنِ وَالضَّعْفِ، إِلا أَنَّ الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى رِوَايَتِهَا وَالاعْتِدَادِ بِهَا، إِرَادَةُ التَّكَثُّرِ بِذَلِكَ عِنْدَ العَوَامِّ، وَلأنْ يُقَالَ: مَا أَكْثَرَ مَا جَمَعَ فُلانٌ مِنَ الحَدِيثِ، وَأَلَّفَ مِنَ العَدَدِ، وَمَنْ ذَهَبَ فِي العِلْمِ هَذَا المَذْهَبَ وَسَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ، فَلا نَصِيبَ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ بِأَنْ يُسَمَّى جَاهِلا أَوْلَى مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى عِلْمٍ.
وقال أبو حاتم ابن حبان: فهؤلاء الأئمة المسلمون، وأهل الورع في الدِّين، أباحوا القدح في المحدِّثين، وبيَّنوا الضعفاء والمتروكين، وبينوا أن السكوت عنه ليس ممَّا يحل، وأن إبداءه أفضل من الإغضاء عنه، وقدَّمهم فيه أئمة قبلهم، ذكروا بعضه وحثُّوا على أخذ العلم من أهله.
خامسًا: متى تُباح الغيبة
الأصْل فِي الغيبَةِ التَّحْرِيمُ، لِلأدِلَّةِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيّ وَغَيرُهُ مِنَ
العُلَمَاءِ أُمُورًا سِتَّة، تُبَاحُ فِيهَا الغيبَة لِمَا فِيهَا مِن المَصْلَحَةِ؛ ولأنَّ المُجَوِّزَ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ، لا يُمْكِنُ الوُصُول إِلَيْهِ إِلا بِهَا، وَتِلْكَ الأمُورُ هِيَ:
الأوَّل: التَّظَلُّمُ. يَجُوزُ لِلمَظْلُومِ أَنْ يَتَظَلَّمَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَالْقَاضِي، وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَهُ وِلايَةٌ، أَوْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْصَافِهِ مِنْ ظَالِمِهِ، فَيَذْكُرُ أَنَّ فُلانًا ظَلَمَنِي، وَفَعَل بِي كَذَا، وَأَخَذَ لِي كَذَا، وَنَحْو ذَلِكَ.
الثَّانِي: الاسْتِعَانَة عَلَى تَغْيِيرِ المُنْكَرِ وَرَدِّ العَاصِي إِلَى الصَّوَابِ. وبيانهُ أَنْ يَقُول لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتَهُ عَلَى إِزَالَةِ المُنْكَرِ: فُلانٌ يَعْمَل كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيَكُونُ مَقْصُودُهُ إِزَالَة المُنْكَر، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا.
الثَّالِثُ: الاسْتِفْتَاءُ. وَبيانهُ أَنْ يَقُول لِلمُفْتِي: ظَلَمَنِي أَبِي، أَوْ أَخِي، أَوْ فُلانٌ بِكَذَا. فَهَل لَهُ ذَلِكَ أَمْ لا؟ وَمَا طَرِيقِي فِي الخَلاصِ مِنْهُ، وَتَحْصِيل حَقِّي، وَدَفْع الظُّلْمِ عَنِّي؟ وَنَحْو ذَلِكَ، فَهَذَا جَائِزٌ لِلحَاجَةِ. وَلَكِنَّ الأحْوَطَ أَنْ يَقُول: مَا تَقُول فِي رَجُلٍ كَانَ مِنْ أمْرِهِ كَذَا، أَوْ فِي زَوْجٍ، أَوْ زَوْجَةٍ تَفْعَل كَذَا، وَنَحْو ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْصل لَهُ الغَرَضُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالتَّعْيِينُ جَائِزٌ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَة رضي الله عنها: قَالَتْ هِنْد أمُّ معَاوِية لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَبَا سفيان رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ قَالَ:"خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالمَعْرُوفِ"، وَلَمْ ينْههَا رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
الرَّابعُ: تَحْذِيرُ المُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرِّ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيّ:
أَوَّلا: جَرْحُ المَجْرُوحِينَ مِنَ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالإجْمَاعِ، بَل وَاجِبٌ؛ صَوْنًا لِلشَّرِيعَةِ.
ثَانِيًا: الإخْبَارُ بِغيبَةٍ عِنْدَ المُشَاوَرَةِ فِي مُصَاهَرَةٍ وَنَحْوِهَا.
ثَالِثًا: إِذَا رَأَيْت مَنْ يَشْتَرِي شَيْئًا مَعِيبًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، تَذْكُرُ لِلْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يُعْلِمْهُ؛ نَصِيحَة لَهُ، لا لِقَصْدِ الإيذَاءِ والإفْسَادِ.
رَابِعًا: إِذَا رَأَيْت مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّدُ إِلَى فَاسِقٍ، أَوْ مُبْتَدِعٍ يَأْخُذُ عَنْهُ عِلْمًا. وَخِفْت عَلَيْهِ ضَرَرَهُ، فَعَلَيْك نَصِيحَتُهُ بِبيان حَالِهِ قَاصدًا النَّصِيحَةَ.
خَامِسًا: أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلايَةٌ لا يَقُومُ لَهَا عَلَى وَجْهِهَا، لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ أَوْ لِفِسْقِهِ، فَيَذْكُرُهُ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلايَة؛ لِيَسْتَبْدِل بِهِ غَيْرَهُ أَوْ يَعْرف، فَلا يَغْتَرَّ بِهِ وَيُلْزِمُهُ الاسْتِقَامَةَ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ. فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ، وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ العُيُوبِ، إِلا أَنْ يَكُونَ لِجَوَازِهِ سَبَبٌ آخَر.
السَّادِسُ: التَّعْرِيفُ. فَإِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِلَقَبٍ؛ كَالأَعْمَش وَالأعْرَج، وَالأزْرَق وَالْقَصِير، وَالأعْمَى وَالأقْطَع، وَنَحْوهَا، جَازَ تَعْرِيفُهُ بِهِ، وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِهِ تَنَقُّصًا، وَلَوْ أَمْكَنَ التَّعْرِيفُ بِغَيْرِهِ كَانَ أَوْلَى.