الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن عبد اللَّه بن عمار الموصلي، وغيرهم، رحمهم الله.
وقد تناول المحدِّثون هذا النوع من العلوم بالبيان والشرح والتأليف، واختلفت مقاصدهم في ذلك:
فألَّف البعض في الثقات، وألف بعضهم في الضعاف، وألف بعضهم في الثقات والضعفاء معًا.
كما أن بعضهم اهتمَّ بطبقات الرواة، وأنسابهم، وأوطانهم، ووفياتهم، واهتم البعض بنوع خاص من الثقات، واهتم البعض بنوع خاص من الضعفاء، واللَّه أعلم.
رابعًا: مشروعية الجرح والتعديل
الكلام في الرجال من أجل الاحتياط للدِّين مشروع بالكِتاب والسُّنَّة. قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، وقال تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]. وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، وقال تعالى:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95].
ففي الآية الأولى يأمر اللَّه تعالى بالتثبت في الأخبار، وفي الآيات الأخرى يطلب اللَّه تعالى العدل والرضى في الشهود.
ومعلوم أن الأمر بالتثبت في الأخبار في الآية الأولى عام، فالأخبار التي تُنقل عن اللَّه ورسوله تدخل فيها دخولا أوليًّا.
وطلب الرضى والعدل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي هو دِين للأمَّة وتشريع لها، وهو المصدر الثاني في التشريع، أَوْلَى من أن يُطلب في الشهادة.
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من جرح وعدل. روى الخطيب البغدادي، عَن ابن المُنْكَدِر: سَمِعَ عُرْوَة بن الزُّبَير يَقُولُ: حَدَّثَتْنَا عَائِشَة رضي الله عنها: أَنَّ رَجُلا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ رَجُلُ العَشِيرِ، أَوْ بِئْسَ رَجُلُ العَشِيرَةِ. فَلَمَّا دَخَلَ أَلانَ لَهُ القَوْلَ، قَالَتْ عَائِشَة: يَا رَسُولَ اللَّه؛ قُلْت لَهُ الَّذِي قُلْتَ، فَلَمَّا دَخَلَ أَلَنْتَ لَهُ القَوْلَ. قَالَ: يَا عَائِشَة؛ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ، أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ".
فَفِي قَوْلِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لِلرَّجُلِ: "بِئْسَ رَجُلُ العَشِيرَةِ"، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِخْبَارَ المُخْبِر بِمَا يَكُونُ فِي الرَّجُلِ مِنَ العَيْب، عَلَى مَا يُوجِبُهُ العِلْمُ وَالدِّينُ مِنَ النَّصِيحَةِ لِلسَّائِلِ، لَيْسَ بِغيبَةٍ، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ غيبَة لَمَا أَطْلَقَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَإنَّمَا أَرَادَ صلى الله عليه وسلم بِمَا ذَكَرَ فِيهِ، واللَّه أعلم.
أن يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الحَالَة المَذمُومَة مِنْهُ، وَهِيَ الفُحْشُ فَيَجْتَنِبُوهَا، لا أَنَّهُ أَرَادَ الطَّعْنَ عَلَيْهِ والثَّلب لَهُ، وَكَذَلِكَ أَئِمَّتُنَا فِي العِلْمِ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ، إِنَّمَا أَطْلَقُوا الجَرْحَ فِيمَن لَيْسَ بِعَدْلٍ؛ لِئَلا يَتَغَطَّى أَمْرُهُ عَلَى مَنْ لا يخبره، فَيَظُنُّهُ مِنْ أَهْلِ العَدَالَةِ فَيَحْتَجُّ بِخَبَرِهِ، وَالإخْبَارُ عَنْ حَقِيقَةِ الأمْرِ إِذَا كَانَ عَلَى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لا يَكُونُ غيبَة.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ فَاطِمَة بِنْت قَيْس، الَّذِي أَخْبَرَنَاهُ عَبْد الرَّحْمَن بن عُبَيْد اللَّه الحربي، أنَّا مُحَمَّد بن عَبْد اللَّه الشَّافِعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاق بن الحَسَن الحربي، ثنا عَبْد اللَّه بن مَسْلَمَة القَعْنَبِيّ، عَن مَالِك. ح، وَأَخْبَرَنَاهُ الحَسَن بن أَبِي إِسْحَاق القَاضِي، حَدَّثَنَا أَبُو مُصْعَب، ثنا مَالِك بن أَنَس، عَنْ عَبْد اللَّه بن يَزِيد مَوْلَى الأسْوَد بن سفيان، عَن أَبِي سَلَمَة بن عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ فَاطِمَة بِنْت قَيْس: أَنَّ أَبَا عَمْرو بن حَفْص طَلَّقَهَا ألبَتَّة وَهُوَ غَائِبٌ بِالشَّامِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلهُ بِشَعِيرٍ فَتَسَخَّطَتْهُ، فَقَالَ: وَاللَّه مَا لَكِ عَلَينَا مِنْ شَيْءٍ. فَجَاءَتْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:"لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ. وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيك، ثُمَّ قَالَ: تلك امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابن أُمِّ مَكْتُوم، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضعِينَ ثِيَابَكِ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي. قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ، ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوَية بن أَبِي سفيان وَأَبَا جَهْمِ خَطَبَانِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أَمَّا أَبُو جَهْم فَلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأمَّا مُعَاوِيَة فَصُعْلُوك لا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَة بن زَيْد. قَالَتْ: فَكَرِهْتُهُ. ثُمَّ قَالَ: انْكِحِي أُسَامَة بن زَيْد". فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللَّه فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا وَاغْتَبَطْتُ بِهِ.
فِي هَذَا الخَبَر دِلالَةٌ عَلَى أَنَّ إِجَازَةَ الجَرْحِ لِلضُّعَفَاءِ مِنْ جِهَةِ النَّصِيحَةِ، لِتُجْتَنَبَ الرِّوَايَة عَنْهُمْ، وَلِيُعْدَلَ عَن الاحْتِجَاجِ بِأَخْبَارِهِمْ، لأنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذَكَرَ فِي أَبِي جَهْم:"أَنَّهُ لا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ"، وَأَخْبَرَ عَنْ مُعَاوِيَةَ:"أَنَّهُ صُعْلُوك لا مَالَ لَهُ"؛ عِنْدَ مَشُورَةٍ اسْتُشِيرَ فِيهَا، لا تَتَعَدَّى المُسْتَشِيرَ.
كَانَ ذِكْر العُيُوب الكَامِنَةِ فِي بَعْضِ نَقَلَةِ السُّنَنِ، الَّتِي يُؤَدِّي السُّكُوتُ عَنْ إِظْهَارِهَا عَنْهُمْ وَكَشْفِهَا عَلَيْهِمْ، إِلَى تَحْرِيمِ الحَلالِ وَتَحْلِيلِ الحَرَامِ، وَإِلَى الفَسَادِ فِي شَرِيعَةِ الإسْلامِ، أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَأَحَقَّ بِالإظْهَارِ.
وَأَمَّا الغيبَة الَّتِي نَهَى اللَّه تَعَالَى عَنْهَا بِقَوْلِهِ عز وجل: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]. وَزَجَرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْهَا بِقَوْلِهِ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخلِ الإيمَانُ قَلْبَهُ، لا تَغْتَابُوا المُسْلِمِينَ وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ". فَهِيَ ذِكْرُ الرَّجُل عُيُوبَ أَخِيهِ، يَقْصدُ بِهَا الوَضْعَ مِنْهُ وَالتَّنْقِيصَ لَهُ، وَالإزْرَاءَ بِهِ فِيمَا لا يَعُودُ إِلَى حُكْمِ النَّصِيحَةِ، وإِيجَاب الدِّيَانَة مِنَ التَّحْذِيرِ عَن ائْتِمَانِ الخَائِنِ، وَقَبُول خَبَر الفَاسِقِ، وَاسْتِمَاع شَهَادَة الكاذِبِ.
قال ابن رجب: وكذلك يجوز ذكر العيب، إذا كان فيه مصلحة خاصة، كمن يستشير في نكاح أو معاملة.