الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة وجسر
لقد أنهينا عرض ما تيسر عرضه من نصوص الصلاة ومن فقهها، وقد مر معنا من قبل بمناسبة الكلام عن السيرة والعقائد كلام عن الصلاة، وستمر معنا مناسبات أخرى ستذكر الصلاة في سياق نصوص تتحدث عن الصلاة وغيرها بآن واحد، ولا غرو أن أخذت الصلاة هذا الحجم الكبير، فإنها أهم ما بعث به الرسل عليهم الصلاة والسلام بعد العقيدة، وإذا كانت الصلاة عبادة بدنية وكان الهدف منها إقامة الشكر لله تعالى بأفعالها وأذكارها وكل ذلك ذكر لله تعالى، وإذا كانت قراءة القرآن فيها ركناً من أركانها فقد اخترنا أن يكون الجزءان اللاحقان في تلاوة القرآن وبعض المأثور في تفسيره، وفي الأذكار والدعوات لأن هذين الجزءين مكملان في الحقيقة للحكمة التي من أجلها شرعت الصلاة، وقد جعلنا هذه الخاتمة بمثابة الإشارة الأخيرة للصلاة وبمثابة الجسر الذي يوصل للحديث عن الجزءين اللاحقين من هذا القسم.
القرآن ذكر بنص القرآن
قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1). لاحظ في الآية كلمة {الذِّكْرُ} وكلمة {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
وإذ كانت الحكمة في فرض الصلاة الذكر قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (2) وإذ كان القرآن ذكراً فقد جعلنا تلاوة القرآن بعد جزء الصلاة لأنها امتداد لعبادة الصلاة، كيف وقراءة القرآن ركن من أركان الصلاة تذكر قوله تعالى في الآية المتقدمة {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فإنك تدرك من خلالها أن القرآن مثير للفكر وباعث له ومهيج عليه، فإذا كان في الوقت نفسه ذكراً، عرفنا أهمية القرآن في العبادة.
فالذكر والتفكر هما اللذان يوصلان الإنسان إلى التذكر بالحقائق المجبولة عليها ذاته وفي مقام العبودية لله ومقتضياه، وإنما يفعل القرآن ذلك كله إذا اجتمع مع
(1) النحل: 44.
(2)
طه: 14.
تلاوته التدبر قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) ومن ها هنا كانت تلاوة القرآن مكملة للصلاة فلا عجب أن نجعلها بعد الصلاة. ومما يذكر به القرآن العودة إلى الله والحشر والنشر وهذا يبعث على التأمل باليوم الآخر والمحاسبة المستمرة للنفس والاستعداد للموت قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (2).
لذلك ولكون التأمل جزءاً من التفكر، وهو مما تثيره تلاوة القرآن في النفس فقد ذكرنا هذا الموضوع بعد الصلاة لأنه مكمل لها في هذه الشؤون كلها.
وتلاوة القرآن تكون أثراً عن قراءة في المصحف أو عن حفظ لقرآن، وقد جاءت نصوص تحض على حفظ القرآن كله أو على حفظ سور أو آيات مخصوصة، والحفظ عبادة زائدة على مجرد التلاوة لذلك أدخلنا النصوص الواردة في الحفظ في الجزء اللاحق لأنه من العبادات المباشرة كالصلاة.
وقد جرت عادة المؤلفين أن يجمعوا بين النصوص الواردة في التلاوة والحفظ والتفسير في كتاب واحد وذلك أن من آداب التلاوة التدبر، ومما يعين على التدبر معرفة المعنى فأدخلنا هذا كله في الجزء اللاحق.
وقد مر معنا في بحث الصلاة كلام عن قراءة القرآن في الصلاة وما هو مسنون فيها، كما مر معنا في قيام الليل شيء عن ذلك فليبق الإنسان على ذكر من ذلك، ومن فاته أن يقرأ المسنون في الصلوات المفروضة أو المسنون في صلاة الليل فلا تفوته القراءة ولو لم تكن في صلاة.
كما مر معنا نصوص لها علاقة بسجدات القرآن أشرنا إليها أثناء الكلام عن سجدات التلاوة.
وفي الصلاة ذكر وتذكر ودعاء وتلاوة قرآن وتفكر وتأمل ففيها تسبيح وحمد،
(1) ص: 29.
(2)
الحشر: 18.
وفيها تذكر لليوم الآخر، وفيها دعاء في الفاتحة وغيرها، وفيها تلاوة قرآن أثناء القيام حقيقة أو حكماً وفيها تفكر وتأمل بمعانيها، وكما شرعت هذه المعاني داخل الصلاة فقد شرعت خارجها بل إن ما شرع في الصلاة هو الحد الأدنى منها وإن كان هو المقام الأرقى لأدائها.
{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (1) تأمل هذا الثناء العاطر عليهم إذ يتلون الكتاب في صلاتهم ولكن كما شرع لنا أن نتلو الكتاب في صلاتنا فقد شرع لنا أن نتلو القرآن خارج الصلاة وكذلك قل في الذكر والتذكر والدعاء والتفكر والتأمل، بل هذه خارج الصلاة تكمل الصلاة في آثارها وتأثيرها وتقريبها إلى الله وإبعادها عن الفحشاء والمنكر.
{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (2).
ولا ننسى أن من لم يقم الصلاة فقد أسقط الفرض الأكبر في الذكر ومما ذكرناه ندرك أن هناك صلة تكاملية بين الصلاة وتلاوة القرآن والأدعية والأذكار.
فلنتأمل معنى كلمة أركان الإسلام: إن الركن هنا ما قام عليه غيره لأن أصل المعنى مأخوذ من قوله عليه الصلاة والسلام "إن الإسلام بني على خمس
…
" ترى أي شيء بني على الصلاة في الإسلام؟.
إن الصلاة في الإسلام هي ركن العبادات الذكرية والتأملية وعلى هذا فكل العبادات الذكرية والتأملية ترتكز عليها وتعاونها وبقدر ما يقوم ركن الصلاة وترفده مكملاته من تلاوة وأذكار وأدعية يزيد ذلك من إشراق الإيمان في القلب ويؤثر ذلك على إقامة حق الله في بقية الأركان وفي السلوك إلى الله ومن هنا نجد الصلة بين العبادة والهداية في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (3).
(1) آل عمران: 113.
(2)
العنكبوت: 45.
(3)
الفاتحة: 5، 6.
ولذلك جعلنا الجزء الثاني في هذا القسم في الصلوات والجزء الثالث في التلاوة والجزء الرابع في الأدعية والأذكار، فالتلاوة الصحيحة والأدعية والأذكار وما يرافق ذلك من تفكر وتأمل وتذكر عبادات متممة ومكملة للصلاة ولدورها في إصلاح القلب والسلوك.
والصلوات والأذكار والأدعية وتلاوة القرآن هي المظهر الأوضح لعبادة الله وهي بجملتها ذات تأثير يومي مباشر على سلوك الإنسان، فالزكوات والصدقات والصوم والحج والجهاد كلها تأخذ محلها في سلم العبادة، ولها تأثيرها ودورها في تزكية النفس وفي سلوك الإنسان، ولكن الزكاة المفروضة تؤدى مرة في العام وكذلك الصوم المفروض، والحج المفروض يؤدى مرة في العمر، والجهاد المفروض يكون أحياناً فرض عين وأحياناً فرض كفاية وأحياناً لا تتوافر أسبابه، وحتى نوافل هذه العبادات لا تستغرق من الوقت ما يمكن أن تستغرقه الصلوات والأذكار والدعوات وتلاوة القرآن من مجمل العمر التكليفي.
فهناك صلوات يومية فرائض ونوافل ويندب للإنسان يومياً أن يقرأ القرآن ويدعو ويذكر ويتذكر ويتأمل، ولذلك قلنا إن الصلوات وهذه العبادات الأخرى هي المظهر الأول للعبادة، وبقدر ما يؤديها الإنسان يكون محققاً للحكمة من وجوده وإيجاده:.
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1).
كما أنها هي العامل الأكبر في إبقاء حياة العقيدة في القلب وحيويتها.
إن ميزان السير إلى الله والعمل لليوم الآخر يتمثل بنيتين:
العلم والذكر:
2336 -
* روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونة
(1) الذاريات: 56.
2336 -
ابن ماجه (2/ 1377) 37 - كتاب الزهد، 3 - باب مثل الدنيا، وهو حسن.
ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً".
وإذن فبقدر ما تعطي من وقتك للعلم الأخروي والذكر تعطي للآخرة، ومع أن أي عمل من أعمال الإسلام ولو لم يكن فيه ذكر مباشر هو ذكر ضمني، فإن الذكر المباشر هو أول ما ينطبق عليه وصف الذكر:
والصلاة كلها ذكر، وتلاوة القرآن كلها ذكر، والدعوات والأذكار كلها ذكر وهذه كلها تقتضي تأملاً وتدبراً وتفكراً والتأمل والتذكر والتفكر ذكر في النهاية لذلك قلنا إن هذه الأمور هي المظهر الأول للعبادة.
فإذا عرفنا أن الدعاء هو العبادة، وان التلاوة أرقى من الدعاء ففي الحديث الذي.
2337 -
* روى الترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شغله قراءة القرآن عن مسألتي: أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".
تأكد لك ما ذكرناه عن الصلوات والأذكار والدعوات وتلاوة القرآن.
وقد جرت عادة أهل السلوك إلى الله مع اهتمامهم الزائد بالصلاة فريضة ونافلة أن يرتبوا على أنفسهم ورداً يومياً يجمع بين الذكر من استغفار إلى صلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تهليل وتسبيح وبين تلاوة القرآن وبين التفكر في الملك والملكوت والتأمل في اليوم الآخر، وأن يحاولوا مع هذا الإكثار بقية يومهم وليلتهم من الذكر والتفكر تحقيقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية وقياماً بحق قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1).
ويحرصون أن يتلقوا ذلك عن أهل العلم والسير إلى الله تحقيقاً لسنة التلقن
2337 - الترمذي (5/ 184) 46 - كتاب فضائل القرآن، 25 - باب.
وقد أخرجه الترمذي لكن إسناده ضعيف وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب ولعله حسن ببعض الشواهد.
(1)
آل عمران: 190، 191.
والتلقين التي كانت هي السائدة وهي الأصل في حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وتابع التابعين بإحسان فهم يحرصون على إحياء سنة التلقن القرآني عن أهل ذلك، وسنة التلقن للسنة النبوية عن أهل ذلك، وسنة التلقن للأذكار والدعوات عن أهل ذلك، فمع التلقن تسري أنوار وأسرار إلى القلوب وعند عدم تيسر التلقن والتلقين، فالمطالعة والمذاكرة والمجالسة من الوسائل التي تنوب عن الأصل حال فقده.
وقد ورد في تلاوة القرآن نصوص كثيرة في الكتاب والسنة وقد فرض علينا أن نقرأ القرآن كما أنزل، وهذا يقتضي أن نقرأه كما أقرأنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمر رسول الله أن يقرأه مرتلاً {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (1) لذلك كان أخذ القرآن من أهله وقراءته على الطريقة التي كان يؤديها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرائض وقد استقرأ علماء المسلمين طرق الأداء واستخرجوا أحكام ترتيل القرآن على كل الروايات التي وردتنا بالطرق المتواترة عن رسولنا عليه الصلاة والسلام فبأي رواية قرأ المسلم القرآن فعليه أن يلاحظ هذه الأحكام، ولذلك افترض على مريد قراءة القرآن أن يعرف هذه الأحكام، وافترض على من يحفظ شيئاً من القرآن أن يحفظه ملاحظاً هذه الأحكام وهذا يقتضي الاهتمام بحلقات القرآن وقراءته وإقرائه ومعرفة أحكام ترتيله.
وقد نزل القرآن على سبعة أحرف ليسع لهجات العرب وطرائقهم في النطق وقد جمع القرآن كتابة في عهد خلافة أبي بكر على الرسم الذي يلحظ لغة قريش، ثم عمم ذلك عثمان رضي الله عنه فما وافق هذا الرسم من الأحرف السبعة لا زال حياً وما خالفه فقد انتهى دوره لإمكانية أن يستقيم لسان الأمة على ما وافق هذا الرسم بعد المرحلة الانتقالية فإذا ما ورد شيء من ذلك فإما أنه منسوخ أو أنه من باب التفسير لأن مصحف عثمان أجمع عليه الصحابة أنه كله قرآن غير منسوخ التلاوة، وهو منقول تواتراً ولم يتوافر لغيره هذان الشرطان فإذا ما سمعنا كلمة القراءات السبع أو القراءات العشر فليس المراد من ذلك الأحرف السبعة التي وردت في النصوص بل هي متضمنة لشيء من الأحرف السبعة مما وافق الرسم العثماني للمصحف، والمحافظة على هذه
(1) المزمل: 4.
القراءات من فروض الكفايات التي تلزم بها الأمة. وحفظ ما يلزم المسلم لإقامة صلواته واجب عيني وحفظ جميع القرآن سنة عينية وأن يكون لنا وردنا اليومي من تلاوة القرآن فذلك سنة عينية لمن كان قلبه سليماً وإيمانه كاملاً وفطرته مستقيمة، أما من كان في قلبه أمراض وتعينت تلاوة القرآن لشفائها، فهذا القدر في حقه فريضة عينية. قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) بل كل الفرائض التي تتحقق بدون التلاوة تجعل هذا القدر من التلاوة فريضة عينية وقل مثل ذلك في الحفظ فالمسلم مكلف بطمأنينة القلب وبسلامته وعمارته بالأنوار، ولتلاوة القرآن ولحفظ بعضه دخل في ذلك.
ومن ههنا كان للتلاوة اليومية ولحفظ القرآن وقراءته وإقرائه فضل عظيم.
وها إن الجزء اللاحق يعطيك تصوراً عن كثير مما ينبغي معرفته عن القرآن وعن القيام بحقوقه بالقدر الذي يتفق مع مقاصد هذا الكتاب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
(1) يونس: 57.