الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسائل وفوائد
جاء في "المدونة"(1/ 193) للإمام مالك رواية الإمام سحنون بن سعيد التنوخي عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم: قال مالك: بعث إلى الأمير، وأراد أن ينقص من قيام رمضان الذي كان يقوم الناس بالمدينة- قال ابن القاسم: وهو تسعة وثلاثون ركعة بالوتر، ست وثلاثون ركعة، والوتر ثلاث- قال مالك: فنهيته أن ينقص من ذلك شيئاً، وقلت له: هذا ما أدركت الناس عليه، وهذا الأمر القديم الذي لم يزل الناس عليه.
أقول: الظاهر أن المراد بالقيام هنا مجموع صلاة التراويح والتهجد والوتر بآن واحد، وقد مرت معنا روايات تذكر أن أهل المدينة توارثوا صلاة التراويح عشرين ركعة، ولكن الظاهر أنهم حافظوا على العشرين وأحيوا سنة التهجد بعد النوم، فكان مجموع قيامهم ما ذكر في المدونة، وعلى ذلك نحمل كل رأي يزيد عن العشرين ركعة في قيام رمضان جماعة، لأن الذي استقرت عليه فتاوى المذاهب الأربعة كما سنرى هو أن صلاة التراويح عشرون ركعة وعليه العمل في مساجد المسلمين.
- جاء في فتاوى ابن تيمية رحمه الله (2/ 401) أن قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيناً، بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان، ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث، وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من الركعات لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث، وهذا كله سائغ، فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه، فقد أحسن، والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه، فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين، وإن قام بأربعين وغيرها، جاز ذلك، ولا يكره شيء من ذلك،
وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة، كأحمد وغيره، ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه، ولا ينقص منه، فقد أخطأ.
- لقد ذكرنا أن الذي استقرت عليه الفتوى في المذاهب الأربعة واستقر عليه العمل أن تصلى التراويح عشرين ركعة في رمضان وأن يوتر بعدها بثلاث جماعة لمن ليس في نيته أن يتهجد، فيوتر بعد تهجده، وها نحن نستخلص لك مع شيء من التصرف الذي لا يخل بالمعنى فتاوي المذاهب الأربعة في صلاة التراويح مع مقدمة تمهد لهذا الموضوع.
- روى الطحاوي بسند لا بأس به عن مجاهد، قال:"قال رجل لابن عمر رضي الله عنه: أصلي خلف الإمام في رمضان، فقال: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم! قال: في بيتك". ا. هـ (1 - 207). وفي "المغني" للحافظ ابن قدامة: والمختار عند أبي عبد الله (أحمد) فعلها في الجماعة، وإن كان رجل يقتدى به فصلاها في بيته مخافة أن يقتدي الناس به، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم:"اقتدوا بالخلفاء"، وقد جاء عن عمر أنه كان يصلي في الجماعة، وبهذا قال المزني، وابن عبد الحكم، وجماعة من أصحاب أبي حنيفة. قال أحمد: كان جابر، وعلي وعبد الله، يصلونها في جماعة، قال الطحاوي: كل من اختار التفرد ينبغي أن يكون ذلك على أن لا يقطع معه القيام في المساجد، فأما التفرد الذي يقطع معه القيام في المساجد فلا، ويروى نحو هذا عن الليث بن سعد. وقال مالك والشافعي: قيام رمضان لمن قوي في البيت أحب إلينا، لما روى زيد بن ثابت في قصة صلاة الناس بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض ليالي رمضان، ثم جاؤوا ليلة فأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ولم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً، فقال:"ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة". رواه مسلم. ولنا إجماع الصحابة على ذلك، وجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأهله في حديث أبي ذر، (رواه الترمذي وصححه وقد تقدم في المتن) وقوله:"إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة"، عام وهذا خاص في قيام رمضان، فيقدم على عموم ما احتجوا به، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لهم معلل بخشية فرضه عليهم، ولذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم
القيام بهم معلاً بذلك أيضاً. وقد أمن أن يفعل بعده. أ. هـ (الإعلاء السنن 7/ 62).
أقول: صلى الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض أصحابه جماعة في رمضان أياماً ثم خشي أن تفرض صلاة القيام في رمضان جماعة على المسلمين لرغبتهم وحرصهم، وهو يعلم من سنة الله ما لا نعلم فيعلم من سنة الله أن عباده إذا شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم، ولذلك فقد ترك الخروج حتى لا تفرض صلاة قيام الليل في رمضان على المسلمين جماعة في المسجد، إلا أن المسلمين فهموا من عدم النهي عن صلاة الجماعة في قيام رمضان جوازها، فكانوا يصلونها جماعات متفرقة، وبقي الأمر على ذلك حتى عهد عمر رضي الله عنه، فرأى عمر بثاقب بصره أن العلة التي جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتابع إمامة الناس في قيام رمضان وهي الخشية من الفرضية قد انتهت بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، فجمع الناس على إمام واحد وعلى عدد من الركعات محدد، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة الجمع أو العدد، فكان ذلك إجماعاً منهم على جواز ما فعل، وإذ كان بإجماع أهل السنة والجماعة من الخلفاء الراشدين وإذا كانت النصوص تخصه بمزيد شهادة على أن الله أجرى الحق على لسانه، وقد اعتبر علماء المسلمين أن الاقتداء بما فعل على سلامة القلب من الزيغ واعتبروا أن من لا يرى جواز ما فعل مبتدع، فالأصل أن يرى المسلم جواز صلاة التراويح بالعدد الذي جمع عمر المسلمين عليه وهو عشرون ركعة والأصل أن تصلى التراويح في المساجد عشرين ركعة والمسلم بالخيار أن يصلي ما شاء منها مع الإمام، فلو صلى ركعتين أو أكثر أو لو لم يصل شيئاً- على ألا تعطل التراويح في أي مسجد- فلا حرج عليه، ولو صلاها كلها وأخر الوتر وذهب إلى بيته وصلى ما شاء فلا حرج عليه، المهم ألا ينكر على من فعلها فيخالف بذلك إجماعاً ويدخل في دائرة البدعة والمبتدعة الذين يسيئون لأنفسهم ولغيرهم، ويضلون أنفسهم ويضلون غيرهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولنا عودة على قيام رمضان وصلاة التراويح إن شاء الله تعالى في جزء الصوم، أما ههنا فنكتفي بذكر أقوال المذاهب الأربعة في هذا الشأن.
قال الحنفية: التراويح سنة مؤكدة للرجال والنساء، ويسن فيها الجماعة، ووقتها في رمضان بعد صلاة العشاء إلى الفجر قبل الوتر وبعده، وتصلى في أي جزء من الليل ويستحب ألا تؤخر عن نصف الليل، ولا تقضى عندهم إذا فاتت، ومن أراد أن يعوض عما فاته فإنه يصلي بعد ارتفاع الشمس نفلاً مطلقاً، والجماعة فيها في المسجد سنة على الكفاية،
فلو تركها أهل مسجد أثموا، وتؤدى أيضاً فرادى أو جماعة في البيوت، وإذا كان عند المسلمين همة فالأفضل أن يختم فيها القرآن مرة في شهر رمضان وإلا روعي حال المصلين، فيصلي بهم الإمام بقدر طاقتهم، على أن تؤدى أركان الصلاة وواجباتها وسننها وآدابها كاملة، وعدد ركعاتها عشرون ركعة، تؤدى ركعتين ركعتين بعشر تسليمات ثم يوتر بعدها بجماعة وقراءة جهرية وقنوت سري قبل الركوع في الركعة الثالثة، ويراعي الإمام حال المأمومين فيجلس بعد كل أربع ركعات جلسة خفيفة يستريح بها الناس قليلاً، فمن أراد أن يشرب مثلاً يتاح له ذلك، وقد جرت عادة الناس في كثير من مساجد المسلمين أن يقرؤوا في كل جلسة استراحة بعد كل أربع ركعات سورة الإخلاص ثلاث مرات يقرؤها ثلاثة كل يقرؤها مرة واحدة وذلك يفعلونه تعويضاً عن إطالة القراءة في الصلاة، ولا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى.
انظر: (اللباب 1/ 122)، و (الدار المختار، حاشية ابن عابدين 1/ 472 - 475).
وقال المالكية: التراويح عشرون ركعة وهي سنة مؤكدة يسلم في نهاية كل ركعتين، ومن صلاها في بيته منفرداً فله أجره على ألا تعطل المساجد، ويندب لمن هم محل القدوة أن يصلوها في المساجد، وإذا كان عند القوم همة فإنه يندب للإمام أن يختم بهم القرآن ختمة فيها، ثم بعد العشرين ركعة تصلى الوتر. (انظر الشرح الصغير 1/ 404 - 405).
وقال الشافعية: صلاة التراويح عشرون ركعة بعشر تسليمات، ثم يصلى الوتر بعدها جماعة. (انظر المهذب 1/ 84).
وقال الحنابلة: صلاة التراويح عشرون ركعة بعشر تسليمات يوتر بعدها إن لم يكن له تهجد، ولا يكره الدعاء بعدها لقوله تعالى:(فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب)(1) ومن كان له تهجد جاز له أن يصليه جماعة، لذلك فإن أهل الحرمين يتهجدون بعد النصف الأخير من رمضان جماعة ويقرؤون في تهجدهم كل يوم جزئين من القرآن فيختمون القرآن مرتين، مرة في التراويح ومرة في التهجد، ونقل الحنابلة عن أهل
(1) الشرح: 7، 8.
مكة قديماً أنهم كانوا يطوفون بعد كل أربع ركعات حول الكعبة سبع مرات ولم يذكروا ذلك في معرض الإنكار، وقد نقل الحنابلة الإجماع على أن صلاة التراويح عشرون ركعة. (انظر المغني 2/ 165 - 170)، (الفقه الإسلامي 2/ 72).
فها أنت ترى أن المذاهب الأربعة والمسلمين جميعاً مجمعون على أن صلاة التراويح عشرون ركعة وسيأتيك في جزء الصوم مزيد بيان.