الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الوجه الثالث:
ليس المقصودُ الأكبر بهذا الحديث الاستدلالَ على طهورية ماء البحر؛ لأنَّه كالمتفق عليه بين الفقهاء، فكان يكتفي بذلك، لأنَّ الكتابَ كتابُ اختصار، لكنْ لمَّا كان تتعلق به فوائدُ كثيرة، منها ما يخصُّ هذا الكتاب، ومنها ما يدخل في غيره، ويُستدَلُّ على ذلك الغير في المكان اللائق به، كان أكثرَ فائدةَ من الأحاديث التي تدلُّ على ما يتعلق بهذا الباب خاصةَ، وكان حديثُ القلتينِ أمسَّ بهذا الباب، وقد صحَّح بعضُهم إسنادَ بعض طرقه، وهو - أيضًا - عندنا صحيح على طريقة الفقهاء؛ لأنَّه وإن كان حديثاً مضطربَ الإسناد، مختلفاً فيه في بعض ألفاظه، وهي علة عند المحدثين، إلَّا أن يُجابَ عنها بجواب صحيح، فإنّه يمكنُ أن يُجمعَ بين الروايات، ويجابَ عن بعضها، وينسبَ إلى التصحيح بطريق قوي أصولي، ولكن تركتُه، لأنَّه لم يثبتْ عندنا الآنَ - بطريق استقلالي يجب الرجوع إليه شرعاً - تعيينٌ لمقدار القلتين، وقد نبهنا على ذلك في "الإمام"(1).
* * *
الوجه الرابع: في تفسير شيء من مفردات ألفاظه:
فمنها: البحر، وفيه نظران:
النظر الأول: في أنه هل يختصُّ بالملح، أم يعمُّ الملح والعَذْب؟
(1) انظر: "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" للمؤلف (1/ 199).
فنقول: قال أبو عبد الله محمد بن جعفر التميمي المعروف بالقَزَّاز في كتاب "جامع اللغة"(1) بعدَ ذكره البحرَ: وإذا اجتمعَ الملح في الماء والعذب يعني: سمَّوه باسم الملح؛ أي: بحرين، قال: ومنه قولُه - جلَّ وعزَّ -: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19] فجعل الماء العذب بحراً لمقارنة الملح.
وهذا الكلامُ يقتضي أنَّ الاسمَ في الأصل للملح، وأن العذب سُمِّي بذلك للتغليب عند المقارنة، كالعُمَرين والقَمرين.
وقال ابن سيده صاحب "المحكم" في "المحكم": البحرُ: الماء الكثير ملحاً كان أو عذباً، وجمعُه: أبحُر وبُحُور وبِحَار، وقد غلب على الملح حتَّى قلَّ في العَذْب، وصَرَفُوه على معنى المُلُوحة، وقالوا: أبحرَ الماءُ، أي: صارَ مِلْحاً، وأنشد بيتَ نُصَيبٍ [من الطَّويل]:
وقدْ عادَ ماءُ الأرضِ بَحْراً فزَادني
…
إلى مَرَضِي أَنْ أبحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ (2)
(1) قال حاجي خليفة في "كشف الظنون"(1/ 576) بعد أن ذكر سنة وفاة القزاز (412 هـ): وهو كتاب معتبر، لكنه قليل الوجود.
(2)
انظر: "ديوان نُصيب بن رباح"(ص: 66).
وانظر: "المحكم" لابن سيده (3/ 239)، (مادة: بحر)، وقد سقط من المطبوع من "المحكم" قوله:"وصرفوه على معنى الملوحة".
وقال الأزهري: كلُّ نهر لا ينقطع ماؤُه مثلُ دجلةَ والنيلِ، وما أشبههما من الأنهار [العذبة] الكبارِ، فهي بحار، وأما البحر الكبير الذي هو مَغيضُ هذه الأنهارِ الكبارِ فلا يكون ماؤُه إلَّا مِلحاً أُجاجاً، ولا يكون ماؤه إلَّا راكداً، وأما هذه الأنهار العذبةُ فماؤُها جارٍ (1).
النظر الثَّاني: فيما ترجعُ إليه هذه اللفظةُ: والذي تلخَّصَ لنا من كلام أهلِ اللغة أصلان:
أحدهما: معنى السَّعة، والثاني: معنى الشَّق.
أما الأولُ: فقال محمد بن جعفر القزَّاز - بعدَ ذكر البحر -: سمِّي بذلك لسَعته من قولهم: تبحَّر الرجلُ في العلم بكذا: اتَّسع (2)، وكذا تَبحَّرَ المال.
وفي هذا الكلام نظرٌ؛ لأنَّ الصوابَ أن التبحرَ في المال والعلم مأخوذٌ من البحر، لا أنَّ البحرَ مأخوذٌ منه.
وقال صاحبُ كتاب "السبب في حصر كلام العرب"(3): سُمِّي به لسَعته.
وقال الليثُ - فيما حكاه الأزهري عنه -: سُمي البحرُ بحراً؛
(1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (5/ 39)، (مادة: بحر).
(2)
وكذا ذكر الخطابي في "غريب الحديث"(3/ 152).
(3)
هو للحسين بن المهذب المصري اللغوي، كما ذكر حاجي خليفة في "كشف الظنون" (2/ 975) وعنده:"السبب في حصر لغات العرب".
لاستبْحارِه، و [هو] انبساطُه وسعتُه، يقال: استبحرَ فلانٌ في العلم، وتبحَّر الراعي في رَعيٍ كثيرٍ، وتبحَّر فلانٌ في المال، أي: كَثُر ماله (1).
وهذه المادة قد يخفَى وجهُها في مواردِ استعمال هذه اللفظة؛ كتسمية الرجل المسلول الجسم بالبحر، وفي قولهم: بُحِرَ الرجل: إذا بُهِتَ، وقولهم: الباحُر: الأحمقُ الذي إذا تكلَّم بقي كالمبهوت، وقيل: هو الذي لا يتمالك حُمقاً، وإن كان يمكن أن يردَ على هذا الأصلِ ولا يتعذَّرَ بتأويل.
وأما الثَّاني: وهو معنى الشَّق، فإنَّ الأزهريَّ قال - بعدَ ما حكيناه عنه، في كلِّ نهر لا ينقطع ماؤه -: سُمِّيت هذه الأنهارُ بجاراً؛ لأنها مشقوقةٌ في الأرض شقًّا (2).
وقال أيضًا - بعدَ حكايته لكلام اللَّيث الذي قدَّمناه -: وقد قال غيره: سمي البحر بحرًا؛ لأنَّه شَقَّ في الأرض شقاً، وجَعَل الشقَّ لمائه قراراً. والبحر في كلام العرب: الشَّقُ، ومنه قيل للناقة التي تُشَقُّ (3) في أذنها شقاً: بَحِيرة (4).
(1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (5/ 37)، (مادة: بحر). وانظر فيما نقله الأزهري عن اللَّيث: "العين" له - كما يقوله الأزهري وغيره، وهو المعتمد - أو للخليل - كما يقوله بعضهم - (3/ 219).
(2)
انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (5/ 39)، (مادة: بحر).
(3)
في المطبوع من "تهذيب اللغة""يشُقُّون".
(4)
انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (5/ 37)، (مادة: بحر).
وجعل القزازُ البحيرةَ من الأصل الأول، فإنّه قال: والبُحْران من هذا أخذه، وهو اتساع العلة، والبَحيرةُ من هذا: وهي الناقة التي تُنْتجُ عشرةَ أبطُن، وتُبْحَر في أذنها؛ أي: تُشَق وتُترَك ترعى، ولا يُنتفع بظهرها، ويحرم لحمُها على نسائهم، ثم قال - بعد كلام -: وكلُّ هذا مأخوذ من السَّعَة والشَّق، ولذلك سمي الفرجُ بحراً، ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن أنس بن سيرين قال: استحيضت امرأةٌ من آل أنس، فسألت ابن عباس، فقال:"إذا رأتِ الدَّمَ البَحْرانيَّ فلتدعِ الصَّلاةَ، فإذا رأتِ الطُّهرَ ولو ساعةً من نهارٍ فلتغتسلْ ولتصلِّ"(1). قال: فالدم البحراني دم الحيض، وسماه بحرانياً؛ لغلظه وشدة حُمرته، ونسبَهُ إلى البحر، يريد عنق الرحم؛ لأنَّ كلَّ عنق أو شق: بحرٌ (2).
وأقول: الأقربُ أن نجعلَ اللفظَ راجعاً إلى أصل السعة، ويُرَدُّ معنى الشق إليه؛ لأنَّه المعنى العامُ في موارد الاستعمال، فنجعلُـ[ـه]، حقيقة اللفظ على ما قرَّره المتأخرون من أهل النظر، فإنَّ في الشقَّ معنى السَّعة، إلَّا أن يُدَّعَى أن تسمية الماء الكثير بالبحر لملازمة الشق أو مجاورته، وهذا يلزمُ منه المجازُ بالنسبة إلى الوضع اللغوي، فإن
(1) ذكره أبو داود في "سننه"(1/ 75)، وعنه: البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 340). ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(1367)، والدارمي في "سننه" (800) بإسناد صحيح. وانظر:"المحلى" لابن حزم (2/ 198)، و "فتح الباري"(1/ 429)، و "تغليق التعليق" كلاهما لابن حجر (2/ 182).
(2)
وانظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (5/ 37 - 41)، (مادة: بحر).
ادُّعيَ فيه النقلُ عرفًا أو الاشتراكُ، فالكلُّ خلافُ الأصل.
ومن ذلك القليل: وهو محمولٌ هنا على غير الكافي للطهارة، وما يحتاج إليه للشُّرب، وقد يُستعمَل في غير هذا المحل لغير هذا المعنى.
ومنها لفظ الطَّهور: وهو هنا بفتح الطاء؛ لأنَّه اسمٌ للماء الذي يُتطهَّر به، والطُّهور - بضم الطاء - اسمٌ لفعلِ التطهر، هذا هو المشهور، وجعل سيبويه الطَّهور - بالفتح - مصدراً (1)، وسيأتي الكلام على هذه اللفظة بأكثر من هذا في وجه الفوائد، إن شاء الله تعالى.
ومنها الحِلُّ: وهو بمعنى الحلال، كالحرِم بمعنى الحرام.
ومنها المَيتة: وهي ها هنا بفتح الميم، لأنَّ المرادَ العينُ الميتة، وأما المِيتة - بكسر الميم -: فهي هيئةُ الموت، ولا معنى لها ها هنا إلَّا بتكلف (2)، والمَيتة - بالتشديد والتخفيف - (3) بمعنى واحد في موارد الاستعمال، وفَصَل بعضُهم بينهما.
* * *
(1) انظر: "الكتاب" لسيبويه (2/ 224)، باب: في الخصال التي تكون في الأشياء.
(2)
قال الخطابي في "إصلاح غلط المحدثين"(ص: 44): عوام الرواة يولعون بكسر الميم من "الميتة"، وإنما هي "مَيتته" مفتوحة الميم، وكسرها خطأ.
(3)
أي: بتشديد الياء من "الميتة" وتخفيفها.