الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - وأتباعه، فإن الطحاوي - رحمه الله تعالى - قال في "مختصره": وإذا وقعت نجاسة في ماء ظهر فيه لونهُا أو طعمُها أو ريحُها (1)، أو لم يظهر ذلك فيه، فقد نجَّسَهُ؛ قليلاً كان الماء أو كثيراً، إلا أن يكون جارياً، أو حكمه حكم الجاري؛ كالغدير الذي لا يتحرك أحدُ طرفيه بتحرك سواه من أطرافه (2).
وأما الشافعي - رحمه الله تعالى -، فإنه اعتبر القلتين وقال: إنه ينجس ما دونهما بوقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير، وما كان [فيه](3) قلتين أو أكثر لم ينجس إلا بالتغير عنده، وهذه رواية عن أحمد مرجحة عند جماعة من أتباعه في غير بول الآدمي وعُذرته المائعة، فأما هما فينجسان الماء وإن كان قلتين فأكثر على المشهور، ما لم يكثر إلى حيثُ لا يمكن نزحُه كالمصانع التي بطريق مكة (4).
الثانية:
قوله عليه السلام: "لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِيْ الْمَاءِ الدَّائِمِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ" عموم لابدَّ من تخصيصه اتفاقاً، فإن الماء المُسْتَبْحِر جداً
= "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 552)، و"كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 226).
(1)
"ت": "طعمها أو لونها أو ريحها".
(2)
انظر: "مختصر الطحاوي"(ص: 16).
(3)
زيادة من "ت".
(4)
انظر: "المجموع" للنووي (1/ 162)، و"شرح الزركشي على الخرقي"(1/ 133)، و"الفروع" لابن مفلح (1/ 58). وهذه الفائدة قد نقلها الفاكهاني في "رياض الأفهام"(ق 9) في الحديث الخامس من شرحه على "العمدة".
لا يثبت فيه هذا الحكم، وقد حكينا عن الحنفي تخصيصَه في الغدير الَّذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الآخر، وعن الحنبلي تخصيصه بما لا يُمكن نزحُه كالمصانع التي بطريق مكة، والشافعي أيضًا: يخرج عنه القلتين فما زاد عليهما.
فأما الحنفيةُ القائلون بأنَّ الماء الراكد ينجس بوقوع النجاسة فيه، فهو مقتضى العمل بالعموم، ومقتضى حملِ صيغة النهي على حقيقتها وهو التحريمُ، فإذا خرج منه (1) المستبحرُ، بقي اللفظ متناولًا ما عداه، ويحتاجون إلى تخصيصٍ آخرَ في الماء الَّذي وقع فيه الحدُّ المعتبر عندهم، وهو عدم تحرك أحد الطرفين [بتحرك الآخر](2)، وهذا إنما أُخِذ من معنى فهموه، وهو سِرايةُ النجاسة في الماء، وأنَّ مع هذا التباعد - لا سِرايةَ، وهذا المقدار من الماء يدخل تحت العموم، فتخصيصه بهذا المعنى تخصيصٌ العامَّ بمعنى مُستنبطٍ منه يعود عليه بالتخصيص، وفيه كلام لأهل الأصول.
وأما الشافعية رحمهم الله تعالى: فإنهم لما اعتمدوا حديث القلتين خصُّوا العامَّ به، وهو تخصيصٌ بمنطوق؛ لأن هذا الحديثَ الَّذي نحن نتكلم فيه عامٌّ في المنع من الاغتسال في كل ماء راكد بعد البول فيه، فيدخل تحته القلتانِ فما زاد، وقوله عليه السلام: "إِذَا بَلَغَ
(1)"ت": "عنه".
(2)
سقط من "ت".
المَاءُ قُلَّتينِ لَمْ يَحْمِل خَبَثًا (1)" يقتضي بمنطوقه أنَّ هذا القدرَ لا يمتنع الغسلُ به بعد وقوع النجاسة فيه، وهو أخص ذلك العام الأول، وهذا مبنيٌ على أنَّ قوله عليه السلام: "لمْ يَحملِ الخَبَثَ" محمولٌ على أنه يدفع الخبث عن نفسه لكثرته، وهو الظاهر.
وقول المخالف لهذا المذهب: إنه يَحتمِلُ أن يكونَ كقولهم: فلان ضعيف لا يحمل كذا، فيكون إشعارًا بأن (2) هذا المقدار لا يحمل الخبث؛ أي: لا يطيقه ولا يدفعه عن نفسه لقلته، [بعيدٌ](3) ضعيفٌ، يبعده السياقُ وتدفعه الروايةُ التي فيها:"إذا كانَ الماءُ قُلَّتين، فإنَّه لا يَنْجُسُ"، فيتعيَّنُ على مَنْ أراد نفيَ هذا التخصيصِ أن يُبيِّنَ تعذُّرَ العملِ بحديث القلتين.
وأما ما ذكرناه عن الحنبلية: فطريقٌ تقديره أن يقال: حديثُ القلتين خاصٌّ في المقدار، عامٌّ في الأنجاس، وهذا الحديث الَّذي نحن فيه عامٌّ بالنسبة إلى المقدار، خاصٌّ بالنسبة إلى الأنجاس؛ لكونه ذكر فيه بول الإنسان دون سائر النجاسات، فإذا كان الواقعُ غيرَ بول الآدمي في القلتين فما زاد، حُكِمَ بطهارته عملًا بحديث القلتين، وإذا (4) كان الواقع في هذا المقدار بولَ الآدمي، حكم بنجاسته عملًا بهذا الحديث.
(1)"ت": "الخبث".
(2)
"ت": "أن".
(3)
ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(4)
"ت": "وإن".
فعلى هذه الطريقة: يُخَصُّ العموم في الأنجاس الَّذي في حديثُ القلتين، ومُخَصِّصُه هذا الحديث الَّذي نحن فيه.
وعلى طريقة الشافعية: يُخَصُّ (1) العموم الَّذي في الماء الراكد، ومخصصه حديثُ القلتين.
وإنما حكم الحنبلي بإلحاق عُذرة الآدمي المائعة بالبول بطريق القياس عليه، [وهو أشد](2)، وذكر بعضهم في ترجيح مذهبه: أن هذا الخبر أصحُّ من خبر القلتين، فيتعيَّنُ تقديمُه (3).
والاعتراض (4) على هذه الطريقة أن يقال: معلوم (5) قطعًا أن المقصودَ من هذا النهي اجتنابُ الماء الَّذي حلّت فيه [هذه](6) النجاسة؛ لأجل حلولها فيه، وهذا المعنى لا ينبغي فيه الفرق بين بول الآدمي وغيره، وليس يمكن أن يُدَّعَى أن في بول الآدمي معنى يزيد بالنسبة [إلى النجاسة](7) على نجاسة بول الكلب أو غيره منْ النجاسات، فالتخصيصُ ببول الآدمي ظاهريةٌ [محضة](8).
وأما من يرى أن الماء لا يَنْجُسُ إلا بالتغيُّر قليلًا كان أو كثيرًا،
(1)"ت": "يخصص".
(2)
سقط من "ت".
(3)
انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 39).
(4)
"ت": "والاعتذار".
(5)
"ت": "أن المعلوم، بدل قوله: "أن يقال: معلوم".
(6)
سقط من "ت".
(7)
في الأصل "للنجاسة"، والتصويب من "ت".
(8)
زيادة من "ت".
فَحَمَله على ذلك رجحانُ الدليل الدالِّ على طهورية الماء الَّذي لم يتغير، ويتمسك فيه بالعمومات، ولزم من العمل بها حَمْلُ هذا النهي على الكراهة فيما لم يتغير، ومَنْ أراد تخصيصَ تلك العمومات بمفهوم حديث القلتين المقتضي لتنجيس (1) ما دونهما وإن لم يتغير، فقد لزم القولُ بالمفهوم، [و](2) بأنه يُخصّصُ العموم، وهذه (3) إحدى القواعد التي قدمناها، وسيأتي ذكرها أيضًا عن قريب، إن شاء الله تعالى.
وهذا المذهبُ (4) يلزم عليه (5) حملُ النهي على المجاز، وهو الكراهة، إذْ هو حقيقة في التحريم على المختار في الأصول (6)، ثم [إن](7) أَخذ منه نجاسةَ المتغيَّرِ من الماء لزمه حملُ اللفظ على معنيين مختلفين، حقيقتِه ومجار، ولذلك مَنْ حمل النهي على التحريم، وخَصَّ منه القلتين فما زاد، إذا أَخذ منه كراهةَ استعمال الماء الراكد إذا وقعت فيه النجاسة (8) و [إن](9) لم يتغير - على ما هو الحكم عند
(1)"ت": "تنجيس".
(2)
سقط من "ت".
(3)
في الأصل: "وهذا"، والمثبت من "ت".
(4)
"ت": "الحديث".
(5)
"ت": "منه".
(6)
انظر: "البحر المحيط" للزركشي (3/ 365).
(7)
سقط من "ت".
(8)
"ت": "نجاسة".
(9)
سقط من "ت".