الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الوجه الخامس: في شيء من العربية:
قال الشيخ أبو العباس أحمدُ بن عمرَ بن إبراهيم القُرطبي في كتاب "المُفْهِم": الرواية الصحيحة "يغتسلُ" برفع اللام، ولا يجوز نصبها، إذ لا يُنتصَب (1) بإضمار (أن) بعد (ثم)، وبعض الناس قيَّده (2)"ثم يغتسل" مجزومَ اللام على العطف على "يبولن"، وهذا ليس بشيء، إذ لو أراد ذلك لقال:"ثم لا يغتسلَنَّ"؛ لأنه إذ ذاك يكون عطفَ فعلٍ على فعل، لا عطفَ جملةٍ على جملة، وحينئذٍ يكون الأصلُ مساواةَ الفعلين في النهي عنهما، وتأكيدهِما بالنون الشديدة، فإنَّ المحلَّ الذي تواردا (3) عليه هو شيء واحد، وهو الماء، فعدُولُه عن "ثمَّ لا يغتسلنَّ" إلى "ثم (4) يغتسل" دليلٌ على أنه لم يُرِد العطف، وإنما جاء "ثم يغتسل" على التنبيه على مآل الحال، ومعناه: أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه، فيمتنع عليه استعماله لما أوقع فيه من البول.
قال: وهذا مثلُ قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يضربْ أحدُكم امرأتَهَ ضربَ الأمة، ثمَّ يضاجِعُها"(5) برفع (يضاجعُها)، ولم يروه أحد بالجزم،
(1)"ت": "ينصب".
(2)
"ت":" وقيده بعض الناس".
(3)
في الأصل، وكذا المطبوع من "المفهم":"توارد"، والتصويب من "ت".
(4)
"ت": "ولا".
(5)
رواه البخاري (4658)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، ومسلم (2855)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، والإمام أحمد في "المسند" =
ولا يتخيَّلُه فيه؛ لأن المفهوم منه (1): [أنه](2) إنما نهاه عن ضربها؛ لأنه يحتاج إلى مُضَاجعتها في ثاني حال، فيمتنع عليه ما شاءه بما أساء من معاشرتها، ويتعذرُ عليه المقصودُ لأجل (3) الضرب، وتقدير اللفظ:(ثم هو يضاجعها)، و (ثم هو يغتسل)، انتهى ما ذكره (4).
وفي بعض إطلاقاته هذه نظرٌ (5)، وهذا المعنى الذي ذكره يقتضي أنه كالتعليل للنهي عن البول في الماء الراكد، لا عن الغسل منه، ويكون النهيُ عن الغسل [منه](6) ليس من مدلول اللفظِ مباشرةً، بل من مدلولاته إلْزاماً، من حيثُ إنه لو لم يكن البول فيه مانعاً من الغسل أو الوضوء منه، لما صحَّ تعليلُ النهي عن البول فيه بأنه سيقعُ منه الغسلُ فيه، لكنَّ التعليلَ صحيحٌ على حَسَبِ ما اقتضاه الكلامُ عنده، فوقع النهي عن الغسل منه بعد البول بطريق الالتزام؛ لأنه لازم لصحة
= (4/ 17)، من حديث عبد الله بن زمعة رضي الله عنه بلفظ:"علامَ يضرب أحدكم امرأته ضرب العبد؛ ثم يضاجعها من آخر الليل"، واللفظ لأحمد.
(1)
"ت": "فيه".
(2)
سقط من "ت".
(3)
"ت": "من أجل".
(4)
انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 541 - 542).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 347) وما أورده من تعقب على كلام القرطبي.
وقد نقل السفاريني في "كشف اللئام"(1/ 73) عن ابن رجب في بعض تعاليقه نحواً مما قاله القرطبي، رحمهم الله أجمعين.
(6)
سقط من "ت".
التعليل، وفي تعيين هذا المعنى - الذي ذكره لأنْ يُحَملَ عليه اللفظُ - نظرٌ.
وذكر الشيخ أبو زكريا النواوي رحمه الله تعالى: أن الرواية "يغتسلُ" مرفوعٌ؛ أي: لا تبل ثم أنتَ تغتسل منه (1)، في كلامه (على) هذا الحديث الذي لفظه:"لَا تبلْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ تَغْتَسِلُ مِنْهُ"(2).
قال: وذكر شيخُنا أبو عبد الله بن مالك: أنه يجوز أيضاً جزمُهُ عطفاً على "يبولن "، ونصبُه بإضمار (أن) بإعطاء (ثم) حكمَ واو الجمع (3).
قال النواوي: فأما الجزم فظاهر، وأما النصب فلا يجوز؛ لأنه يقتضي أن المنهيَّ عنه الجمع بينهما، دونَ إفرادِ أحدهما، وهذا لم يقلْه (4) أحد، بل (5) البول منهيّ عنه؛ سواءٌ أراد الاغتسال فيه، أو منه، أو لا، والله أعلم (6).
(1)"ت": "ثم تغتسل أنت فيه".
(2)
هو رواية مسلم المتقدم تخريجها برقم (282/ 96).
(3)
انظر: "شواهد التوضيح" لابن مالك (ص: 220).
(4)
"ت": "يقل به".
(5)
"ت": "لأن".
(6)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 187).
قال الفاكهاني: في "رياض الأفهام"(ق 9/أ) فقد رأيت موافقته - أي: النووي - في جواز الجزم لابن مالك، وهو ضعيف، كما قاله القرطبي آنفًا.
وهذا التعليل الذي عللَ به امتناعَ النصب ضعيفٌ؛ لأنه ليس فيه أكثرُ من كون هذا الحديث لا يتناولُ النهيَ عن البول في الماء الراكد بمفرده، وليس يلزم أنْ يُدَل على الأحكام المتعددة بلفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الجمع من هذا الحديث، ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر (1)، والله أعلم.
* * *
* الوجه السادس: في ذكر القواعد والمقدمات المحتاج إليها (2) في الكلام على الحديث واستنباط فوائده:
أولها: أنَّ القياسَ في معنى الأصل حجةٌ شرعية.
وثانيها: أنَّ المفهومَ هل هو حجة أو لا؟
وثالثها: أنَّ المفهومَ هل يُخصِّصُ العمومَ أو لا؟
ورابعها: حكمُ العمومين إذا عارض كل واحد منهما صاحبَهُ من وجه.
وخامسها: أنَّ اللفظ العامَّ هل يُستنبَطُ منه معنى يعود عليه بالتخصيص.
(1) وهو ما رواه مسلم (281)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى أن يبال في الماء الراكد.
وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 347).
(2)
"ت":" الذي يحتاج" بدل قوله: "المحتاج إليها".
وسادسها: استعمالُ اللفظ الواحد في معنيين مختلفين.
وسابعها: ذكر حديث القلتين والكلام في تصحيحه (1)، وطريق (2) الاستدلال به.
وسيأتي وجهُ الحاجة إلى هذه القواعد في المباحث إن شاء الله تعالى، وإنما أدخلنا حديثَ القُلَّتين في ذلك؛ لأن بعض العلماء قد خصَّصَ عمومَ هذا الحديثِ به، فلابدَّ في تمام البحث من ذكره.
فأما حديث القلتين: فقد بسطنا القول فيه (3) في كتاب "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام"(4)، والذي نلخصه هاهنا أنه يُعترَضُ على التمسك به من [حيثُ](5) جهة الإسناد والمتن جميعاً، والمشهور من طرقه ثلاثة:
أحدها: رواية الوليد بن كثير، ثم رواية أبي أسامة عنه، وقد اختلف فيه، ولفظه من جهة محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: سئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا كانَ الماءُ قُلَّتين لمْ يَحملِ الخَبَثَ"، وهذا عند أبي داود (6).
(1)"ت": "تخصيصه".
(2)
"ت": "صحة".
(3)
"ت": "فيه القول".
(4)
انظر: "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" للمؤلف (1/ 199).
(5)
سقط من "ت".
(6)
رواه أبو داود (63)، كتاب: الطهارة، باب: ما ينجس الماء، والنسائي (52)، =
وثانيها: رواية حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر (1)، عن عبيد الله بن عبد الثه بن عمر قال: حدثني أبي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانَ الماءُ قُلَّتين، فإنَّه لا يَنْجُسُ"(2).
وثالثها: رواية ابن إسحاق، وهو مروي عنه من طرقٍ منها: روايته عن محمد بن جعفر بن الزبير (3).
ومنها: روايته عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة، وفيه:"مَا (4) بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، لَمْ يُنَجّسْهُ شَيْءٌ"(5).
= كتاب: الطهارة، باب: التوقيت في الماء، وغيرهما من طريق أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، به.
(1)
في الأصل: "منذر"، والمثبت من "ت".
(2)
رواه أبو داود (65)، كتاب: الطهارة، باب: ما ينجس الماء، وابن ماجه (518)، كتاب: الطهارة، باب: مقدار الماء الذي لا ينجس، وغيرهما من طريق حماد بن سلمة، به.
(3)
رواه أبو داود (64)، كتاب: الطهارة، باب: ما ينجس الماء، من طريق حماد بن سلمة ويزيد بن زريع، والترمذي (67)، كتاب: الطهارة، باب: منه آخر، من طريق هناد، عن عبدة، وابن ماجه (517)، كتاب: الطهارة، باب: مقدار الماء الذي لا ينجس، من حديث يزيد بن هارون وابن المبارك، كلهم من طريق ابن إسحاق، به.
(4)
"ت": "إذا".
(5)
رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 21)، من طريق محمد بن وهب السلمي، عن ابن عياش، عن ابن إسحاق، عن الزهري، به. قال الدارقطني: والمحفوظ: =
وعنه إسناد آخر عن الزهري (1).
فالاعتراض من جهة الإسناد، والاختلاف من رواية الوليد، فتارةٌ عنه، عن محمد بن عَبَّاد بن جعفر، وتارةً عن محمد بن جعفر بن الزبير (2)، والاختلاف عنه في ذلك موجود في رواية الحفاظ، والاضطرابُ أحد أسباب الضعف.
وأيضا فقد اختُلِفَ في روايته عن عبد الله بن عمر فقيل: عن [عبد الله] بن عبد الله، وقيل: عن عبيد الله بن عبد الله (3).
واختُلِفَ في المتن فقيل في حديث حماد: "قلتين"(4)، كما
= عن ابن عياش، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه.
وقد أشار إلى هذا الاختلاف على ابن عياش: البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 261).
(1)
وهو ما رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 21)، من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه.
(2)
من الحفاظ من صوّب رواية محمد بن عباد بن جعفر، كما ذهب إليه أبو داود في "سننه"، ومنهم من ذهب إلى رواية محمد بن جعفر بن الزبير، كما نقل ابن أبي حاتم عن أبيه في "العلل"(1/ 44)، ومنهم من دلَّل على صحة الروايتين جميعًا؛ كالدارقطني في "سننه" (ص: 17)، وما بعدها، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 265). وانظر:"الإمام" للمؤلف رحمه الله (1/ 201 - 253).
(3)
انظر: "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" للمؤلف (1/ 204 - 207)، وما ساقه عن ابن منده والبيهقي.
(4)
تقدم تخريجه قريباً.
ذكرناه، وقيل:"قلتين، أو ثلاثًا"(1)، ورُوِي حديث من وجه آخر غير هذا الوجه فيه:"أربعون قلة"(2)، وآخر من وجه آخر:"إذا زادَ الماءُ على قُلَّتين أو ثلاثٍ فإنه لا يَنْجُسُ"(3).
وأيضًا فقد اختُلف في الرفع والوقف: فرواه حمادُ بن سلمة مرفوعا كما قدمناه، وخالفه حماد بن زيد فروى عن عاصم بن المنذر - شيخِ حماد بن سلمة -، عن عبيد الله ابن عبد الله، (4)، عن أبيه موقوفًا غيرَ مرفوع.
ورواه إسماعيل بن عُليَّة، عن (5) عاصم بن المنذر المذكورِ، عن
(1) تقدم تخريجه قريباً عن أبي داود وابن ماجه.
(2)
رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 26)، والعقيلي في "الضعفاء"(3/ 473)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(6/ 34)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 262)، من طريق القاسم بن عبد الله العمري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وإسناده واه، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الدراية"(1/ 56).
والصحيح أنه من قول ابن عمر رضي الله عنهما، وانظر:"الإمام" للمؤلف (1/ 212 - 213).
(3)
لم يورد المؤلف رحمه الله في "الإمام" في كلامه عن طريق وألفاظ الحديث هذا اللفظ، وكذا غيره من المتكلمين عن الحديث كالدارقطني والبيهقي والزيلعي وابن حجر وغيرهم. فإما أن يكون ثمت خطأ في نقل ما أراده المؤلف، أو يكون قد أخذ هذا اللفظ من أحد المصنفات الحديثية التي لم تصل إلينا، وهو رحمه الله كثير الموارد فيما يريد قصده، والله أعلم.
(4)
سقط من "ت".
(5)
"ت": "و".
رجل - لم يسمِّهِ -، عن ابن عمر موقوفاً أيضاً (1)، إلى غير ذلك من الاختلاف.
وهذه الوجوه التي ذكرناها يمكنُ على طريقة الفقهاء أنْ يُسلَكَ فيها طريقٌ يُفضي إلى التصحيح، وهو أنْ يُنْظَر إلى هذه الاختلافات الواقعة فيه إسنادًا ومتناً، فيُسقَطَ منها ما كان ضعيفًا إذ لا يُعَلَّلُ القويّ بالضعيف، وينظرَ فيما رجالُهُ ثقاتٌ، فما وقع في بعضه شكٌّ طُرِح، وأُخِذَ ما لم يقع فيه شك من رواية، وما وقع فيه من اختلاف يمكن الجمع فيه جُمع، كالرواية التي فيها من جهة إسماعيل بن عُليَّة، عن عاصم، عن رجل - لم يسمه -، فإنه يمكن أن يكونَ ذلك الرجل الذي لم يسمه (2) في هذه الرواية هو المسمَّى في غيرها، وما كان من اختلاف لم يَضُرَّ، لم يُعلَّل به، كالاختلاف بين محمد بن عبَّاد بن جعفر ومحمد بن جعفر بن الزبير، فإنه إن كان الحديثُ عنهما معا فقد أمكن الجمعُ، وإن كان اضطرابا من الرواة (3)، والحديثُ عن أحدهما مع جهالة عينه، فإذا كانا معًا ثقتين لم يضرَّ؛ لأنا كيف ما انقلبنا انقلبنا إلى [ثقة](4) عدل، ولا يضرّنا جهالةُ عينه.
وكذلك يقال في الاختلاف الواقع بين عبيد الله بن عبد الله بن
(1) من قوله: "وخالفه حماد بن زيد" إلى هنا، نص كلام الدارقطني في "سننه"(1/ 21).
(2)
"ت": "يسم".
(3)
"ت": "الرواية".
(4)
زيادة من "ت".
عمر، وعبد الله بن عبد الله بن عمر.
وأما الاختلافُ الواقع في الرفع والوقف (1)، فإن صحَّ فالرفعُ يقدَّمُ على ما قرَّرَهُ اْهلُ الأصول، فهذا طريق يمكن أن يُذكَرَ في التصحيح على طريقة الفقهاء والأصوليين (2).
(1)"ت": "الوقف والرفع".
(2)
قال الحافظ ابن حجر في "الدراية"(1/ 55): وقد أطنب الدارقطني - يعني في "السنن"(1/ 13) - في استيعاب طرقه، وجوَّد ابن دقيق العيد في "الإمام" (1/ 199) في تحرير الكلام عليه. وقال الزيلعي فيا نصب الراية" (1/ 104): وقد أجاد الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في كتاب: "الإمام" جمع طرق هذا الحديث، ورواياته، واختلاف ألفاظه، وأطال في ذلك إطالة تلخص منها تضعيفه له، فلذلك أضرب عن ذكره في كتاب:"الإلمام" مع شدة احتياجه إليه، وأنا أذكر ما قاله ملخصاً محرراً، وأبين ما وقع فيه من الاضطراب لفظاً ومعنى. ثم ذكر الزيلعي كلام ابن دقيق بطوله.
ونقل الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"(1/ 18)، عن ابن دقيق قوله: هذا الحديث قد صححه بعضهم، وهو صحيح على طريقة الفقهاء؛ لأنه وإن كان مضطرب الإسناد، مختلفا في بعض ألفاظه، فإنه يجاب عنها بجواب صحيح؛ بأن يمكن الجمع بين الروايات، ولكني تركته؛ لأنه لم يثبت عندنا بطريق استقلالي يجب الرجوع إليه شرعاً تعيين مقدار القلتين، انتهى.
قلت: هذا ما وصل إليه اجتهاد الإمام ابن دقيق في هذا الحديث بعد إجادة في الكلام عنه عزَّ نظيرها في الأعصار المتأخرة، وبعد بذل جهد لا يتأتى إلا من أهل الرسوخ والعلم المتين، فرحم الله امرءاً عرف قدرهم وحمل اجتهاداتِهم على محمل التبصر والتأمل.
وبعد: فهذا الحديث قد صححه الجم الغفير من علماء الأمة، قال الخطابي في "معالم السنن" (1/ 36): وكفى شاهداً على صحته: أن نجوم الأرض من أهل الحديث قد صححوه، وقالوا به، وهم القدوة، وعليهم المعول في هذا الباب.
وقد حكم الفقيهُ الحافظُ أبو جعفر الطحاوي الحنفي - رحمه الله تعالى - بصحة الحديث، ولكنه اعتلَّ في ترك العمل به بوجه نذكره، وهو المشكل في هذا المقام، وذلك أنَّ العملَ به موقوفٌ على معرفة مقدار القلتين المعلَّقِ عليهما الحكم (1)، والقلة لفظ مشترك، وبعد صرفها إلى أحد مفهوماتها، وهي الأواني، تبقى مترددةً بين الكبار والصغار حتى تتناول الكوز وتتناول الجرة (2)، وقد فسرها بها بعضُ السلف؛ أعني: بالجرة، ومع التردد يتعذَّرُ العمل.
وأجيب عن هذا بوجهين:
أحدهما: أنَّ جعلَهُ مقدَّراً بعدد منها يدلُّ على أنه أشار إلى أكبرها؛ لأنه لا فائدةَ بتقديره بقلتين (3) صغيرتين، وهو يقدر على تقديره بواحدة (4) كبيرة.
والجواب الثاني: أنه قد وردَ تقديرُهُ بقِلال هَجَر، وهي معلومة، ولهذا ذكرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مَعرِض التعريف لمَّا ذَكرَ سدْرة المنتهى (5)، ولا يعرَّف إلا بمعروف.
(1) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 16).
(2)
"ت": "حتى تتناول الجرة والكوز".
(3)
"ت": "قلتين".
(4)
"ت": "بقلة".
(5)
رواه البخاري (3535)، كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه في حديث طويل وفيه:"ورفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبَقها كأنه قلال هَجَر. . " الحديث.
قال الشافعي رضي الله عنه: أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن جُرَيْج بإسناد لا يحضرني ذكرُه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا كَانَ الْمَاء قُلَّتينِ لَمْ يَحْمِل خَبَثًا" وقال في الحديث: "بِقِلَالِ هَجَرَ". قال ابن جريج: وقد رأيت قِلال هجر، فالقلة تَسَعُ قربتين، أو قربتين وشيئاً (1).
وهذا فيه أمورٌ:
أحدها - وهو أخفها -: أن مسلم بن خالد قد ضُعِّفَ، فعن علي ابن المديني أنه قال فيه: ليس بشيء (2)، وقال أبو حاتم: ليس بذاك القوي، منكر الحديث لا يُحتَجُّ به، تَعرِفُ وتُنْكِرُ (3).
وإنما جعلنا هذا الوجهَ أخفَّها؛ لأنه كان فقيهَ مكةَ، وعالماً (4) مشهوراً، قال ابن أبي حاتم: مسلمٌ الزَّنْجِي إمام في الفقه والعلم (5)، وقال إبراهيم الحربي: كان فقيهَ أهلِ مكةَ (6)، وقد وفقه يحيى بن معين في رواية (7)، وقال أحمد بن محمد بن الوليد: كان فقيهاً [و](8) عابداً،
(1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(ص: 165)، وفي "الأم"(1/ 4)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 263)، وفي "معرفة السنن"(2/ 90).
(2)
انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 260).
(3)
انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ - 183).
(4)
"ت": "وعالمها".
(5)
رواه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي"(2/ 73).
(6)
رواه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي"(2/ 74).
(7)
انظر: "تاريخ ابن معين - رواية الدوري"(3/ 60).
(8)
سقط من "ت".
يصوم الدهر (1)، وبعض من صنف الصحيحَ من المتأخرين يذكر روايته في صحيحه (2).
ومنها: أنَّ قولَه: وقال في الحديث "بِقِلَالِ هَجَرَ": مترددٌ بين أن يكون المراد بكونه في الحديث أنه مسندٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكون ذلك من (3) قول بعض الرواة من غير أن يكون مسنداً، فإنه يَصِحُّ في مثل هذا أن يقال: وقال في الحديث كذا.
فنظر في رواية ابن جريج، [ووجد وجهاً آخر غير الوجه الذي لم يحضر الشافعيَّ ذكرُه](4)، فوجد ابن جريج يقول: أخبرني محمد بن يحيى بن عُقيل، أخبره أن يحيى بن يَعْمَر، أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتينِ لَمْ يَحْمِل نجساً (5) ولا بأساً"، قال: فقلت ليحى ابن عُقيل: قِلال هجر؟ قال: قِلال هجر، قال: فأظن (6) أن كل قلة تحمل قربتين (7).
(1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 499).
(2)
قلت: لم يذكر المؤلف رحمه الله في "الإمام"(1/ 215) عند كلامه على هذا الحديث تضعيف مسلم بن خالد، وإنما ذكر بدله: أن الإسناد الذي لا يحضره - يعني: الشافعي - مجهول الرجال، فهو كالمنقطع لا تقوم به حجة عند الخصم.
(3)
"ت": "في".
(4)
في الأصل: "من وجه آخر غير رواية الشافعي ذكره"، والمثبت "ت".
(5)
"ت": "خبثاً".
(6)
"ت": "أظن".
(7)
رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 24)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" =
وروي من وجه آخر عن ابن جريج، قال محمد: قلت ليحيى بن عقيل: أي قِلال؟ قال: قِلال هجر، قال محمد: فرأيت قلال هجر، فأظن أن كل قلة تأخذ قربتين (1).
فهذا الذي وُجِدَ عن ابن جريج يقتضي أن قائل: "قلال هجر" ليس النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو يحيى بن عقيل.
ويُعترَضُ على هذا بوجهين:
أحدهما: أنَّ محمداً الراوي عن يحيى بن عقيل غيرُ معروف، وما يقال في الجواب عن هذا أن أبا أحمد قال: محمد هذا الذي حدث عنه ابن جريج هو محمد بن يحيى، يحدث عن يحيى بن أبي كثير، ويحيى بن عقيل (2).
فهذا إنما يقتضي التعريف باسم أبيه، وبأنه يروي عن يحيى ويحيى، ولا (3) يكفي هذا في الاحتجاج به، بل لابدَّ من معرفة حاله.
والاعتراض الثاني: أنَّ يحيى بن عقيل ليس بصحابي، وهو الذي فسرها (4) في هذه الرواية، ولا تقوم الحجةُ بقول يحيى إلا بعد
= (1/ 263)، و"معرفة السنن"(2/ 91)، إلا أن عندهما:"تأخذ فرقين" بدل "تحمل قربتين".
(1)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 264)، وفي "معرفة السنن والآثار"(2/ 91).
(2)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 264).
(3)
"ت": "فلا".
(4)
"ت": "يفسرها".
ثبوت رفعه وروايته مسنداً، لاسيَّما مع مخالفة غيره له في التقدير.
وقد جاء في هذا الحديث أنه قال في القُلَّتين: فأظن [أن](1) كل قُلَّةٍ تحمل فَرَقين (2) في رواية، وفي أخرى: قربتين.
فعلى الرواية الأولى: الفَرَق ستة عشر رطلاً، فيكون مجموع القلتين أربعة وستين رطلاً، وهذا لا يقول به مَنْ حدَّد القلتين مما زاد على ذلك (3).
واعلم أنه قد ذُكِر [في](4) حديث القلتين وتقديرُها بقلال هَجَر عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير جهة ابن جريج من رواية المغيرة - وهو ابن سقلاب (5) - بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتينِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ لم يُنْجِسهُ شيءٌ"(6).
وهذا فيه أمران:
أحدهما: أنَّ المغيرةَ هذا، وإن كان أبو حاتم يقول فيه: هو صالح الحديث (7)، وأبو زرعة يقول: هو جزري لا بأسَ
(1) زيادة من "ت".
(2)
الفَرَق: مكيال بالمدينة، يسع ثلاثة آصع، ويقال: الفرْق، والأول أفصح.
(3)
انظر: "الإمام" للمؤلف (1/ 217).
(4)
زيادة من "ت".
(5)
كذا في الأصل، و"ت".
وقد جاء على هامش "ت": "صقلاب".
(6)
رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(6/ 359)، قال ابن عدي: وقوله في هذا الحديث: "من قلال هجر" غير محفوظ، ولم يذكر إلا في هذا الحديث.
(7)
انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 223).
به (1)، [فإنه](2) قد تُكُلِّم فيه، قال ابن عدي: هو منكر الحديث، وذكر عن أبي جعفر بن نُفيل أنه قال فيه: لم يكنْ مؤتمناً على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
وثانيهما: أنه ذُكِرَ في هذا الحديث أنهما فَرَقان، والفَرَق كما قدمنا ستة عشر رطلاً، وفي وجه آخر:"والقُلَّةُ أربعةُ آصُع"(4)، وهذا لا يقول به مَن يَحُدُّ القلتين بأكثر.
فإن قلتَ: ما ذكرتموه يقتضي اتفاقَ (5) العمل بالحديث من جهة عدم العلم (6) بقَدْر القلتين، ولا يجوزُ على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلِّقَ الحكمَ على أمر لا يبيّنه؟
قلتُ: هذا صحيحٌ لابدَّ منه إن كان الحديثُ صحيحاً؛ أعني: أنه لابد وأن يكون الرسولُ صلى الله عليه وسلم بيَّنه (7)، وليس يلزم من بيانه وصولُ ذلك البيان إلينا، فتكون الجهالة بالمقدار بالنسبة إلينا لا من جهة كونه لم
(1) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(2)
سقط من "ت".
(3)
انظر: "الكامل" لابن عدي (6/ 358).
(4)
رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(6/ 359). قال ابن عدي: والمغيرة ترك طريق هذا الحديث وقال: عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، وكان هذا أسهل عليه. ومحمد بن إسحاق يرويه عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عمر.
(5)
كذا في الأصل و "ت"، ولعلها:"انتفاء".
(6)
"ت": "العمل".
(7)
"ت": "يبينه".
يقع مُبيَّنا في الأصل، وقد جاء في علم الأصول التوقفُ عند التعادل في نظر الناظر، فيكون هذا منه.
وقد قال بعضُ الأصوليين سائلاً: فإن قيل: فهل يجوز أن يتعارضَ عمومان، ويخلو عن دليلِ الترجيح؟
قلنا: قال [قوم](1): لا يجوز ذلك؛ لأنه يؤدي إلى التّهمة ووقوع الشّبهة وتناقف (2) الكلامين، وهو مُنَفرٌ (3) عن الطاعة والاتباع والتصديق.
وهذا فاسد، بل ذلك (4) جائزٌ، ويكون ذلك مبيَّناً للعصر الأول، وإنما خفي علينا لطول المدة واندراس القرائن والأدلة، ويكون ذلك محنةً وتكليفاً (5) علينا لطلب الدليل من وجه آخر، أو (6) ترجيح، أو تخيير، ولا تكليفَ في حقنا إلا بما بلغنا، وليس فيه مُحال، انتهى (7).
فإن قلتَ: فيقتضي (8) هذا ضياعَ الحكم على الأمة، وذلك لا يجوز لحفظ الشريعة؟
(1) سقط من "ت".
(2)
في "المستصفى" للغزالي، وعنه نقل المؤلف في هذا الموضع:"التناقض".
(3)
"ت": "مُنْتفٍ".
(4)
"ت": "ذاك".
(5)
"ت": "وتكليفات".
(6)
في "المستصفى": "من" بدل "أو".
(7)
انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 255).
(8)
"ت": "فمقتضى".