الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
10 - باب حفظ اللسان والغيبة والشتم
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
4812 -
[1] عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 6474].
ــ
فعلم أن سماعه مباح، والنهي للتنزيه، وكان اجتناب ابن عمر للورع.
10 -
باب حفظ اللسان والغيبة والشتم
ذكر الغيبة والشتم بعد حفظ اللسان من ذكر الخاص بعد العام، تقدير الكلام: حفظ اللسان عن السوء وعن الغيبة والشتم، خصهما بالذكر لكثرة وقوعهما وورود الأحاديث فيهما، والغيبة بكسر الغين المعجمة اسم من الاغتياب، ويعرف معناه وأحكامه من الأحاديث وشرحها.
الفصل الأول
4812 -
[1](سهل بن سعد) قوله: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) اللحيان بفتح اللام وسكون الحاء: عظمان ينبت عليهما الأسنان علوًا وسفلًا، واحده لحي، ومنه اللحية، وهو اسم لما نبت من الشعر على الخدين والذقن.
والمراد بما بين لحييه اللسان ونطقه بما لا يعنيه وما يوجب المعصية، وقيل: أراد الفم؛ ليتناول الأكل والشرب والكلام، قالوا: والأول أصوب؛ لأن المقصود التنبيه على معظم ما يأتي منه المعصية، وهو اللسان والفرج، ولذا جعل المؤلف عنوان الباب:(حفظ اللسان والغيبة والشتم).
والمراد بما بين رجليه الفرج وخطيئاته، والمراد بضمانهما حفظهما عما لا ينبغي
4813 -
[2] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ. . . . .
ــ
مؤكدًا كالذي يضمنه بحق واجب الأداء، وكذا المراد بضمان الرسول الجنة التي تترتب عليه، وهو في الحقيقة من اللَّه وبحكمه وأمره.
وقد وقع مثل هذا الضمان في مواضع متعددة منه صلى الله عليه وسلم، ويجوز للأنبياء مثل ذلك نيابة عن اللَّه وإخبارًا من جهته تعالى، وتسمية بعض الأنبياء بذي الكفل بهذا المعنى؛ فإنه تكفل لأمته بالجنة من اتبعه، وهذا في معنى قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]، وحمله الطيبي (1) على التمثيل، نحو: أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى، فافهم.
4813 -
[2](أبو هريرة) قوله: (بالكلمة من رضوان اللَّه) رضي عنه وعليه يرضى رضًا ورضوانًا -ويُضَمَّانِ- ومرضاة: ضدُّ سخط، كذا في (القاموس)(2)، وفي (الصراح) (3): رضوان: خوشنودي، مرضاة كذلك، وبسنديدن، والظاهر أن (من) ابتدائية، أي: الكلمة الصادرة أو صادرة من مقام رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون تعليلية متعلقة بقوله:(ليتكلم)، أي: يتكلم لأجل رضا اللَّه ومن جهته.
وقال الطيبي (4): بيانية حال من الكلمة، وهو صحيح إن جعل المصدر بمعنى المفعول، أو يقدر: من كلمة فيه رضوان اللَّه، كما في بعض الشروح، وقد أشرنا إلى ذلك، وأيضًا لا يتعين كونه حالًا، ويجوز كونه صفة، بل قد يرجح كونه صفة على
(1)"شرح الطيبي"(9/ 98).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 1184).
(3)
"الصراح"(ص: 561).
(4)
"شرح الطيبي"(9/ 98).
لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [خ: 6478].
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: "يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ". [خ: 6477، م: 2988].
4814 -
[3] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ الْمُسْلِم فُسُوقٌ،
ــ
كونه حالًا في مثل هذا التركيب، فتدبر.
وقوله: (لا يلقي لها بالًا) هذا أيضًا صفة أو حال من ضمير (يتكلم)، والضمير في (لها) للكلمة، و (البال) يجيء بمعنى القلب والحال والخاطر، أي: لا يلقي العبد لتلك الكلمة ولا يحضر لها قلبه ولا يلتفت إلى عاقبتها، أو لا يلقي لها الحال والخاطر، ولا يتأمل فيها وفي عاقبتها، ولا يرى فيها بأسًا.
وقوله: (يرفع اللَّه) جملة مستأنفة جواب عن سؤال: ما ثمرتها ونتيجتها؟ والتنوين في (درجات) للتكثير والتعظيم، أي: درجات كثيرة عظيمة.
وقوله: (يهوي) أي: يسقط العبد بسبب تلك الكلمة، وهوى يهوي من ضرب يضرب بمعنى السقوط، ومن سمع يسمع بمعنى المحبة.
وقوله: (أبعد ما بين المشرق والمغرب) صفة مصدر محذوف أي: هويًا بليغًا بعيد المبدأ والمنتهى، كذا قال الطيبي (1).
4814 -
[3](عبد اللَّه بن مسعود) قوله: (سباب المسلم) بالكسر، في
(1)"شرح الطيبي"(9/ 98).
وَقِتَالُهُ كُفْرٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 48، م: 64].
4815 -
[4] وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ: كَافِرٌ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 6104، م: 60].
ــ
(النهاية)(1): السب والسباب: الشتم، والإضافة إما إلى الفاعل أو إلى المفعول، وفي بعض الحواشي: أنها إلى الفاعل؛ لأنه جاء في رواية الترمذي: (سباب المسلم أخاه فسق، وقتاله إياه كفر)، وأما قوله:(وقتاله كفر) تغليظ، أو المراد استباحته أو لكونه مسلمًا كما هو المشهور.
4815 -
[4](ابن عمر) قوله: (أيما رجل قال لأخيه: كافر. . . إلخ)، اعلم أن هذا الحديث والحديثين بعده تدل بظاهره على أن من قال لأحد: هو كافر، وقال: يا كافر، وهو ليس بكافر فقد كفر، واستشكل بأن غاية ما فيه أنه كذب ومعصية، والكذب ليس بكفر، والمؤمن لا يكفر بالمعاصي.
وتوجيهه أنه لما قال للمسلم: كافر فقد جعل الإسلام كفرًا، واعتقد بطلان دين الإسلام، فافهم، وأما إذا قال بقصد الكذب والسب من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام، فقد يوجه بأنه محمول على المستحل لذلك، واستحلال المعصية كفر، والضمير في (بها) لهذه الكلمة، أي: بما يلزمها من المعصية؛ فإن صدق رجع بها أخوه بما فيه من الكفر، وإن كذب رجع بها القائل بما يلزمه من معصية الكذب وتكفير من ليس بكافر، وبأن المراد أنه يوؤل ويفضي به إلى الكفر؛ لأن المعصية قد تجرّ إلى الكفر، وبأن الراجع إلى القائل ليس هو الكفر حقيقة، بل المراد أنه لما كفر أخاه فكأنه كفر نفسه، لكونه كفر من هو مثله، أو لأنه فعل مثل فعل الكافر؛ لأنه لا يكفر المسلم
(1)"النهاية في غريب الحديث والأثر"(2/ 330).
4816 -
[5] وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالْفُسُوقِ، وَلَا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 6045].
4817 -
[6] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِلَّا حارَ عَلَيْهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1). [م: 61].
ــ
إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام.
وقيل: إنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا مبني على قول من يكفر أهل القبلة، والجمهور على خلافه، نقل هذه التوجيهات الطيبي (2) عن محيي السنة، وهي إنما يحتاج إليها إذا لم يكن حكم تكفير المسلم من غير تأويل، وهو المراد هنا الكفر، وهو محل نظر، وليس بمستبعد، فقد يكون بعض الكذبات كفرًا كما ذهب إليه الجويني والد إمام الحرمين، أحيث ذهب، إلى تكفير من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وخلوده في النار استدلالًا بظاهر حديث:(من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)، فهذه الأحاديث أيضًا دالة على تكفير المكفر، وتوجيهه ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
4816 -
[5](أبو ذر) قوله: (إلا ارتدت) أي: الكلمة عليه، أما الفسق فظاهر، وأما الكفر فحاله ما ذكرنا.
4817 -
[6](عنه) قوله: (من دعا رجلًا بالكفر) أي: قال له: يا كافر.
وقوله: (إلا حار) أي: رجع عليه، قيل:(من) استفهامية، أي: لم يدع إلا رجع عليه، وقيل: شرطية وجواب الشرط محذوف، وهو المستثنى منه.
(1) لعل المراد بالمتفق عليه التخريج بالمعنى، أما هذه الرواية فقد تفرد بها مسلم.
(2)
"شرح الطيبي"(9/ 99).
4818 -
[7] وَعَنْ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا، فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2587].
4819 -
[8] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أنْ يَكُونَ لعَّانًا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2597].
4820 -
[9] وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّعَّانِينَ. . . . .
ــ
4818 -
[7](أنس وأبو هريرة) قوله: (المستبان ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم): (المستبان) مبتدأ، و (ما قالا) مبتدأ ثان متضمن لمعنى الشرط.
وقوله: (فعلى البادئ) خبر المبتدأ الثاني، (ما لم يعتد) قيد للنسبة في الظرف، أي: إذا سب كل واحد الآخر فإثم ما قالا على الذي بدأ في السب، أما إثم ما قاله فظاهر، وأما إثم الآخر فلكونه الذي حمله على السب وظلمه، وهذا إذا لم يعتد ويتجاوز المظلوم الحد، بأن سبه أكثر وأفحش منه، وأما إذا اعتدى كان إثم ما اعتدى عليه والباقي على البادئ.
4819 -
[8](أبو هريرة) قوله: (لا ينبغي لصديق) في (القاموس)(1): الصديق هو بمعنى كثير الصدق، و (اللعن) الطرد والبعد، وهو لعين وملعون، واللُّعْنة بالضم: من يلعنه الناس، وكهُمَزة: كثير اللعن لهم، وامرأة لعين، فإذا لم يذكر الموصوف فبالهاء، انتهى.
4820 -
[9](أبو الدرداء) قوله: (إن اللعانين) أي: الذين يكون ديدنهم اللعنة
(1)"القاموس المحيط"(ص: 829).
لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاء يَوْمَ الْقِيَامَةِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2599].
4821 -
[10] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2623].
4822 -
[11] وَعَنْهُ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَا الْوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 6058، م: 2526].
4823 -
[12] وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. . . . .
ــ
على الخلق.
وقوله: (لا يكونون شهداء) أي: للمطيعين.
وقوله: (ولا شفعاء) أي: للعاصين.
4821 -
[10](أبو هريرة) قوله: (فهو أهلكهم) يروى بصيغة التفضيل من الهلاك، أي: أكثرهم هلاكًا؛ لأنه اشتغل بعيب الناس وأعجب بنفسه، وبصيغة الماضي من الإهلاك، أي: أوقعهم في الهلاك؛ لأن قوله لهم هذا يوجب نأيهم عن الطاعة، وانهماكهم في المعاصي، والظاهر هو الأول.
4822 -
[11](وعنه) قوله: (ذا الوجهين) إما أن يكون المراد المنافق، ويكون عذابه أشد، أو المراد من صفته هذه من المؤمنين، ويكون حاله شرًّا من سائر المؤمنين.
4823 -
[12](حذيفة) قوله: (قتات) بالتشديد، قال الطيبي (1): القتات هو
(1)"شرح الطيبي"(9/ 102).
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمِ: "نَمَّامٌ". [خ: 6056، م: 105].
4824 -
[13] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا،
ــ
الذي يتسَمَّعُ على القوم وهم لا يعلمون ثم ينم، وقال في (القاموس) (1): رجل قتات: نمام، أو يسَّمَّع أحاديث الناس من حيث لا يعلمون، سواء نمّها أو لم ينمّها.
وقال السيوطي في (مختصر النهاية)(2): القتات: النمام، وقيل: هو الذي يسمّع على القوم وهم لا يعلمون، والنمام: الذي يكون معهم.
وأما ما قال الطيبي: قتَّ الحديث: إذا زوَّره، وهيأه، وسواه، فهو بمعنى الافتراء والبهتان، ولم يذكر في كتب اللغة للقتِّ هذا المعنى، نعم ذكر في (القاموس) من معاني النمِّ: تزيين الكلام بالكذب، ولما كان القتُّ بمعنى النمِّ كان ذلك معناه أيضًا، وهو نقله برمز (النهاية)، ولم يذكرها السيوطي في مختصرها، واللَّه أعلم.
4824 -
[13](عبد اللَّه بن مسعود) قوله: (فإن الصدق يهدي إلى البر) لعل الصدق بخاصيته يفضي إلى أعمال البر، أو المراد من البر هو الصدق نفسه، كما تدل عليه الرواية الأخرى لمسلم، وهدايته إليه بالمغايرة الاعتبارية في المفهوم والعنوان، كقولهم: صفة العلم لزيد توجب صفة كمال له.
وقوله: (حتى يكتب عند اللَّه صديقًا) الظاهر أن المراد كتابته في ديوان الأعمال
(1)"القاموس المحيط"(ص: 158).
(2)
"الدر النثير"(2/ 817).
وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: "إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْكَذِبَ فُجُورٌ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ". [خ: 6094، م: 2607].
4825 -
[14] وَعَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقولُ خَيْرًا وَيَنْمِي. . . . . .
ــ
في الملأ الأعلى، ويحتمل أن يكون المراد الحكم بالصديقية وإثبات الصفة له، والمقصود إظهار ذلك في الناس وإعلامهم له بهذه الصفة وبهذا الاسم في قلوبهم وعلى لسانهم، على قياس قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]، وعلى هذا القياس التقرير في الكذب.
4825 -
[14](أم كلثوم) قوله: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرًا وينمي خيرًا) حاصله أن الكذب ورفع الحديث لإصلاح ذات البين جائز، وليس هو من النميمة والكذب المذموم؛ فإن النميمة رفع الحديث إشاعة له وإفسادًا، ثم الظاهر من العبارة أن يكون (الكذاب) اسم (ليس) وخبره (الذي يصلح)، أي: ليس الكذب المذموم في الدين المصلح بل غيره، ويجوز أن يكون خبرًا مقدمًا على الاسم، ويؤيده ما جاء في بعض الروايات: ليس بالكذاب.
وقوله: (ينمي) بفتح الياء وسكون النون مخففة الميم، وقال عياض في (المشارق) (1): قال أبو عبيد: نمى الحديث مخفف الميم، أي: أبلغه، ونميته إلى غيري
(1)"مشارق الأنوار"(2/ 25).
خَيْرًا". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. [خ: 2692، م: 2605].
4826 -
[15] وَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ". . . . .
ــ
مثل أسندته، ونمَّيته بالتشديد: أبلغته على وجه النميمة، وقال ابن قتيبة وغيره: نمَّيته بالتثقيل: نقلته على جهة الإفساد، وقال في (القاموس) (1) أيضًا: نمى الحديث: ارتفع، ونميته ونمّيته: رفعته وعزوته، وأنماه: أذاعه على وجه النميمة، وفي (الصراح) (2): نمو نما: كَواكيدن وبرداشتن حديث وخبر بكسي، يقال منه: نموت ونميت إليه الحديث، ونسبت كردن بكسي، انتمى كذلك، يقال: نما إليه، وينمي إليه، وسخن رسانيدن بوجه إصلاح ونيكوئي، وتنمية: سخن رسانيدن ببدي وسخن جيني كردن، وهيزم نهادن برآتش.
4826 -
[15](المقداد بن الأسود) قوله: (المداحين) المراد بالمداح من اتخذ مدح الناس حرفة ليتأكل به، ولا يراعي الحق في ذلك، ولا يميز بين من يستحق ومن لا يستحق، وهو مذموم مكروه؛ لأنه يتضمن الكذب من المادح، ومداخلة العجب من الممدوح.
وقوله: (فاحثوا في وجوههم التراب) أي: ارموه، في (القاموس) (3): حثا التراب يحثوه ويحثيه حثوًا وحثيًا، والحثى كالثرى: التراب المحثو، والحثي كالرمي: ما رفعت به يدك، وأرض حثواء: كثيرة التراب، والمراد في الحديث لا تعطوه شيئًا
(1)"القاموس المحيط"(ص: 1230).
(2)
"الصراح"(ص: 593).
(3)
"القاموس المحيط"(ص: 1170).
رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 3002].
4827 -
[16] وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ أَخِيكَ" ثَلَاثًا، "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا وَاللَّهُ حَسِيْبُهُ، إِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَلَا يُزكِّي على اللَّهِ أَحَدًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 6162، م: 3000].
ــ
واحرموه، وقيل: أراد الرضخ، وهو العطاء القليل المشبه لقلته وحقارته بالتراب، ومنهم من حمله على ظاهره، وقد يروى أن المقداد حثا في وجه المادح عند عثمان رضي الله عنهما التراب.
4827 -
[16](أبو بكرة) قوله: (قطعت عنق أخيك) أي: أهلكته لوقوعه في العجب والكبر، و (ثلاثًا) متعلق بـ (قال).
وقوله: (أحسب فلانًا واللَّه حسيبه) أي: أظن فلانًا كذا وكذا، أي: موصوفًا بالصفات الحميدة، واللَّه عليم بحقيقة حاله وسرّه، ومحاسبه ومجازيه على أعماله، وعلى هذا يكون قوله:(واللَّه حسيبه) من تتمة مقول (فليقل)، ويحتمل أن يكون معترضًا من قول النبي صلى الله عليه وسلم بين قوله:(فليقل: أحسب فلانًا) وبين ما يتعلق به من الشرط وهو قوله: (إن كان يرى أنه كذلك) أي: إنما يقول: أحسب فلانًا كذا وكذا إن كان المادح يظن أن الممدوح كذلك، أي: كما مدحه، ولا يقول ذلك أيضًا كاذبًا من غير ظن وحسبان.
وقوله: (ولا يزكي على اللَّه أحدًا) نفي في معنى النهي عطف على قوله: (فليقل)، وهو نهي عن الجزم بكونه كما مدحه، أي لا يثني [على] أحد ولا يظهره حاكمًا على اللَّه وموجبًا عليه، كأنه لما جزم بمدحه حكم على اللَّه وأوجب عليه أن يكون ما علمه كما مدحه، ولعله لا يكون كذلك.
4828 -
[17] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: "إِذَا قُلْتَ لِأَخِيكَ مَا فِيهِ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِذَا قُلْتَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ". [م: 2589].
4829 -
[18] وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ"، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: . . . . .
ــ
4828 -
[17](أبو هريرة) قوله: (ذكرك أخاك بما يكره) سواء في دينه أو دنياه، في نفسه أو فيما يتعلق به، والمراد ما يفهم به معنى سواء كان باللفظ أو بالكتابة أو بالإشارة، وتفصيله في كتاب (الإحياء) وأمثاله.
4829 -
[18](عائشة) قوله: (أن رجلًا استأذن) هو عيينة بن حصن ولم يحسن إسلامه حينئذ وإن كان قد أظهر الإسلام، قالوا: ضعيف الإسلام، وكان يظهر منه مدة حياته ما يدل على ضعف إيمانه، وقد ارتد بعده صلى الله عليه وسلم وجيء به أسيرًا إلى الصديق رضي الله عنه، وقد عدّ قوله صلى الله عليه وسلم فيه:(بئس أخو العشيرة) من علامات النبوة؛ لأنه ظهر كما أخبر، والعشيرة: القبيلة، وقد روي: ابن العشيرة وفتى العشيرة، وفي الحديث دليل على مداراة من يخاف شره، والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة تكون لاتقاء الشر وحفظ الوقت عن التفرقة والتضيع وللمصلحة الدينية، والمداهنة لأجل النفس وتحصيل شهواتها وللغرض الدنياوي، وأيضًا فيه دليل على جواز الغيبة للفاسق المجاهر ليتقي
"مَتَى عَاهَدْتِنِي فَحَّاشًا؟ إِنَّ شَرَّ النَّاس مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ" وَفِي رِوَايَةٍ: "اتِّقَاءَ فُحْشِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 6032، م: 2591].
4830 -
[19] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ،
ــ
الناس من شره.
وقوله: (متى عاهدتني) أي: وجدتني، يعني إنما ألنت له لذم الفحش ولم أكن قط فحاشًا، والفحش: التجاوز عن الحد في الكلام وفي غيره، وإنما قلت في غيبته تنبيهًا على حاله ليتقه الناس، وفيه مصلحة.
وقوله: (إن شر الناس عند اللَّه منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره) قال الشراح: معناه إني إنما ألنت له الكلام وتطلقت في وجهه وانبسطت إليه اتقاء الشر والفحش لئلا أكون من الأشرار الفحاشين الذين يتركهم الناس لفحشهم، لأني لو قلت له في حضوره ما قلت فيه غيبته لتركني اتقاء فحشي، وقيل: معناه إنما فعلت ذلك مع الرجل وتركته غير مفتش عن حقيقة حاله ومتعرض لكشفها اتقاء شره وفحشه، وشر الناس من تركه الناس ولم يتعرضوا له مداراة معه، ورواية (اتقاء شره) تنظر إلى هذا المعنى، ورواية (اتقاء فحشه) إلى المعنى الأول، فافهم.
4830 -
[19](أبو هريرة) قوله: (كل أمتي معافى) التذكير باعتبار لفظ (كل)، وفي أكثر الأصول (معافاة) باعتبار المضاف إليه، في (القاموس) (1): أعفاه من الأمر، أي: برأه، والمعنى: كل أمتي مبرأ ومسلم ومتروك عن الغيبة إلا من جاهر بالمعصية ولم يسترها، وأما رفع قوله:(إلا المجاهرون) فللتأويل بالمنفي، أي: لا يغتاب أحد
(1)"القاموس المحيط"(ص: 1206).