الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الثَّالِثُ:
5064 -
[12] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ: قُمْ فَقَامَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اقْعُدْ فَقَعَدَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا خَلَقْتُ خَلْقًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَلَا أَفْضَلُ مِنْكَ، وَلَا أَحْسَنُ مِنْكَ، بِكَ آخُذُ، وَبِكَ أُعْطِي، وَبِكَ أُعْرَفُ، وَبِكَ أُعَاتِبُ، وَبِكَ الثَّوَابُ، وَعَلَيْكَ العِقَابُ". وَقَدْ تَكَلَمَّ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ.
ــ
أعلم بالصواب.
الفصل الثالث
5064 -
[12](أبو هريرة) قوله: (وتكلم فيه بعض العلماء) قال السخاوي في (المقاصد الحسنة)(1): قال ابن تيمية وتبعه غيره: إنه كذب موضوع بالاتفاق، وفي زوائد عبد اللَّه بن الإمام أحمد على (كتاب الزهد) لأبيه عن علي عن سيار بن حاتم، وهو ممن ضعفه غير واحد، وكان جماعًا للرقائق، وقال القواريري: إنه لم يكن له عقل، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، حدثنا مالك بن دينار عن الحسن البصري مرفوعًا مرسلًا:(لما خلق اللَّه العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: ما خلقت خلقًا أحب إليّ منك، بك آخذ، وبك أعطي).
وأخرجه داود بن المحبر في (كتاب العقل) له: حدثنا صالح المري عن الحسن به بزيادة: (ولا أكرم علي منك، لأني بك أعرف، وبك أعبد)، والباقي مثله، وفي الكتاب المشار إليه من هذا النمط أشياء؛ منها:(أول ما خلق اللَّه العقل)، وذكره. وابن
(1)"المقاصد الحسنة"(1/ 199).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المحبر كذاب، والوارد في أول ما خلق حديث:(أول ما خلق اللَّه القلم)، وهو أثبت من العقل، انتهى كلام السخاوي.
وقال السيوطي في (الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة)(1): قد وجدت له أصلًا صالحًا، فأخرجه عبد اللَّه ابن الإمام أحمد في زوائد (الزهد)، قال حدثنا علي بن مسلم، حدثنا سيّار، حدثنا جعفر، حدثنا مالك بن دينار عن الحسن يرفعه قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أول ما خلق اللَّه العقل" الحديث، وهذا مرسل جيد الإسناد، وهو في (معجم الطبراني الأوسط)(2) موصولًا من حديث أبي أمامة، ومن حديث أبى هريرة بإسنادين ضعيفين، انتهى كلام السيوطي.
وفي (تنزيه الشريعة)(3) أنه أخرج هذا الحديث ابن عدي في (الكامل) والدارقطني عن أبي هريرة، والعقيلي عن أبي أمامة نحوه، وفيه حفص (4)، وسيف وسعيد مجهولان وتعقب بأنه أخرجه البيهقي في (الشعب) من طريقين، وقال: هذا إسناد غير قوي، وهو مشهور من قول الحسن، ورواه أبو نعيم، وفيه سهل، قال: وأراه واهمًا فيه، ورواه عبد اللَّه بن أحمد بسند جيد عن الحسن مرسلًا، ورواه ابن عدي من طريق آخر وقال باطل منكر، وآفته محمد بن وهب، له غير حديث منكر.
(1)"الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة"(1/ 367).
(2)
"المعجم الأوسط"(7/ 190).
(3)
"تنزيه الشريعة"(1/ 204).
(4)
فيه إيجاز مخل، وفي "تنزيه الشريعة": وَفِي الأول حَفْص بن عمر قَاضِي حلب، وَفِي الثَّانِي سيف بن مُحَمَّد، وَفِي الثَّالِث سعيد بن الْفضل عَن عمر بْن أبي صَالح الْعَتكِي، وهما مَجْهُولَان.
5065 -
[13] وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ". حَتَّى ذَكَرَ سِهَامَ الْخَيْرِ كُلَّهَا: "وَمَا يُجْزَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا بِقَدْرِ عَقْلِهِ".
ــ
وأخرجه الدارقطني في "الغرائب" وقال: غير محفوظ، وله طريق آخر أخرجه الترمذي الحكيم وابن عساكر، وفيه الحسن الخشني، وأخرجه الخطيب، وقال الذهبي بعد ذكر طرق الحديث المذكورة: وله طرق أخرى لم تصح، قال ابن حبان: ليس في العقل خبر صحيح، وقال العقيلي: لا يثبت في هذا الباب شيء، واللَّه أعلم.
وقال الحافظ ابن حجر في (المطالب العالية)(1): أحاديث في العقل أخرجها داود ابن المحبر في "كتاب العقل" كلها موضوعة، وقد أورد في (تنزيه الشريعة) بضعًا وستين حديثًا في فضيلة العقل، [و] وسمها كلها بالوضع، والمذكور فيها العقل بمعنى معرفة الأشياء وإدراك صلاح المبدأ والمعاد، والتمييز بين الخير والشر، والاحتراز عن عوامل النفس وآفاتها، والاهتداء والوصول إلى معرفة الحق، وأما العقل بمعنى المخلوق الأول الذي يدل عليه حديث:(أول ما خلق اللَّه العقل)، فليس داخلًا في تلك الأحاديث، وعند المحدثين فيه أيضًا كلام كما ذكرنا، وقد حكم بعضهم بوضعه على الخصوص، وهو داخل في عموم قول بعضهم: كل حديث ورد فيه ذكر العقل لا يثبت، واللَّه أعلم.
5065 -
[13](ابن عمر) قوله: (إلا بقدر عقله) بأن يضع كل عمل وعبادة في موضعه ويعمله للَّه، ويحفظه عما يفسده، وبهذا فضل بعض الناس العقل على العلم.
(1)"المطالب العالية"(13/ 725).
5066 -
[14] وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي (1) رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا ذَرٍّ (2)! لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ،
ــ
5066 -
[14](أبو ذر) قوله: (لا عقل كالتدبير) أي: النظر في عواقب الأمور وما يترتب عليه من صلاح أو فساد، يعني أن العقل الكامل التام هو هذا، والعاقل الكامل من هذا شأنه، والظاهر أن المراد بالعقل هنا مطلق العلم والإدراك، ولو أريد بالعقل الذي سبق مدحه لم يكن لهذا الحكم كثير فائدة، فافهم.
وقوله: (لا ورع كالكف) استشكله الطيبي (3) بأنّ الورع هو الكف، فكيف قيل ولا ورع كالكف؟ ثم أجاب بأن المراد كف الأذى أو كف اللسان، فكأنه قيل: لا ورع كالصمت أو كالكف عن أذى المسلمين، انتهى.
ويمكن أن يقال: إن الورع وإن كان بحسب اللغة مفهومه الكف والاجتناب، لكن هو في عرف الشرع شامل لطرفي الامتثال والاجتناب معًا، ولو كان معنا الاجتناب فقط فالاجتناب عن ترك الامتثال بالأوامر أيضًا معتبر فيه البتة، إذ لا يقال المتقي والمتورع لمن يجتنب المنهيات ويكف نفسه عنها، ولا يمتثل بالأوامر، وهذا ظاهر، لكنهم قالوا: إن الاجتناب أهم وأدخل في سلوك طريق الوصول والقرب من رعاية الامتثال، فمن يكتفي في جانب الامتثال بإتيان الواجبات والسنن والرواتب من غير أن يستوفي أقسام النوافل والمستحبات، لكن يهتمّ بالاجتناب ويستوعب أقسامه، ومن يهتم بالامتثال ويستوعب أقسام النوافل، لكنه يرتكب المكروهات لا يتيسر له
(1) قوله: "لي" سقط في نسخة.
(2)
في نسخة: "يا با ذر".
(3)
"شرح الطيبي"(9/ 230).
وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلْقِ".
5067 -
[15] وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ،
ــ
الوصول، ولهذا المقال تفصيل وتحقيق مذكور في موضعه، وقد بينه سيدي الشيخ علي المتقي في رسالته المسماة بـ "تبيين الطرق".
وإذا عرفت ذلك فقد حصل لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا ورع كالكف" معنى صحيح جيد، وحاصله: أن الأهم في الورع هو الكف والاجتناب عن المحارم والمكروهات، كما ذكرنا.
وقوله: (ولا حسب كحسن الخلق) الحسب: ما يعده الرجل من مآثره ومآثر آبائه، فالمراد أن الحسب الكامل المعتد به عند اللَّه تعالى هو الأخلاق الحميدة، وما سواه من المفاخر الدنياوية لا يعتد به، ويحتمل أن يراد أن الأخلاق الباطنة هي الأصل والعمدة، والأعمال الظاهرة وإن كانت أيضًا من الكمال وأحد شطريه لكنها فرع وتبع للأخلاق، وقد ورد في الحديث:(ليس شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق)، ولو أريد بالخلق ما يتعارفه الناس من لين الجانب، وبشاشة الوجه، والتلطف، والرحمة، كان المقصد المبالغة والتأكيد في رعاية هذا الوصف، ويكون تأويله كالتأويل الذي ذكره الشارح في قوله:(لا ورع كالكف) بإرادة كف اللسان، أو كف الأذى، وعلى تقدير إرادة مطلق الأخلاق الباطنة يكون معناه كما ذكرنا في ذلك القول من إرادة الاجتناب عن المحارم والمكروهات، فافهم.
5067 -
[15](ابن عمر) قوله: (الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة) لأنه لا بد في التعيش من دخل وخرج، وبناء الخرج على الاقتصاد؛ لأن في التبذير والتقتير إخلالًا
وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ". رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الأَحَادِيثَ الأَرْبَعَةَ فِي "شُعَبِ الإِيمَانِ". [شعب: 4313، 4316، 4325، 6148].
* * *
ــ
بالمصالح، فيكون الاقتصاد نصف معيشة، وقال الطيبي (1): لأن كلًّا من طرفي التبذير والتقتير ينغص كل العيش، فالتوسط نصف العيش، وهذا الكلام لا يخلو عن خفاء، فافهم.
وقوله: (والتودد إلى الناس نصف العقل) لأن تمام عقل المعاش باكتساب الأموال والأسباب والتمدن ببني النوع، وإظهار المودة بالناس، والركون إليهم هو التمدن، فيكون نصفه، وهذا إذا لم يخل بالدين والتقوى، وإلا فالمداراة.
وقوله: (وحسن السؤال نصف العلم) قال الطيبي (2): فإن السائل الفطن يسأل عما يهمه وما هو بشأنه أعنى، وهذا يحتاج إلى فضل تمييز بين مسؤول ومسؤول؛ فإذا ظفر بمبتغاه فإنه كمل علمه، انتهى.
وأقول: إن العلم سؤال وجواب، وحسن السؤال عبارة عن تنقيح المسؤول وتحقيقه بجميع الشقوق والاحتمالات، حتى يأتي الجواب وافيًا شافيًا، ولا يفوت شيء من المطلوب، وهذا موقوف على مزيد تمييز، فالسؤال على هذا الوجه يكون من قبيل العلم؛ فلا يتوجه أن السؤال ينشأ من جهل وتردد دون علم، فكيف يكون نصف
(1)"شرح الطيبي"(9/ 230).
(2)
"شرح الطيبي"(9/ 231).