الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(26) كتاب الرقاق
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
5155 -
[1] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [خ: 6412].
ــ
26 -
كتاب الرقاق
جمع رقيق، كصغار وكبار جمع صغير وكبير، ضد الغليظ، وقد يجيء رقائق كحقائق ودقائق جمع رقيقة، وموصوفها الكلمات، والرقة قد تجيء بمعنى الرحمة، ولعل وصف الكلام بذلك لكونه مؤثرًا في رقة القلب وإحداثه الرحمة فيه، ولو جعل (فعيل) بمعنى (مفعل) من التفعيل كما يجيء بمعنى المفعل من الإفعال كبديع ونذير على مختار البيضاوي في تفسيره لم يبعد.
الفصل الأول
5155 -
[1](ابن عباس) قوله: (نعمتان مغبون فيهما) الغبن بالسكون نقصان المال والخسران فيه في المعاملات، وبالتحريك في الرأي بمعنى ضعفه ونقصانه.
وقوله: (نعمتان) مبتدأ، و (مغبون فيهما) صفة، و (الصحة والفراغ) خبره، وهذا لرعاية ما اشتهر من وجوب تخصيص المبتدأ النكرة، والذي ينساق الفهم ويتبادر إليه في الحديث هو أن يكون الخبر (مغبون) ويكون قوله:(الصحة والفراغ) خبر مبتدأ محذوف، وهذا المعنى جيد، فافهم وأنصف من نفسك، والصحة صحة البدن،
5156 -
[2] وَعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْينْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2858].
5157 -
[3] وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، قَالَ:"أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ " فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، قَالَ:"فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُم". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2957].
5158 -
[4] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2956].
ــ
والفراغ الفراغ عن المشاغل والموانع عن العمل.
5156 -
[2](المستورد بن شدّاد) قوله: (ما الدنيا) أي: نعيمها أو مدة بقائها.
وقوله: (وأصبعه) الأصبع مثلثة الهمزة مثلثة الباء، تسع لغات، وقد تذكر، كذا في (القاموس)(1).
5157 -
[3](جابر) قوله: (أسك) أفعل من السك، والسك: اصطلام الأذنين، وفي (الصراح) (2): سك ازبن بركندن كَوش، وفي الحواشي (3): الأسك: مقطوع الأذنين أو صغيرهما، يقال للذي لا أذن له.
5158 -
[4](أبو هريرة) قوله: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) أما سجن
(1)"القاموس"(ص: 679).
(2)
"الصراح"(ص: 401).
(3)
"حاشية جمال الدين"(ص: 309).
5159 -
[5] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2808].
ــ
المؤمن فلما يصيبه فيها من البلايا والمحن والآلام، وجنة الكافر لتنعمه وتمتعه فيها بالشهوات واللذات، أو لأنها ضيقة على المؤمن يريد الخروج منها دائمًا إلى فضاء القدس وقرب رب العالمين، والكافر يتمنى الخلود فيها لركونه إليها وانهماكه في الشهوات، وقد يشتبه هذا بالمؤمن الغني المتنعم والكافر الفقيه المبتلى فيقال: إن الدنيا للمؤمن كالسجن في جنب ما أعدّ له من الثواب وإن كان له فيها تنعم، وللكافر كالجنة في جنب ما أعدّ له من العقاب، وإن كان له محنة وشدة.
5159 -
[5](أنس) قوله: (إن اللَّه لا يظلم مؤمنًا حسنة) أي: لا ينقصه إياها، متعدي إلى مفعولين، كذا قال الطيبي (1)، ويحتمل أن يكون أحد المنصوبين بالحذف والإيصال.
وقوله: (يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة) الباء في الموضعين يحتمل أن تكون للسببية أو البدلية، والمفعول الثاني محذوف، أي: يعطى المؤمن بتلك الحسنة في الدنيا حسنة ويجزى بها في الآخرة حسنة، وقول الطيبي (2): إن الباء في قوله: (يعطى بها) إن حملت على السببية فيحتاج إلى مقدر، أي: يعطى بسببها حسنة، وإن حملت على البدل فلا، وأما الباء في (يجزى بها) فهي للسببية مما لا يظهر وجهه،
(1)"شرح الطيبي"(9/ 286).
(2)
"شرح الطيبي"(9/ 286).
5160 -
[6] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَاره". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إِلَّا أَنْ عِنْدَ مُسْلِمِ: "حُفَّتْ" بَدَلَ "حُجِبَتْ". [خ: 6487، م: 2822].
5161 -
[7] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَم وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ،
ــ
ومعنى الحديث: أن المؤمن يثاب بالحسنة في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فيجزى جزاءً وافيًا، وأما في الدنيا فيعطى أيضًا شيئًا منه، كطيب العيش، وفراغ الخاطر، وسلامة الحال، والكافر قد يعطى بما فعل من الحسنات في الدنيا، وأما في الآخرة فلا جزاء له، أي: من الجنة ونعيمها، وإلا فقد جاء في بعض الأخبار أنه قد يفيده تخفيفًا في العذاب، واللَّه أعلم.
5160 -
[6](أبو هريرة) قوله: (حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره) أي: الشدائد من العذاب والمجاهدات، فمن وصل بها وعملها وصل إلى الجنة ودخلها، ومن وصل بالشهوات وارتكبها دخل النار؛ فإن ما كان في الحجاب وجب الوصول إليه والدخول عليه بالوصول إلى الحجاب والدخول فيه، ثم رفعه وهتكه، وبهذا عرف لقولهم: العلم حجاب اللَّه معنى، فافهم.
5161 -
[7](وعنه) قوله: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة) التعس: الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط، والفعل كمنع وسمع، وإذا خاطبت قلت: تعست كمنع، وإذا حكيت قلت: تعس كسمع، وتعسه اللَّه وأتعسه، ورجل تاعس وتعس، كذا في (القاموس)(1)، والخميصة: ثياب سود فيها علم، وفي
(1)"القاموس"(ص: 495).
إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتُقِشَ،
ــ
(الصراح)(1): كَليم سياه جهار سوء علم، أراد بها محب الثياب النفيسة والحريص على التجمل والمتكلف فيه ليري الناس ويتكبر به عليهم، وهو دعاء على من استعبده حب الدنيا، ولهذا ذكر العبد ولم يقل مالكها أو صاحبها.
(إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط) قال الطيبي (2): وهذا يؤذن بشدة حرصه في جمع الدنيا وطمعه فيما في أيدي الناس، انتهى.
ويمكن أن يراد إن أعطاه اللَّه ورزقه ذلك رضي منه، وإن لم يعطه ويرزقه (3) سخط له تعالى، كما أشير إليه في قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58].
وقوله: (تعس وانتكس) نكسه: قلبه على رأسه كنكّسه، وفي (الصراح) (4): انتكاس: نكَو نسار شدن، ناكس: سر بروفكَنده، وهو تكرير وتأكيد للدعاء عليه بالهلاك والذل والخيبة والخسران.
وقوله: (وإذا شيك فلا انتقش) أي: دخل شوك في عضوه، وهو كناية عن إصابة البلاء، و (انتقش) ببناء المجهول، أي: فلا أخرج منه ذلك الشوك، والنقش: استخراج الشوك، وما يخرج به مِنْقاش ومِنْقش، وهذا دعاء آخر عليه بعدم إعانة أحد
(1)"الصراح"(ص: 268).
(2)
"شرح الطيبي"(9/ 288).
(3)
كذا في الأصل، والظاهر:"ولم يرزقه".
(4)
"الصراح"(ص: 252).
طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثُ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٌ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَة،
ــ
إياه في الشدة والبلاء ليسهل عليه ويتسلّى، وهذا أبلغ؛ لأنه أسهل ما يتصور من الإعانة؛ فإذا نفي كان ما فوقه منفيًّا بطريق الأولى، ثم إنا جرينا في حمل هذا الكلام على معنى الدعاء على طريقة الشارحين واتبعناهم، ولكن للحمل على الإخبار بسوء حالهم وهلاكهم وانكبابهم وانتكاس أمرهم مجال واسع، فيكون إشارة إلى أنهم كما خابوا وهلكوا عند اللَّه كذلك خسروا وتضرروا عند الخلق، وصاروا بحيث إذا ابتلوا بشدة ومحنة في الدنيا لم يعنهم أحد ولم يترحم عليهم؛ لأنهم لما صاروا إلى الدنيا بخلوا ولم يحسنوا إلى الناس حتى يحبونهم ويعينوهم في الشدائد، فافهم.
وقوله: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه. . . إلخ)، لما ذكر قبيح حال عبيد الدنيا المتكبرين المتزينين زينة الحياة الدنيا أردفه بذكر المهتمين بأمر الدين، المجاهدين في سبيل اللَّه، الزاهدين في الدنيا وزينتها، المتواضعين لأمر الشرع، أذلة في أعين أهل الدنيا أعزة عند اللَّه تعالى.
وقوله: (أشعث) منصوب على الحالية من (عبد)، أو مجرور صفة له، أو مرفوع على الخبرية لمحذوف، و (رأسه) فاعله، وكذلك (مغبرة قدماه).
وقوله: (إن كان في الحراسة) أي: إن أمروه بكونه في أمر الحراسة كان راضيًا به وممتثلًا أمر المسلمين، أو المراد إن كان في الحراسة كان فيها كاملًا؛ لأن الشرط والجزاء إذا اتحدا دل على فخامة الجزاء وكماله، مثل: شعري شعري، و (الساقة) مؤخر الجيش.
وَإِن اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 2887].
5162 -
[8] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا"، فَقَالَ رجلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أوَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ حَتَّى ظَننَّا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ وَقَالَ: . . . . .
ــ
وقوله: (إن استأذن) أي: الناس في دخوله عليهم وجلوسه مجلسهم (لم يؤذن له) لحقارته في أعين أهل الظاهر، وهو مقرب حضرة اللَّه ومعزز عنده، (وإن شفع) الناس في أمر (لم يشفع) لم تقبل شفاعته؛ لعدم مبالاة الناس به، وهو بحيث لو أقسم على اللَّه لأبره.
5162 -
[8](أبو سعيد الخدري) قوله: (أو يأتي الخير بالشر؟ ) الباء للتعدية، أي: حصول المال بالغنائم لنا خير، وهل يكون ذلك الخير سببًا للشر وترك الطاعة؟
وقوله: (فمسح عنه الرحضاء) بضم الراء وفتح الحاء المهملة والضاد المعجمة ممدودًا، كذا في (مشارق الأنوار)(1)، وفي (القاموس) (2): هي عرق إثر الحمى، أو عرق يغسل الجلد كثرة، وقد رحض المحموم كعني، والرحاض بالضم اسم منه، وفي (النهاية) (3): الرحض الغسل، وفي حديث أواني المشركين:(إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء)، والرحيض: الثوب المغسول، والرحضاء: هو عرق يغسل الجلد لكثرته، وكثيرًا ما يستعمل في عرق الحمى والمرض.
(1)"مشارق الأنوار"(1/ 455).
(2)
"القاموس"(ص: 593).
(3)
"النهاية في غريب الحديث والأثر"(2/ 208).
"أَيْنَ السَّائِلُ؟ " وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ، فَقَالَ: "إِنَّهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ، إِلَّا آكلَةَ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى امْتَدَّتْ خَاِصرَتَاهَا اسْتقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ. . . . .
ــ
وقوله: (وكأنه حمده) جعلوا المضمر المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم والمنصوب للسائل، أي: أثنى عليه في سؤاله، فأجابه لأنه كان محل السؤال والاستفسار.
وقوله: (إنه لا يأتي الخير بالشر) إشارة إلى أن المال وإن كثر فهو خير، وإنما يصير شرًّا بعارض البخل والإسراف، كالربيع ما أنبت إلا ما هو خير في نفسه، والهلاك للإفراط في الأكل كما بينه بقوله:(وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا) والحبط بفتحتين: التخمة، وفي (القاموس) (1): وجع ببطن البعير من كلأ يكثر منه فتنتفخ منه، فلا يخرج منه شيء، حبط كفرح، أو انتفاخ البطن عن أكل الذُّرق، وفي (الصراح) (2): حبط بالتحريك: شكم برآمدن ستور را از خردن، ويروى من الخاء المعجمة من التخبط، وهو الاضطراب، كذا في (مجمع البحار)(3)، ولا شك أن الأول أقرب وأنسب، واللَّه أعلم.
وقوله: (أو يلم) من الإلمام، وهو المقاربة، في (القاموس) (4): وغلام مُلِمٌّ، بضم أوله: قارب البلوغ، فالمعنى ما يقارب القتل.
وقوله: (إلا آكلة الخضر) استثناء مفرغ، أي: يقتل آكليه كلهم إلا آكل الخضر بالصفة المذكورة المبنية بقوله: (أكلت حتى امتدت. . . إلى آخره)، و (آكلة) على
(1)"القاموس"(ص: 609).
(2)
"الصراح"(ص: 288).
(3)
"مجمع بحار الأنوار"(1/ 488).
(4)
"القاموس"(ص: 1068).
فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ، ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ،
ــ
لفظ اسم الفاعل، وتأنيثه بتقدير موصوفه مؤنثًا، أي: دابة آكلة، أو جماعة آكلة، أو التاء للمبالغة، والاستثناء المفرغ في الكلام الموجب صحيح عند إرادة العموم، و (الخضر) بكسر الضاد: من النبات الرخص الغض، قال الأزهري: والخضر هنا ضرب من الجنبة، والجَنْبة: ما له أصل غامض في الأرض، فالماشية تشتهيه وتكثر منه؛ لأنه يبقى فيه خضرة ورطوبة بعد يبس البقول وهيجها، واحده خضرة، كذا في (مشارق الأنوار)(1)، وفي (القاموس) (2): الخضر ككتف: الغصن والزرع والبقلة الخضراء كالخضرة والخضير، وضرب من الجنبة، واحدته بهاء، وسعف النخل، وجريده الأخضر، واختُضِرَ: أُخِذَ غَضًّا، ثم إنه جاء عند العذري في حديث أبي الطاهر:(الخضرة) بزيادة التاء، أي: النبات الأخضر الناعم، وعند الطبري وبعضهم: الخضر بضم الخاء وسكون الضاد، والرواية الأولى أعرف، وكذا في أكثر الأحاديث والروايات، كذا قال القاضي عياض، وقال الكرماني: الخضراء بسكون ضاد ومد، أي: من جملة ما ينبته الربيع شيء يقتل إلا خضراء إذا اقتصد فيه آكله، وروي (ألا) بخفة لام استفتاحية، أي: ألا انظروا لآكله واعتبروا بها (3).
وقوله: (فثلطت) أي: ألقت ما في بطنها رقيقًا، إذا شبعت فثقل عليها ما أكلت، فتحيلت في دفعه بأن تستقبل الشمس فتحمي بها فسهل خروجه؛ فإذا خرج زال الانتفاخ فسلمت، يعني المقتصد المحمود العاقبة وإن جاوز حد الاقتصاد في بعض الأحيان
(1)"مشارق الأنوار"(1/ 383).
(2)
"القاموس"(ص: 360).
(3)
انظر: "مجمع بحار الأنوار"(2/ 53).
وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1465، م: 1052].
ــ
وقرب من السرف المذموم لغلبة الشهوة المركوزة في الإنسان لكنه يرجع عن قريب عن ذلك الحد المذموم ولا يثبت عليه، بل يلتجئ إلى التوبة وعلاج نفسه بما يطهره ويزكيه، فهذا إشارة إلى الاقتصاد في شهوات الدنيا كما أن الأول المذكور في قوله:(يقتل حبطًا) إشارة إلى الإسراف والتجاوز عن الحد، بل لا يبعد أن يدّعى أن في الحديث تلويحًا إلى قسم ثالث، وهو الزهد في الدنيا وزينتها مطلقًا، فالمفرط السرف الذي هلك في لذات الدنيا وشهواتها مثال للكافر، والذي أسرف لكنه قد يتحرى في إزالة ذلك ويحتال في دفع مضرتها مثال للمؤمن العاصي، والذي يزهد فيها ولا يلتفت إلى الدنيا وزهرتها مثال للزهد، ولو جعلت الأمثلة الثلاثة للمؤمنين، الأول لمرتكب المعاصي المصرّ عليها، والثاني لمن يفعل ويرجع ثم يقع ويتردد حاله تارةً فتارةً للمؤمن المتوسط الحال، والثالث للزاهد المتقي المشار إليه بقوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] لم يبعد، فتدبر.
ثم بيَّنَ سبب الوقوع في الإسراف وثبات من يثبت وزلة من زلّ بقوله: (وإن هذا المال خضرة حلوة. . . إلخ)، قال القاضي عياض (1):(خضرة) بفتح الخاء وكسر الضاد، كذا وقع للأصيلي بزيادة التاء في (كتاب الوصايا)، و (كتاب الخمس)، وفي غير هذا الموضع:(خضر حلو) بغير تاء، والخضر بكسر الضاد: من النبات الرخص
(1)"مشارق الأنوار"(1/ 383).
5163 -
[9] وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتهُمْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 4015، م: 2961].
ــ
الغض، والبقلة الخضراء: التي علت من الريّ، واحدته خضرة، وعلى رواية (خضرة) فالتأنيث بمعنى تأنيث الدنيا، أي: الفتنة بها، أو تأنيث المشبه بها، أي: كالخضرة، وقال ثابت: معناه أن المال شهي كالبقلة الخضرة، أو يكون بمعنى فائدة المال، كأنه قال: الحياة به أو العيشة فيه خضرة، أي: ناعمة مشتهاة، أو يكون المال بمعنى الدنيا، انتهى.
5163 -
[9](عمرو بن عوف) قوله: (فتنافسوها) أصله تتنافسوا، والتنافس: الرغبة في الشيء، وشيء نفيس ومنفوس ومنفس كمخرج: يتنافس فيه ويرغب، وقد نفس ككرم نفاسة ونفاسًا، والنهي عن الرغبة فيه إما لأنها تبعث على جمعها وإمساكها، وإما لأنه يؤدي إلى المنازعة والمقاتلة، كذا قال الطيبي (1)، وفي (القاموس) (2): نفس به كفرح: ضَنَّ، ونفس عليه: حسد، وهذان المعنيان أيضًا يصح إرادتهما، وعلى كل تقدير الضمير في (تنافسوها) منصوب على نزع الخافض، إما في أو الباء أو على.
وقوله: (كما تنافسوها) على صيغة الماضي، والضمير فيه لـ (من كان قبلكم).
(1)"شرح الطيبي"(9/ 293).
(2)
"القاموس"(ص: 534).
5164 -
[10] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا"، وَفِي رِوَايَةٍ "كَفَافًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 6460، م: 1055].
ــ
5164 -
[10](أبو هريرة) قوله: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا، وفي رواية: كفافًا) في (القاموس)(1): القوت بالضم والقيت والقيتة بكسرهما: الْمُسْكة من الرزق، وقاتهم قَوتًا وقُوتًا وقِياتة، فاقتاتوا، ومن العيش: الكفاية، وفي (الصراح) (2): قوت قياتة: خورش دادن من نصر ينصر، قاته أهله بقوته، والاسم قوت بالضم، وهو ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام، ويقال: ما عنده قوت ليلة وقيتة ليلة، ويقال: قُتُّهُ فاقتات، كما يقال: رزقته فارتزق، وهو في قائت من العيش، أي: في كفاية.
وفي (مجمع البحار)(3): (اللهم اجعل رزق محمد قوتًا) أي: بقدر ما يمسك الرمق من المطعم، وقيل: أي كفاية من غير إسراف، والكفاف كسحاب من الرزق: ما كف عن الناس وأغنى، كذا في (القاموس)(4)، قال في (الصراح) (5): كفاف بالفتح: اندازه ومانند وروز كَذار، وفي الحديث:(اللهم اجعل رزق آل محمد كفافًا)، وفي (مجمع البحار) (6): في حديث: (من أسلم ورزق كفافًا) أي: قوتًا يكفه عن الجوع
(1)"القاموس"(ص: 158).
(2)
"الصراح"(ص: 67).
(3)
"مجمع بحار الأنوار"(4/ 335).
(4)
"القاموس"(ص: 784).
(5)
"الصراح"(ص: 362).
(6)
"مجمع بحار الأنوار"(4/ 430).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أو عن السؤال، وقال في حديث عمر رضي الله عنه: وددت أني أسلمت -وفي رواية: نجوت- من الخلافة كفافًا لا عليّ ولا لي.
الكفاف: ما لا يفضل عن الشيء، ويكون بقدر الحاجة، وقيل: أراد مكفوفًا عني شرها، وقيل: أي: تنال مني ولا أنال منها، أي: تكف عني وأكف عنها.
وقال في (مشارق الأنوار)(1) في هذا الحديث: القوت بالضم: ما يمسك رمق الإنسان، وهي الغنية، قال صاحب (العين): هو المسكة من الرزق، قال ابن دريد: يقال: قات أهله قوتًا بالفتح، وأقاتهم أيضًا، وهي البلغة من العيش.
إذا عرفت معنى القوت والكفاف عرفت أنهما متحدان أو قريبان في المعنى، وأنه يفهم من بعض عباراتهم أن القوت بمعنى ما يسدّ الرمق، والكفاف بمعنى القدر المحتاج إليه، ومع ذلك المراد في الحديث هو الكفاف، وكذا قال الطيبي (2): هذه الرواية مفسرة للرواية الأولى، ثم اعلم أن الكفاف يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال، فمنهم من يعتاد قلة الأكل حتى إنه يكاد يصبر يومًا أو يومين، ومنهم من يعتاد الأكل في يوم مرة أو مرتين، ومنهم من له عيال قليل أو كثير، ومنهم من لا عيال له، ويختلف باختلاف الأزمان وحال الضعف والمرض، ففي زمان الجدب والعسر يكفي الأدنى، وحال اليسر والقوة يزيد على ذلك، فمقدار الكفاف غير مضبوط، والمحمود ما يتقوى به على الطاعة والحركات العادية، وقال الطيبي: فيه إرشاد للأمة إلى أن الزيادة على الكفاف لا ينبغي أن يتعب الرجل في طلبه لأنه لا خير فيه، فكثرة
(1)"مشارق الأنوار"(2/ 327).
(2)
"شرح الطيبي"(9/ 294).
5165 -
[11] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 1054].
5166 -
[12] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي، وَإِنَّ مَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى،
ــ
المال تلهي وقلته تنسي، فما قل منه وكفى خير مما كثر وألهى. وأقول: يمكن أن يراد بالآل الأمة، وبالقوة على ما هو معناه الأصلي، وإن أريد أهله كما هو الظاهر فالحكم في غيرهم يثبت بالدلالة، واللَّه أعلم.
5165 -
[11](عبد اللَّه بن عمرو) قوله: (من أسلم) أي: آمن، أو استسلم في جميع ما قضى اللَّه، كقوله:{أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131].
وقوله: (وفنعه اللَّه بما آتاه) في (القاموس)(1): القناعة: الرضا بالقسم، كالقنع محركة، والفعل كفرح، فهو قَنِعٌ وقانع وقَنوع وقَنيع، القنوع بالضم: السؤال والتذلل والرضا بالقسم، ضد، والفعل كمنع، ومن دعائهم: نسأل اللَّه القناعة ونعوذ به من القنوع، [وفي المثل: خير الغنى القنوع، ] وشر الفقر الخضوع.
5166 -
[12](أبو هريرة) قوله: (وإن ما له من ماله): (ما) موصولة، أي: الذي له من المنافع من ماله، ولذلك أنث (ثلاث).
وقوله: (فاقتنى) أي: جمع وادخر، أشار إلى أن جمع المال في الحقيقة هو أن يعطي ويتصدق؛ لأنه ادخر ثوابه لنفسه ليوم الحاجة.
(1)"القاموس"(ص: 698).
وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2659].
5167 -
[13] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ: فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 6514، م: 2960].
5168 -
[14] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أيُّكُمْ مَالُ وَارثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ، قَالَ:"فإِنَّ مَالهُ ما قَدَّمَ وَمالَ وَارِثِهِ مَا أَخَّر". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 6442].
5169 -
[15] وَعَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يقْرَأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] قَالَ: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي"، قَالَ: "وَهَلْ لَكَ يَا بْنَ آدَمَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ،
ــ
وقوله: (وتاركه) أي: صاحبه تاركه (للناس).
5167 -
[13](أنس) قوله: (يتبع الميت ثلاثة) تبعه: مشى خلفه، ومرّ به فمضى معه، هذا حقيقة، والمراد هنا معنى مجازي عام، وهو تعلقها به بعده، وكونها معه إلى حين، كأنها تمشي خلفه وتمضي معه، فيرجع الأهل والمال وينقطع التعلق بينهما وبينه، ويبقى معه متصلًا به العمل، فافهم.
5168 -
[14](عبد اللَّه بن مسعود) قوله: (فإن ماله) أي: النافع له: (ما قدم) أي: تصدق.
5169 -
[15](مطرف) قوله: . . . . .