الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الجزء السابع والعشرون]
[هذا الكتاب]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فهذا هو السفر السابع والعشرون والأخير من كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» لشهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري الدمشقي المتوفى بها سنة 749 هـ/ 1349 م، وهو عبارة عن قطعة من التاريخ تبدأ بسقوط طرابلس الغرب في أيدي الفرنجة (النورمان) في سنة 541 هـ/ 1146 م، وتنتهي بسنة 744 هـ/ 1343 م من أيام السلطان المملوكي الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الناصر محمد بن قلاوون، وما بين السنتين المذكورتين تنضوي جملة من تواريخ الدول التي ظهرت إبان تلك الفترة، وغمرت بأحداثها مشرق العالم الإسلامي ومغربه على حد سواء، بحيث يمكن النظر إلى هذا السفر مع ما تميز به من الاختصار، والاختصار الشديد أحيانا كدائرة معارف تاريخية «ميسرة» لتلك الدول، نشوئها وتطورها واضمحلالها.
هذا، ويعد تاريخ أبي الفداء الشهير «المختصر في أخبار البشر» «1» المصدر الرئيس لكتابنا حيث واصل فيه المؤلف النقل عن التاريخ المذكور من سنة 541 هـ/ 1146 م «2» حتى سنة 692 هـ 1293/م، ولولا بعض الإجراءات الشكلية التي أدخلها العمري على التاريخ المذكور من مثل: تناوله تاريخ كل عشر سنوات على حدة (اعتماد نظام العقود) ، وعبارة واحدة (فقط) تعود إليه وتدل عليه «3» ، وحذف بعض الحوادث والتراجم وخصوصا تراجم الفقهاء والعلماء والأدباء، وزيادة في بعض الأشعار والمكاتبات الخاصة بمناسبات معينة «4»
…
أقول: لولا ذلك لظن أن الكتاب إنما هو نسخة أخرى من نسخ «المختصر» ، وأن نسبته إلى العمري إنما تمت عن طريق الخطأ، فقد ظل الكتاب- بالرغم مما تقدم- يحتفظ بجميع الوشائج والصلات التي تشده إلى «المختصر» إن على صعيد العبارة الواحدة المشتركة بين الاثنين، وهي عبارة أبي الفداء أولا وأخيرا، أو على صعيد المواقع التي ظل أبو الفداء يحتفظ بها لنفسه داخل السياق وتنطق بحضوره الشخصي فيها، من مثل:
- قوله بعد الفراغ من ترجمة نور الدين محمود بن زنكي: «ولا يحتمل هذا المختصر ذكر فضائله» «5» .
- وقوله في الاختلاف الواقع في نسب أبي دبوس آخر ملوك بني عبد المؤمن:
«فإني وجدت في بعض الكتب المؤلفة في هذا الفن أن أبا دبوس هو ابن إدريس
المأمون، ثم وجدت نسبه في وفيات الأعيان أنه هو نفسه اسمه إدريس بن عبد الله بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن
…
» «1» .
- وحديثه عن دخول الملك المظفر تقي الدين محمود إلى حماه ومضيه إلى دار الوزير المعروفة بدار الإكرام التي قال: «وهي الآن مدرسة تعرف بالخاتونية وقفتها عمتي مؤنسة خاتون بنت الملك المظفر المذكور» «2» .
- وقوله: «وفي هذه السنة- 635 هـ- ولد والدي الملك الأفضل نور الدين علي بن المظفر صاحب حماه» «3» .
- ويدخل في ذلك أيضا الإحالات نفسها التي أحال بها أبو الفداء القارئ إلى ما تقدم من أجزاء «تاريخه» واحتفظ بها العمري بالرغم من اتصالها بسنوات خارجة عن دفتي الكتاب «4» ، فضلا على الإحالات المبثوثة داخل السياق.
ولعل العمري لم يمهل الوقت (بسبب وفاته) لاستخلاص «المختصر» واستصفائه لنفسه، وتنقيته من «البصمات» الخاصة بأبي الفداء تماما كما لم يمهل لاستكمال بعض أجزاء الكتاب.
أما لماذا لم يواصل العمري المضي قدما في الاتكاء على تاريخ أبي الفداء حتى نهايته في سنة 732 هـ/ 1332 م، ولماذا آثر الانسحاب من هذا التاريخ بعد أن سلخ منه هذه الصفحات الطوال ومعها هذه السنوات الطوال أيضا (152 سنة) ؟.
لعل الإجابة عن هذا التساؤل تكمن في ظهور شخصية أبي الفداء على مسرح الأحداث وتحوله من ناقل أو ناسخ لما سبقه من التواريخ إلى راو لما عاينه وشاهده أو قام به من أحداث، وتمثل سنة 684 هـ/ 1285 م أول إطلالة تاريخية لأبي الفداء على العالم الخارجي، ففي هذه السنة حضر أبو الفداء مع والده الملك الأفضل نور الدين علي فتح حصن المرقب من فرسان الإسبتارية وكان وقتها في الثانية عشرة من عمره، وقال:«وهو أول قتال رأيته» «1» .
كما حضر فتح طرابلس من الصليبيين في سنة 688 هـ/ 1289 م «2» .
واشترك أبو الفداء في فتح عكا من الصليبيين أيضا في سنة 690 هـ/ 1291 م، وكان إذ ذاك «أمير عشرة» «3» .
وفتح قلعة الروم من الأرمن في السنة التالية «4» ، لتتوالى بعد ذلك مشاركاته في معظم الوقائع الحربية التي دارت على الجبهة الشامية ضد التتار، إضافة إلى الحملات والغارات الإسلامية (المملوكية) على بلاد الأرمن وما والاها من القلاع والحصون الشمالية.
وقد تحدث أبو الفداء عن نفسه وعن دوره في هذه الوقائع والحملات، كما تحدث بلسان العسكر الحموي الذي كان يقاتل في عداده وبصورة بات يصعب معها على العمري أو على غيره من المؤرخين فصل السياق عن صاحبه دون أن تلحق أضرار بالغة بأحدهما أو كليهما معا.
أما ما يتصل ببقية سنوات الكتاب (693- 744 هـ/ 1293- 1343 م) فقد سلخها العمري جملة وتفصيلا عن «دول الإسلام» «1» لمعاصره شمس الدين الذهبي (ت 748 هـ/ 1347 م) .
ولا شك أن خسارة العمري كانت كبيرة للغاية بعد انقطاعه عن «المختصر» ، وما نظن أن تحوله للتاريخ المذكور قد قلل من هذه الخسارة نظرا للفارق المنهجي الكبير بين التاريخين خاصة إذا علمنا أن «دول الإسلام» لا يعدو أن يكون «تاريخا صغيرا» استله الذهبي من تاريخه الكبير «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام» ، وقصره على أبرز الحوادث والوفيات، ولعل العمري كان معنيا بالرقي بتاريخه- بأي ثمن- إلى أيامه وذلك جريا على عادة معاصريه من المؤرخين الحوليين الذين اعتادوا أن يكتبوا تواريخهم سنة فسنة حتى آخر أيامهم أو قبيلها بقليل «2» ، ولعل هذا ما يفسر قيام العمري بضم أخبار (حوادث ووفيات) ما نظن أن بصره قد وقع عليها من قريب أو بعيد، وإن وقع فإنه لم يمهل النظر ثانية فيها (بسبب وفاته) ، تماما كما لم يمهل النظر في تاريخ أبي الفداء على ما أسلفنا، وها نحن نراه يتحدث عن وقعة مرج الصّفّر (شقحب) بين المسلمين والتتار (702 هـ/ 1303 م) كمن واقع أيامها بحلوها ومرها في الوقت الذي لم يكن فيه قد تجاوز الثانية من عمره:
«وطلع الضوء من بكرة الأحد والمسلمون محدقون بالتتار، فلم يكن ضحوة إلا وقد ركن التتار إلى الفرار وولوا الأدبار، ونزل النصر ودقت البشائر وزين
البلد، فأين غمرة السبت من سرور يوم الأحد، فوالله ما ذقنا يوما أحلى منه ولا أمرّ من الذي قبله» . «1»
وتبدو المفارقة كبيرة حينما نمر على ترجمتي عمه شرف الدين عبد الوهاب (ت 717 هـ/ 1317 م) ووالده محيي الدين يحيى (ت 738 هـ/ 1338 م) فلا نلحظ فيهما أي إشارة تند عن قربى أو صلة بين العمري والمترجم لهما، وما ساقه من وصف لهما لا يتعدى الوصف التقليدي الذي يمكن أن يحمل عليهما وعلى غيرهما، وما أكثر ما تحفل به وبمثله المصادر التاريخية المملوكية، فقد كان عمه شرف الدين «كبير القدر، مصونا، دينا، كامل العقل» «2» ، وأما والده محيي الدين فله «رواية عالية ومحاسن وأموال» «3» هذا في الوقت الذي كان يؤمل فيه من العمري أن يفيض في الحديث عنهما وعن مكانتهما في الدولة المملوكية بوصفهما من أعيان الكتاب فيها، وما ذكرناه عن تعاطيه مع عمه ووالده ينسحب على العديد من الشخصيات التي مرّ عليها كأن لم يكن بينه وبينها «مودة» ، هذا مع معرفته الواسعة برجال عصره بحكم منصبه الرفيع كرئيس لديوان الإنشاء في القاهرة، وقربه من الفعاليات المتنفذة في السلطنة، وهو ما أدى في النهاية إلى حرمان القارئ من الانتفاع ب «شهادته» ومن ثمّ النظر إلى تاريخه كصورة مكرورة عن غيره من التواريخ.
على أنه من الإنصاف أن نشير إلى أن العمري لم يكن بدعا بين مؤرخي عصره فيما جرى عليه من الجمع والانتقاء والاختصار فهذه الأمور تكاد تكون
من السمات التي تواضعت عليها المدرسة التاريخية المملوكية بجناحيها المصري والشامي. إنّ عبارات من مثل: هذا آخر ما وجدته بخط فلان، أو آخر ما جمعته، أو انتقيته، أو سلخته من تاريخ كذا
…
تبدو مألوفة في سياق المجهود التاريخي المملوكي، ولدينا تواريخ ربما لم ينشئ أصحابها فيها صفحة واحدة، وإنما قاموا بتركيبها أو تلفيقها من تواريخ متعددة، بل إن بعض هؤلاء ما كان ليرسل نظره فيما ينقل كما حكى ابن حجر العسقلاني عن معاصره بدر الدين العيني:
«
…
وذكر أن الحافظ عماد الدين بن كثير عمدته في تاريخه، وهو كما قال، لكن منذ أن انقطع ابن كثير صارت عمدته على تاريخ ابن دقماق حتى كان يكتب منه الورقة الكاملة متوالية، وربما قلده فيما بهم فيه حتى في اللحن الظاهر مثل: أخلع على فلان
…
، وأعجب منه أن ابن دقماق يذكر في بعض الحادثات ما يدل أنه شاهدها، فيكتب البدر كلامه بعينه بما تضمنه، وتكون تلك الحادثة وقعت بمصر، وهو في عينتاب
…
» «1» !