الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي سنة أربع وستين وخمس مئة
«13»
ملك نور الدين محمود قلعة جعبر وأخذها (45) من شهاب الدين مالك ابن علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران العقيلي «1» ، وكانت بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه «2» ، ولم يقدر نور الدين على أخذها إلا بعد أن أسر صاحبها المذكور بنو كلاب، وأحضروه إلى نور الدين فاجتهد به على تسليمها، فلم يفعل، فأرسل عسكرا تقدمهم فخر الدين مسعود بن [أبي]«3» علي الزعفراني «1» وردفه بعسكر آخر مع مجد الدين أبي بكر بن الداية وكان رضيع نور الدين، وحصروا قلعة جعبر فلم يظفروا فيها بشيء، ولم يزالوا على صاحبها مالك حتى سلّمها وأخذ عوضها مدينة سروج «4» مع أعمالها والملّوحة «5» من بلد حلب، وعشرين ألف دينار معجلة، وباب بزاعة.
وفيها في ربيع الأول، سار أسد الدين شير كوه بن شاذي إلى ديار مصر ومعه العساكر النورية، وسبب ذلك تمكن الفرنج من الديار المصرية وتحكمهم على المسلمين بها، حتى ملكوا بلبيس قهرا في مستهلّ صفر هذه السنة، وقتلوا كلّ من فيها، ثم ساروا من بلبيس ونزلوا على القاهرة عاشر صفر وحاصروها وأحرق
شاور مدينة مصر خوفا من أن يملكها الفرنج وأمر أهلها وأنقلهم إلى القاهرة فبقيت النار تعمل أربعة وخمسين يوما، فأرسل العاضد الخليفة إلى نور الدين يستغيث به، وأرسل في الكتب شعور النساء، وصانع شاور الفرنج على ألف ألف دينار يحملها إليهم، فحمل إليهم مئة ألف دينار، وسألهم أن يرحلوا عن القاهرة ليقدر على جمع المال، فرحلوا «1» ، وجهز نور الدين العسكر مع شير كوه (46) وأنفق فيهم المال وأعطى شير كوه مئتي ألف دينار سوى الخيل والدواب والأسلحة، وأرسل معه عدة أمراء منهم ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب على كره منه.
أحبّ نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب الملك من بيته، وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ
«2» ، ولما قرب شير كوه من مصر رحل الفرنج على أعقابهم إلى بلادهم، وكان هذا لمصر فتحا جديدا، ووصل أسد الدين شير كوه إلى القاهرة في رابع ربيع الآخر، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية، وأجرى عليه وعلى عسكره الإقامات الوافرة، وشرع شاور يماطل شير كوه فيما بذله لنور الدين من تقرير المال وإفراد ثلث البلاد له، ومع ذلك [فكان]«3» شاور يركب كلّ يوم إلى أسد الدين شير كوه ويعده ويمنّيه وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً
«4» ، ثم إنّ شاور عزم على أن يعمل دعوة لشير كوه
وأمرائه ويقبض عليهم فمنعه ابنه الكامل «1» بن شاور من ذلك، ولما رأى عسكر نور الدين من شاور ذلك عزموا على قتله، واتفق على ذلك صلاح الدين يوسف وعزّ الدين جرديك «2» وغيرهما، وعرفوا شير كوه بذلك فنهاهم عنه، واتفق أن شاور قصد شير كوه على عادته فلم يجده في المخيم وكان قد مضى لزيارة قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه فلقي صلاح الدين وجرديك شاورا وأعلماه برواح (47) شير كوه إلى الزيارة، فساروا جميعا إلى شير كوه، فوثب صلاح الدين وجرديك [ومن معهما]«3» على شاور ورموه عن فرسه إلى الأرض، وأمسكوه في سابع ربيع الآخر «4» هذه السنة، فهرب أصحابه عنه وأرسلوا أعلموا شير كوه يطلب منه إنقاذ رأس شاور فقتله وأنفذ رأسه إلى العاضد، ودخل عند ذلك شير كوه إلى قصر العاضد فخلع عليه [خلع الوزارة]«5» ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة وهي التي كان فيها شاور واستقرّ في الأمر، وكتب له منشور «6» بالإنشاء الفاضليّ، وكتب له بعد البسملة:
«من عبد الله ووليّه الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجلّ الملك المنصور سلطان الجيوش وليّ الأئمة مجير الأمة [أسد الدين] «1» أبي الحارث شير كوه العاضديّ عضّد الله به الدين، وأمتع [بطول بقائه]«2» أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته، سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ونسأله أن يصلّي على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى آله الطاهرين والأئمة المهديين وسلّم تسليما» .
ثم ذكر تفويض أمور الخلافة إليه ووصايا، وكتب العاضد بخطّه على طرة المنشور:
«هذا عهد لم يعهد لوزير بمثله، فنقلّد أمانة رآك أمير المؤمنين أهلا لحملها، [فخذ] «3» كتاب أمير المؤمنين بقوة، وأسحب ذيل الفخار، بأن اعتزت (48) خدمتك [إلى]«4» بنوة النبوة [واتخذه للفوز سبيلا]«4» » .
ومدحت الشعراء أسد الدين، ووصل إليه من الشام مديح العماد الكاتب قصيدة أولها «5» :(البسيط)
بالجدّ أدركت ما أدركت لا اللعب
…
كم [راحة]«6» جنيت من دوحة التّعب
يا شير كوه بن شاذي الملك دعوة من
…
نادى [فعرّف]«7» خير ابن لخير أب
جرى الملوك وما حازوا بركضهم
…
من المدى في العلا ما حزت بالخبب
تملّ من ملك مصر رتبة قصرت
…
عنها الملوك فطالت سائر الرتب
قد أمكنت أسد الدين الفريسة من
…
فتح البلاد فبادر نحوها وثب
وفي شير كوه وقتل شاور يقول عرقلة الدمشقي «1» : (الطويل)
لقد فاز بالملك العقيم خليفة
…
له شير كوه العاضديّ وزير
هو الأسد الضاري الذي حلّ خطبه
…
وشاور كلب للرجال عقور
بغى وطغى حتى لقد قال صحبه
…
على مثلها كان اللعين يدور
فلا رحم الرحمن تربة قبره
…
ولا زال فيها منكر ونكير
فأما الكامل بن شاور، فإنه لما قتل أبوه دخل القصر وكان آخر العهد به.
ولما لم سبق لأسد الدين شيركوه منازع أتاه أجله حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً
«2» فتوفّي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمس مئة، وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام «3» .
وكان شيركوه وأيوب [ابنا]«4» شاذي من بلد دوين «5» ، قال ابن الأثير:
وأصلهما (49) من الأكراد الرواديّة «6» ، فقصدا العراق وخدما بهروز «7»
شحنة السلجوقية ببغداد، وكان أيوب أكبر من شير كوه فجعله بهروز مستحفظا قلعة تكريت، ولما انكسر عماد الدين زنكي من عسكر الخليفة «1» ومرّ على تكريت خدمه أيوب وشير كوه، ثم إن شير كوه قتل إنسانا بتكريت فأخرجهما بهروز من تكريت فلحقا بخدمة عماد الدين زنكي فأحسن إليهما وأعطاهما إقطاعات جليلة، ولما ملك عماد الدين قلعة بعلبك جعل أيوب مستحفظا عليها فلما حاصره عسكر دمشق بعد موت زنكي سلّمها أيوب إليهم عن إقطاع كبير، وبقي أيوب من أكبر أمراء عسكر دمشق، وبقي شير كوه مع نور الدين محمود بعد قتل أبيه زنكي وأقطعه نور الدين حمص والرّحبة لما رأى من شجاعته، وزاده عليهما، وجعله مقدم عسكره، فلما أراد نور الدين ملك دمشق أمر شير كوه فكاتب أخاه أيوب فساعد نور الدين على فتح دمشق، وبقيا معه إلى أن أرسل شير كوه إلى مصر مرة بعد ما جرى حتى ملكها، وتوفّي هذه السنة على ما ذكرناه.
ولما توفي شير كوه كان معه صلاح الدين يوسف بن أخيه أيوب، وكان قد سار معه على كره، قال صلاح الدين:
أمرني نور الدين بالمسير مع عمي شير كوه، وكان قد قال شير كوه بحضرته لي: تجهز يا يوسف للمسير، فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبدا (50) فقال لنور الدين: لا بدّ من مسيره معي فأمرني نور الدين وأنا أستقيل، وقال نور الدين: لابد من مسيرك مع
عمك، فشكوت الضائقة، فأعطاني ما تجهزت به فكأنما أساق إلى الموت.
ولما مات شير كوه طلب جماعة من الأمراء النورية التقدم على العسكر وولاية الوزارة العاضدية، منهم عين الدولة الياروقي «1» ، وقطب الدين المنبجي، وسيف الدين علي بن أحمد المشطوب الهكّاري «2» ، وشهاب الدين محمود الحارمي «3» خال صلاح الدين، فأرسل العاضد طلب صلاح الدين وولاه الوزارة، ولقبه الملك الناصر، فلم يطعه الأمراء المذكورون، وكان مع صلاح الدين الفقيه عيسى الهكّاري «4» ، فسعى مع المشطوب حتى أماله إلى صلاح الدين، ثم قصد الحارمي، وقال: هذا ابن أختك وعزه وملكه لك فمال إليه أيضا، ثم فعل بالباقين كذلك، فكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي، فإنه قال: أنا لا أخدم يوسف، وعاد إلى نور الدين بالشام، وثبت قدم صلاح الدين على أنه نائب لنور الدين.
وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسلار «5» ويكتب علامته على رأس
الكتاب تعظيما أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بكتاب بل: الأمير صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أباه أيوب وأهله فأرسلهم نور الدين إليه فأعطاهم الإقطاعات بمصر، وتمكن من البلاد، وضعف أمر (51) العاضد «1» .
ولما فوّض الأمر إلى صلاح الدين تاب عن شرب الخمر، وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص لباس الجد، ودام على ذلك إلى أن توفاه الله عز وجل.
قال ابن الأثير في «الكامل» : رأيت أكثر ما يقع ممن ابتدئ الملك منه ينتقل إلى غير عقبه، فإنّ معاوية تغلب وملك فانتقل الملك إلى بني مروان بعده، ثم ملك السفاح من بني العباس فانتقل الملك إلى بني أخيه المنصور، ثم السامانية «2» أول من استبد بالملك منهم نصر بن أحمد «3» ، فانتقل الملك إلى عقب أخيه إسماعيل «4» ، ثم عماد الدولة ابن بويه «5» ، ملك فانتقل الملك إلى بني أخيه ركن الدولة «6» ، ثم ملك طغرلبك
السلجوقي «1» فانتقل الملك إلى بني أخيه جقر «2» ، ثم شير كوه ملك فانتقل الملك إلى ابن أخيه صلاح الدين، ولما قام صلاح الدين بالملك لم يبق الملك في عقبه بل انتقل إلى بني العادل أبي بكر «3» ولم يبق لأولاد صلاح الدين غير حلب، وكان سبب ذلك كثرة قتل من يتولى أولا وأخذه الملك وعيون أصحابه فيه فيحرم على عقبه ذلك «4» .
ولما استقر قدم صلاح الدين في الوزارة قتل مؤتمن الخلافة «5» وهو مقدم السودان، فاجتمعت السودان وهم حفاظ القصر في عدد كبير وجرى بينهم وبين صلاح الدين وعسكره وقعة عظيمة بين القصرين «6» ، فانهزم السودان، وقتل منهم خلق كثير، وتبعهم صلاح الدين فأجلاهم قتلا وتهجيجا، وحكم صلاح الدين على القصر، وأقام فيه بهاء الدين قراقوش الأسدي «7» وكان خصيا أبيض،
وبقي لا (52) يجري في القصر صغيرة ولا كبيرة إلا بأمر صلاح الدين.
وفيها، كان بين إينانج السّنجري صاحب الري وبين إلدكز حرب انتصر فيها إلدكز وملك الري وهرب إينانج وانحصر في بعض القلاع فبعث إلدكز، ورغب غلمان إينانج في الإقطاعات إن قتلوا إينانج فقتلوه «1» ولحقوا بإلدكز [فلم يف لهم وقال:] «2» ، فإن مثل هؤلاء لا ينبغي الإبقاء عليهم، فهربوا إلى البلاد، ولحقوا بخوارزم شاه «3» ، فصلب الذي تولى منهم قتل إينانج لخيانته أستاذه.
وفيها، توفي ياروق (بن) أرسلان التركماني «4» ، وكان مقدما كبيرا، وإليه تنسب الطائفة الياروقية من التركمان، وكان عظيم الخلقة، سكن بظاهر حلب، وبنى على شاطئ قويق هو وأتباعه عمائر كثيرة، وتعرف الآن بالياروقية «5» مشهورة هناك.