الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التتر على بلاده فولى على البلاد التي استولى عليها وسار إلى خراسان، وقطع خطبة (167) الخليفة الإمام الناصر من خراسان في سنة خمس عشرة وستّ مئة، وكذلك قطعت خطبة الخليفة من بلاد ما وراء النهر، وبقيت خوارزم، وسمرقند وهراة لم تقطع بهم خطبة الخليفة، فإن أهل هذه البلاد كانوا لا يلزمون بمثل هذا، بل يخطبون لمن يختارون ويفعلون نحو ذلك.
وفي سنة خمس عشرة وست مئة
«13»
كان الملك العادل بمرج الصّفّر في أوائلها وجموع الفرنج بمرج عكّا، ثم ساروا منها إلى الديار المصرية، ونزلوا على دمياط «1» فسار الملك الكامل بن العادل بمصر، ونزل قبالتهم واستمر الحال كذلك أربعة أشهر «2» ، وأرسل الملك العادل العسكر الذي عنده إلى عند ابنه الكامل، فوصلت إليه أولا فأولا، ولما اجتمعت العساكر عند الكامل أخذ في قتال الفرنج ودفعهم عن دمياط.
وفي هذه السنة، توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر «3» صاحب الموصل، وكانت
وفاته لثلاث بقين من ربيع الأول، وكانت مدة ملكه سبع سنين وسبعة أشهر، وانقرض بموته ملك البيت الأتابكي، وخلف ولدين أكبرهما اسمه أرسلان شاه «1» ، وكان حينئذ عمره نحو عشر سنين فأوصى بالملك له وأن يقوم بتدبيره بدر الدين لؤلؤ فنصّبه بدر الدين لؤلؤ في المملكة وجعل الخطبة (168) والسكة باسمه، وقام لؤلؤ بتدبير المملكة أحسن قيام.
وفيها، كانت قضية كيكاوس بن كيخسر (و) ملك الروم.
لما مات الملك الظاهر صاحب حلب، وجلس مكانه ولده العزيز في المملكة، وكان طفلا فطمع صاحب بلاد الروم كيكاوس في الاستيلاء على حلب، فدعا الملك الأفضل صاحب سميساط واتفق معه أن يفتح حلب وبلادها ويسلمها إلى الملك الأفضل، ثم يفتح البلاد الشرقية التي بيد الأشرف بن العادل ويتسلمها كيكاوس، وتحالفا على ذلك، وسار كيكاوس إلى جهة حلب ومعه الملك الأفضل، ووصلا إلى رعبان واستولى عليها كيكاوس وسلمها إلى الأفضل فمالت إليه قلوب أهل البلاد لذلك، ثم سار كيكاوس إلى تل باشر وبها [ابن دلدرم]«2»
ففتحها ولم يسلمها للأفضل فتغير خاطر الأفضل وخواطر أهل البلاد لذلك، ووصل الملك الأشرف بن العادل إلى حلب لدفع كيكاوس عن البلاد، ووصل إليه بها الأمير مانع بن حديثة أمير العرب في جمع عظيم، وكان قد سار كيكاوس إلى منبج وتسلمها لنفسه أيضا، وسار الملك الأشرف بالجموع التي معه ونزل وادي بزاعا، واتقع بعض العسكر مع مقدمة عسكر كيكاوس فانهزمت مقدمة
عسكر كيكاوس، وأخذ منهم عدة أسارى، فأرسلوا إلى حلب ودقت البشائر بها، ولما بلغ [ذلك]«1» كيكاوس وهو بمنبج ولى منهزما (169) وتبعه الملك الأشرف يتخطف أطراف عسكره، ثم حاصر الملك الأشرف تل باشر واسترجعها واسترجع رعبان وغيرها، وتوجه الملك الأفضل إلى سميساط ولم يتحرك بعدها في طلب ملك إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين وست مئة على ما سنذكره «2»
إن شاء الله تعالى.
وعاد الملك الأشرف إلى حلب، وقد بلغه وفاة أبيه، وكانت وفاته أنه كان نازلا بمرج الصّفّر إلى عالقين، وهي عند عقبة فيق، فنزل بها ومرض واشتد مرضه، ثم توفي هناك رحمه الله تعالى في سابع جمادى الآخرة من هذه السنة أعني سنة خمس عشرة وست مئة «3» ، وكان مولده سنة أربعين وخمس مئة، وكان عمره خمسا وسبعين سنة، وكانت مدة ملكه لدمشق ثلاثا وعشرين سنة، ولمصر نحو تسع عشرة سنة، وكان العادل حازما متيقظا غزير العقل سديد الآراء، ذا مكر وخديعة، صبورا، حليما، يسمع ما يكره ويغضي عنه، وأتته السعادة واتسع ملكه وكثرت أولاده، ورأى فيهم ما يحب، ولم ير أحد من الملوك الذين اشتهرت أخبارهم في أولاده من الملك والظفر ما رآه العادل، ولقد أجاد شرف الدين [بن] «1» عنين في قصيدة مدح بها الملك العادل مطلعها «4» :
(الكامل)
ماذا على طيف الأحبة لو سرى
…
وعليهم لو سامحوني بالكرى
العادل الملك الذي أسماؤه
…
في كلّ ناحية تشرّف منبرا
(170)
ما في أبي بكر لمعتقد الهدى
…
شكّ يريب بأنه خير الورى
بين الملوك الغابرين وبينه
…
في الفضل ما بين الثّريّا والثّرى
نسخت خلائقه الحميدة ما أتى
…
في الكتب عن كسرى الملوك وقيصرا
لا تسمعنّ حديث ملك غيره
…
يروى فكلّ الصيد في جوف الفرا «1»
وله الملوك بكلّ أرض منهم
…
ملك يجرّ إلى الأعادي عسكرا
من كلّ وضّاح الجبين تخاله
…
بدرا فإن شهد الوغى فغضنفرا
وخلف الملك العادل ستة عشر ولدا ذكرا غير البنات، ولما توفي الملك العادل لم يكن عنده أحد من أولاده حاضرا، فحضر إليه ابنه الملك المعظّم عيسى، وكان بنابلس بعد وفاته، فكتم موته، وأخذه ميتا في محفة وعاد به إلى دمشق، واحتوى الملك المعظم على جميع ما كان مع أبيه من الجواهر والسلاح والخيول وغير ذلك، ولما وصل إلى دمشق حلف الناس له وأظهر موت أبيه، وجلس للعزاء، وكتب إلى الملوك من إخوته وغيرهم بخبره، وكان في خزانة العادل لما توفي سبع مئة ألف دينار عينا.
ولما بلغ الكامل موت أبيه وهو في قتال الفرنج عظم عليه جدا، واختلفت العساكر عليه، فتأخر عن منزلته، وطمعت الفرنج ونهبت بعض أثقال المسلمين، وكان في العسكر عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وكان مقدما عظيما في الأكراد الهكّارية (171) فعزم على خلع الملك الكامل من السلطنة، وحصل في العسكر اختلاف كبير حتى عزم الملك الكامل على مفارقة البلاد واللحوق باليمن، وبلغ الملك المعظم عيسى بن العادل ذلك، فرحل عن الشام ووصل إلى أخيه الملك الكامل وأخرج عماد الدين بن المشطوب ونفاه
إلى الشام، فانتظم أمر الملك الكامل، وقويت مضايقة الفرنج لدمياط وضعف أهلها بسبب ما ذكرناه من الفتن التي حصلت في عسكر الكامل من ابن المشطوب.
وفيها، استولى عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر على بعض قلاع الموصل.
(و) قد تقدم في سنة سبع وست مئة أن أرسلان شاه عند وفاته جعل مملكة الموصل لولده المسعود القاهر، وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي المذكور قلعتي العقر وشوش «1» ، فلما مات أخوه القاهر وجلس ولده أرسلان شاه بن القاهر في المملكة وكان به قروح وأمراض فتحرك عمه عماد الدين زنكي وقصد العمادية «2» واستولى عليها، ثم استولى على قلاع الهكّارية والزّوران «3» ، فاستنجد بدر الدين لؤلؤ المتولي على تدبير صاحب الموصل بالملك الأشرف بن العادل، ودخل في طاعته فأنجده الأشرف بعسكر، وساروا إلى زنكي بن أرسلان شاه فهزموه، وكان زنكي مزوجا ببنت مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل وأم البنت ربيعة خاتون بنت أيوب «4» أخت الملك العادل (172) زوجة مظفر الدين، وكان مظفر الدين لا يترك ممكنا في نصرة صهره زنكي المذكور، وبالغ في عداوة بدر الدين لؤلؤ لأجل صهره.
[ثم دخلت]«1» سنة ست عشرة وست مئة «13»
والملك الأشرف مقيم بظاهر حلب يدبر أحوالها، والملك الكامل بمصر في مقابلة الفرنج وهم محاصرون لثغور دمياط، وكتب الملك الكامل متواصلة إلى إخوته في طلب النجدة.
وفيها، توفي نور الدين أرسلان شاه بن القاهر مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر «2» صاحب الموصل وكان لا يزال مريضا، فأقام بدر الدين لؤلؤ في الملك بعده أخاه ناصر الدين محمود بن الملك القاهر «3»
وعمره حينئذ نحو ثلاث سنين، وهو آخر من خطب له بالسلطنة من بيت أتابك زنكي بن آقسنقر، وكان أبوه القاهر آخر من كان له استقلال بالملك منهم ثم [إن]«4» هذا الصبي مات بعد مدة، واستقل بدر الدين لؤلؤ بالموصل وأتته السعادة وطالت مدة ملكه إلى أن توفي بالموصل بعد أخذ التتر بغداد على ما سنذكره «5» .
وفي هذه السنة، توفي قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود ابن الأتابك زنكي بن آقسنقر صاحب سنجار، فملك سنجار بعده ولده عماد الدين شاهنشاه بن محمد، وكان قطب الدين حسن السيرة في رعيته، وبقي عماد الدين شاهنشاه في الملك شهورا، ثم وثب عليه أخوه محمود فذبحه وملك سنجار، وهذا محمود هو آخر (173) من ملك سنجار من البيت
الأتابكي «1» .
وفيها، أرسل الملك المعظم عيسى بن العادل صاحب دمشق الحجارين والنقابين إلى القدس [فخرب أسوارها]«2» ، وكانت قد حصّنت إلى الغاية، وانتقل منه عالم عظيم، وكان سبب ذلك أن الملك المعظم لما رأى قوة الفرنج وتغلبهم على دمياط خشي أن يقصدوا القدس فخربه لذلك لعلمه أنه لا يقدر على منعهم.
وفيها، هجم الفرنج على دمياط بالسيف بعد مضايقة الفرنج لها مضايقة عظيمة، وقتلوا وأسروا من بها وجعلوا الجامع كنيسة، واشتد طمع الفرنج في الديار المصرية، وحين أخذت دمياط ابتنى الملك الكامل مدينة وسماها المنصورة عند مفرق البحرين [الآخذ] أحدهما إلى دمياط، والآخر إلى أشموم طنّاح، ونزل فيها عسكره.
وفيها، كان ظهور التتر وقتلهم في المسلمين، ولم ينكب المسلمون أعظم ما نكبوا هذه السنة، فمن ذلك ما كان من تملك الفرنج دمياط وقتل أهلها وأسرهم، ومنه المصيبة الكبرى وهي ظهور التتر وتملكهم في المدة القريبة أكثر بلاد الإسلام، وسفك دمائهم وسبي حريمهم وذراريهم، ولم يفجع المسلمون منذ ظهر دين الإسلام كهذه الفجيعة.
وفيها، خرجوا على خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش وعبروا نهر
جيحون «1» ، ومعهم ملكهم جنكز خان، فاستولوا على بخارى رابع ذي الحجة من هذه السنة بالأمان، وعصت عليهم القلعة فحاصروها وملكوها وقتلوا من كان بها (174) ، ثم قتلوا أهل البلد عن آخرهم.
قال محمد بن أحمد بن علي [المنشئ]«2» النسوي كاتب إنشاء جلال الدين: إن مملكة الصين مملكة متسعة دورها ستة أشهر، وقد انقسمت من قديم الزمان ستة أجزاء كل جزء منها مسيرة شهر يتولى أمره خان وهو الملك بلغتهم نيابة عن خانهم الأعظم، وكان خانهم الكبير الذي عاصر خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش يقال له الطرخان «3» قد توارث الخانية كابرا عن كابر بل كافرا عن كافر، ومن عادة خانهم الأعظم الإقامة بطرغاج «4» وهي واسطة الصين، وكان من زمرتهم في عصر المذكور شخص يسمى دوشي خان، وكان أحد الخانات المتولي أحد الأجزاء الستة، وكان مزوجا بعمة جنكز خان، وقبيلة جنكز خان هي المعروفة بقبيلة التمرجي سكان البراري، ومشتاهم موضع يسمى أرغون، وهم المشهورون بين الترك بالغدر والشر (و) لم ير ملوك الصين إرخاء عنانهم لطغيانهم، فاتفق أن دوشي خان مات فحضر جنكز خان إلى عمته زائرا ومعزيا، وكان الخانان المجاوران لعمل دوشي خان المذكور يقال لأحدهما كشلو خان «5» وللآخر فلان خان وكانا يليان ما يتاخم من أعمال دوشي خان المذكور من الجهتين، فأرسلت امرأة دوشي خان إلى كشلو خان وإلى الآخر تنعى إليهما
زوجها دوشي خان وأنه لم يخلف ولدا وأنه كان حسن الجوار لهما، وأن ابن أخيها جنكز خان إن أقيم مقامه (175) يحذو حذو المتوفى في معاضدتهما [فأجابها]«1» الخانان إلى ذلك، وتولى جنكز خان ما كان لدوشي خان المتوفى من الأمور بمعاضدة الخانين المذكورين، فلما أنهي الأمر إلى الخان الأعظم الطرخان أنكر تولية جنكز خان واستحقره، وأنكر على الخانين اللذين فعلا ذلك، فلما جرى ذلك خلعوا طاعة الطرخان وانضم إليهم كل من هو من عشائرهم ثم اقتتلوا مع الطرخان فتولى منهزما وتمكنوا من بلاده، ثم أرسل الطرخان يطلب منهم الصلح وأن [يبقوه]«2» على بعض البلاد، فأجابوه إلى ذلك، وبقي جنكز خان و [الخانان الآخران]«3» مشتركين في الأمر فاتفق موت الخان الواحد ثم مات كشلو خان وتملك ابنه مكانه ولقب كشلو خان «4» أيضا، فاستضعف جنكز خان جانب كشلو خان لصغره [وحداثة سنه]«5» ، وأخلّ بالقواعد التي كانت مقررة بينه وبين أبيه، فانفرد كشلو خان عن جنكز خان وفارقه لذلك، ووقع بينهما الحرب، فجرد جنكز خان جيشا مع ولده دوشي خان فسار واقتتل مع كشلو خان، فانتصر دوشي خان وانهزم كشلو خان، وتبعه دوشي خان وقتله، وعاد إلى أبيه برأسه، فانفرد جنكز خان بالمملكة. ثم إن جنكز خان راسل خوارزم شاه محمد بن تكش في الصلح فلم ينتظم أمره، فجمع جنكز خان عساكره والتقى مع خوارزم شاه محمد فانهزم خوارزم شاه، فاستولى جنكز خان
[على بلاد ما وراء النهر ثم تبع خوارزم شاه محمدا وهو هارب بين يديه حتى دخل بحر طبرستان «1» ثم استولى جنكز خان]«1» على البلاد، ثم كان من خوارزم شاه ومن جنكز خان ما سنذكره «2» إن شاء الله تعالى.
(176)
وفي هذه السنة حلّف الملك المنصور صاحب حماة للناس لولده الملك المظفر نور الدين محمود، وجعله ولي عهده، وجهز له عسكرا إلى الملك الكامل بمصر، فسار إليه، ولما وصل إلى الملك الكامل أكرمه وأنزله في ميمنة عسكره، وهي منزلة أبيه وجده في الأيام الناصرية الصلاحية، وبعد توجه الملك المظفر ماتت والدته ملكة خاتون بنت الملك العادل «3» ، قال القاضي جمال الدين مؤلف «مفرج الكروب» :
وحضرت العزاء وعمري اثنتا عشرة سنة، ورأيت الملك المنصور وهو لابس الحداد على زوجته هذه، وهو ثوب أزرق وعمامة زرقاء، وأنشد الشعراء المراثي، فمنها قصيدة قالها حسام الدين خشترين «4» وهو جندي كردي مطلعها:
(البسيط)
الطرف في لجّة والقلب في سعر
…
له دخان زفير طار بالشّرر
وفيها في لبس الملك المنصور الحداد عليها:
ما كنت أعلم أنّ الشمس قد غربت
…
حتى رأيت الدجى ملقى على القمر