الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين الصفا والمروة، والرمل، والاضطباع، ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن الأمر منه بالنوع الثاني؛ لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه، أما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم؛ لأنه لما لم يعرف فيه وجه مصلحة البتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال فلم لا يجوز أيضًا أن يكون الأمر كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمرنا الله تعالى تارة أن نتكلم بما نقف على معناه، وتارة بما لا نقف على معناه، ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر؛ بل فيه فائدة أخرى، وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب، وإذا لم يقف على المقصود مع قطعه بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه متلفتًا إليه أبدًا، ومتفكرًا فيه أبدًا، ولباب التكليف إشغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه، فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبدًا مصلحة عظيمة له، فيتعبده بذلك تحصيلًا لهذه المصلحة (1).
الوجه التاسع: توضيح أهل العلم لها من معان وأسرار يدل على أنها ليست من الطلاسم
فقد بوب أهل العلم في علوم القرآن بابا مخصوصا حول أسرار الفواتح، والتمسوا لها المعاني.
قال ابن القيم: تأمل سر (الم) كيف اشتملت على هذه الحروف الثلاثة، فالألف إذا بدئ بها أولًا كانت همزة وهي أول المخارج من أقصى الصدر، واللام من وسط المخارج وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان، والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم، وهذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف أعني الحلق واللسان والشفتين، وترتيب في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية، فهذه الحروف معتمد المخارج الثلاثة التي تتفرع منها ستة عشر مخرجا؛ فيصير منها تسعة وعشرون حرفا عليها دار كلام الأمم الأولين والآخرين
(1) مفاتيح الغيب (2/ 5).
مع تضمنها سرًا عجيبًا وهو أن الألف البداية، واللام التوسط، والميم النهاية فاشتملت الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما، وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة فهي مشتملة على بدء الخلق ونهايته وتوسطه، فمشتملة على تخليق العالم وغايته، وعلى التوسط بين البداية والنهاية من التشريع والأوامر، فتأمل ذلك في البقرة، وآل عمران، وتنزيل السجدة، وسورة الروم.
وتأمل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن؛ فإن الطاء جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها وهي: الجهر والشدة والاستعلاء والإطباق، والسين مهموس رخو مستفل صفيري منفتح، فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها كالسين والهاء فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف.
وتأمل السور التي اشتملت على الحروف المفردة، كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف؟ فمن ذلك "ق" والسورة مبنية على الكلمات القافية من ذكر القرآن، وذكر الخلق، وتكرير القول ومراجعته مرارا، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين قول العبد، وذكر الرقيب، وذكر السائق والقرين، والإلقاء في جهنم، والتقدم بالوعيد، وذكر المتقين، وذكر القلب والقرون والتنقيب في البلاد، وذكر القيل مرتين وتشقق الأرض وإلقاء الرواسي فيها وبسوق النخل والرزق، وذكر القوم وحقوق الوعيد، ولو لم يكن إلا تكرار القول والمحاورة، وسر آخر وهو أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلو والانفتاح.
وإذا أردت زيادة إيضاح هذا فتأمل ما اشتملت عليه سورة "ص" من الخصومات المتعددة فأولها خصومة الكفار مع النبي أجعل الآلهة لها واحد إلى آخر كلامهم، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم وهو الدرجات والكفارات، ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامه ثانيًا في شأن بنيه، وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم، فليتأمل