الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابة القرآن، ونهى أن يكتب معه غيره، فلم يأمر أبو بكر إلّا بكتابة ما كان مكتوبًا. ثم قال: وإذا تأمل المنصف ما فعله أبو بكر من ذلك جزم بأنه يعد من فضائله، وينوه بعظيم منقبته لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم:"من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها" فما جمع القرآن أحد بعده إلّا وكان له مثل أجره إلى يوم القيامة (1).
ومن هنا يتبين أن عمل أبي بكر رضي الله عنه لم يكن بدعة في الدين، ويكفي دليلًا على ذلك إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على استحسان عمله ومشاركتهم فيه، وقد عبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك بقوله: "أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمعه بين اللوحين (2).
أسباب اختيار زيد بن ثابت رضي الله عنه لهذا الجمع
.
ترجع أسباب اختيار أبي بكر وعمر لزيد بن ثابت رضي الله عنه لأمور منها:
1 -
أنَّه كان من حُفَّاظ القرآن الكريم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
2 -
أنَّه شهد العَرضة الأخيرة للقرآن الكريم، ذكر البغوي، عن أبي عبد الرحمن السُّلَمِي أنه قال: قرأ زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين إلى أن قال عن زيد بن ثابت أنه شهد العرضة الأخيرة، وكان يُقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كَتبة المصاحف رضي الله عنهم (3).
3 -
أنه من كُتَّاب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل هو أشهرهم وأكثرهم كتابة للوحي.
4 -
خصوبة عقله، وشدة ورعته، وكمال خلقه، واستقامة دينه، وعِظم أمانته ويشهد
(1) فتح الباري 10/ 9.
(2)
ابن أبي شيبة في المصنف 6/ 168، وأحمد في المسند 1/ 230، 354 وأبو عبيد في فضائل القرآن (155)، وابن أبي داود في المصاحف 1/ 166، وحسن إسناده الحافظ في الفتح 9/ 12 وأورده ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 1/ 25 وقال عنه: إسناده صحيح. وانظر: أضواء على سلامة المصحف الشريف من النقص والتحريف 45 - 47، جمع القرآن الكريم حفظا وكتابةً 1/ 43.
(3)
ذكر ذلك البغوي في شرح السنة 4/ 525، 526، والسيوطي في الإتقان 1/ 59.
لذلك قول أبي بكر رضي الله عنه له: "إنك رجل شاب، عاقل، لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم". وقول زيد بن ثابت رضي الله عنه: "فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن". فما أحراه بجمع القرآن وأولاه.
خطة الجمع: استثقل زيد بن ثابت المهمة، إلا أنه حينما شرح الله له صدره باشر بها، وبدأ بجمع القرآن بوضع خطة أساسية للتنفيذ، اعتمادًا على مصدرين هامين:
الأول: ما كُتب أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وبإملاء منه، وكان زيد نفسه من كُتَّاب الوحي.
الثاني: مما كان محفوظًا لدى الصحابة، وكان هو أيضًا من حفاظه في حياته صلى الله عليه وسلم وكان لا يقبل شيئًا من المكتوب، أو المحفوظ حتى يجتمع فيه شرطان:
1 -
أنه مما كتب بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بشهادة شاهدين عدلين (1).
2 -
أنه مما ثبت في العرضة الأخيرة، ولم تنسخ تلاوته (2).
(1) الإتقان 1/ 58.
(2)
يدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف 1/ 171 من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال: أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن، فقام في الناس، فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعُسُب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شاهدان، فقتل وهو يجمع ذلك إليه، فقام عثمان بن عفان فقال: من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به. وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شاهدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما. قالوا: وما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} إلى آخر السورة، قال عثمان: فأنا أشهد أنهما من عند الله فأين ترى أن نجعلهما؟ قال: اختم بها آخر ما نزل من القرآن فختمت بها براءة، وإسناده ضعيف. يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب لم يسمع من عمر.
وله شاهد أخرجه ابن أبي داود في المصاحف 1/ 157 عن هشام بن عروة عن أبيه، أن أبا بكر قال لعمر، ولزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه. وإسناده فيه انقطاع، قال الحافظ: رجاله ثقات مع انقطاعه. الفتح 9/ 14.
ويشهد له أيضًا ما أخرجه البخاري في قصة الجمع في عهد عثمان. عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: نسخت الصحف في المصاحف ففقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم =
قال الحافظ: وكأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب، أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن. (1)
قال أبو شامة: وكان غرضهم أن لا يُكتب إلا من عين ما كُتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، لا من مجرد الحفظ. ولم يعتمد زيد على الحفظ وحده، ولذلك قال في الحديث الذي أوردناه عن البخاري سابقًا، إنه لم يجد آخر سورة براءة إلا مع أبي خزيمة، أي: لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري، مع أن زيدًا كان يحفظها، وكان كثير من الصحابة يحفظونها كذلك، ولكنه أراد أن يجمع بين الحفظ والكتابة، زيادة في التوثق، ومبالغة في الاحتياط (2).
وعلى هذا الدستور الرشيد تم جمع القرآن في صحف بإشراف أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة، وأجمعت الأمة على ذلك دون نكير، وكان ذلك منقبة خالدة لا يزال التاريخ يذكرها بالجميل لأبي بكر في الإشراف، ولعمر في الاقتراح، ولزيد في التنفيذ، والصحابة في المعاونة والإقرار.
وقد قوبلت تلك الصحف التي جمعها زيد بما تستحق من عناية فائقة، فحفظها أبو بكر عنده مدة حياته، ثم حفظها عمر بعده حتى شهادته، ثم حفظتها أم المؤمنين حفصة بنت عمر بعد وفاة والدها، حتى طلبها منها عثمان رضي الله عنه ليستنسخ منها مصاحفه اعتمادًا عليها، ثم ردها إليها إيفاء بالعهد الذي أعطاها إياه، فلم تزل عندها حتى أرسل إليها مروان بن الحكم حينما ولي المدينة فأبت، ثم لما توفيت رضي الله عنها سنة 45 هـ، حضر مروان جنازتها، ثم طلب من أخيها
= يقرأ بها فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين وهو قوله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (البخاري: 2652). ففي التنبيه على أن شهادة خزيمة تعدل شهادة رجلين إشارة إلى أنهم اشترطوا هذا الشرط لا سيما والقائم بالجمع في العهدين واحد وهو زيد. وبهذه الشواهد يرتقي إلى الحسن والله أعلم.
(1)
فتح الباري 9/ 14، 15، الإتقان 1/ 162.
(2)
الإتقان 1/ 162.