الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجن حين بعث الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن، وكان من حفظه له أن السماء مُلئَت حرسًا شديدًا، وحفظت من سائر أرجائها، وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك؛ لئلا يسترقوا شيئًا من القرآن. فيلقوه على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق. وهذا من لطف الله بخلقه ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز، ولهذا قال الجن:{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} أي: من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا له، لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يمحقه ويهلكه وقال عز وجل:{وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 7 - 10].
ثالثًا: حفظ القرآن الكريم على الأرض والعناية بحفظه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
-:
لقد حفظ الله عز وجل القرآن الكريم على الأرض بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي استقبله فأحسن الاستقبال، وحفظه أتم حفظ، وقام به خير قيام، وبلَّغه أحسن بلاغ والشواهد على ذلك كثيرة منها:
1 -
بلغ من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على استظهار القرآن وحفظه أنه كان يحرك لسانه فيه في أشد حالات حرجه وشدته؛ وهو يعاني ما يعانيه من الوحي وسطوته، وجبريل في هبوطه عليه بقوته، يفعل الرسول كل ذلك استعجالا لحفظه وجمعه في قلبه، مخافة أن تفوته كلمة أو يفلت منه حرف، وما زال كذلك حتى طمأنه ربه بأن وعده أن يجمعه له في صدره، وأن يسهل له قراءة لفظه وفهم معناه. عن ابن عباس في قوله تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه. فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما. وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما؛ فحرك شفتيه فأنزل الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال: فاستمع له وأنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه (1).
قال ابن كثير: هذا تعليم من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملَك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه. فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه؛ ولهذا قال:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أي: بالقرآن، كما قال:{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
ثم قال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أي: في صدرك، {وَقُرْآنَهُ} أي: أن تقرأه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله عز وجل {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، أي: فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا (2).
2 -
إخبار الله عز وجل ووعده للنبي صلى الله عليه وسلم، بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها، قال تعالى:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6](3).
3 -
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تلاوة القرآن الكريم وترتيله في كل أوقاته، فكان يحيي الليل بتلاوة آيات القرآن في الصلاة عبادةً، وتلاوةً، وتدبرًا لمعانيه، حتى تفطرت قدماه الشريفتان (4) من كثرة القيام امتثالًا لأمر الله تعالى {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ
(1) البخاري (5)، مسلم (448).
(2)
تفسير ابن كثير 8/ 278.
(3)
تفسير ابن كثير 8/ 379.
(4)
البخاري (4557)، مسلم (7302).
أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1 - 4].
4 -
مدارسة جبريل صلى الله عليه وسلم القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم ومع تكفل الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم بحفظه وجمعه في صدره حتى لا يضيع منه شيء، فإن جبريل صلى الله عليه وسلم لم يكتف بتبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن، بل كان يقرأه النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل صلى الله عليه وسلم في كل عام مرة حتى يزداد ثبات قلب النبي صلى الله عليه وسلم به، وليطمئن جبريل صلى الله عليه وسلم أكثر على ما بلغه به. أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يَعْرِضُ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم القرآنَ، فإذا لقيه جبريلُ كان أجودَ بالخير من الريح المرسلة". (1)
وعندما دنا أجل النبي صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل بالقرآن مرتين. فعن عائشة، عن فاطمة:"أسَرّ إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن جبربل يُعارضُني بالقرآن كلَّ سنة، وأنَّه عارضني العام مرتين، ولا أُراهُ إلّا حضر أجلي"(2).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان يَعْرضُ على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرةً، فعرضَ عليه مرتين في العام الذي قبض، وكان يعتكف كلَّ عام عشرًا، فاعتكف عشرين في العام الذي قُبض"(3).
5 -
قراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على غيره من الصحابة. عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "قال النبي صلى الله عليه وسلم لأُبيٍّ: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} قال: وسماني؟ قال "نعم" قال، فبكى"، وفي لفظ قال: "الله سماني لك؟ قال: "الله سماك" فجعل أبيٌّ يبكي". (4)
6 -
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن بنفسه؛ فقد باشر النبي صلى الله عليه وسلم تعليم المسلمين القرآن بنفسه، وأمره الله عز وجل بأن يقرأه على الناس على مُكْثٍ، أي: تؤدَة وتمهل؛ كي يحفظوا لفظه ويفقهوا معناه. كما قال تعالى {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106].
(1) البخاري (6)، ومسلم (2308).
(2)
البخاري (3426)، ومسلم (6264).
(3)
البخاري (4712).
(4)
البخاري (4960)، مسلم (799).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: والله لقد أَخذتُ من في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة (1).
وعنه أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنْزِلتْ عليه والمرسلات، وإنا لنتلقَّاها من فِيه (2).
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا القرآن، فإذا مَرّ بسجود القرآن سجد وسجدنا معه"(3).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنا التشهد كما يُعَلِّمنا السورة من القرآن"، وفي رواية ابن رُمْح "كما يُعَلِّمنا القرآن"(4).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنا الاستخارة في الأمور كما يُعَلِّمُنا السورة من القرآن". (5)
ومن هنا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم جامع القرآن في قلبه الشريف، وسيد الحفاظ في عصره المنيف، ومرجع المسلمين في كل ما يعنيهم من أمر القرآن وعلوم القرآن، وكان يقرؤه على الناس على مكث كما أمره مولاه، وكان يحيي به الليل ويزين الصلاة (6).
7 -
الحث على تعلم القرآن وتعليمه: القرآن صفة من صفات الله تبارك وتعالى، وهو كلامه الذي خاطب به نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، ولا يزال خطابه مستمرًا لنا، ومن هنا تنبع أهميته. ورتب الله الأجر العظيم والجزاء الجزيل على تلاوة القرآن، وعلى تدبره، وعلى تعلمه وتعليمه. فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خيركم من تعلم القرآن وعلمه"(7).
(1) البخاري 6/ 102.
(2)
البخاري (1109).
(3)
أحمد 2/ 157، وإسناده صحيح.
(4)
مسلم (403).
(5)
البخاري 2/ 51.
(6)
مناهل العرفان 1/ 241.
(7)
البخاري (5027).
قال ابن كثير: وقد كان أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السُلَمِي الكوفي أحد أئمة الإسلام ومشايخهم ممن رغب في هذا المقام، فقعد يعلم الناس من إمارة عثمان إلى أيام الحجاج، قالوا: وكان مقدار ذلك الذي مكث يعلم فيه القرآن سبعين سنة رحمه الله، وأثابه، وآتاه ما طلبه ورامه آمين (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده"(2).
8 -
الترغيب في حفظ القرآن عن ظهر قلب: وإذا ثبتت الفضيلة لقاريء القرآن فلا شك أن حفظ القرآن عن ظهر قلب أعلى مرتبة وأشرف منزلة؛ لأن القرآن قد استقر في قلب حافظه، يقرؤه في كل مكان وزمان لا يشعر من حوله بقراءته، فيسلم بإذن الله من الوقوع في الرياء.
عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل الذي يقرأ القرآن - وهو حافظ له - مع السفرة الكرام البررة"(3).
9 -
تشجيعه صلى الله عليه وسلم على تلاوة القرآن وحفظه: لمَّا كان صلى الله عليه وسلم مهتمًا بتلاوة القرآن وحفظه - وكان ذلك شغله الشاغل - وجَّه أتباعه إلى ذلك، وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على ذلك. منها قوله صلى الله عليه وسلم:"اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه"(4).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرأ بها"(5).
(1) فضائل القرآن لابن كثير (132).
(2)
مسلم (7028).
(3)
البخاري (4653)، مسلم (1898).
(4)
مسلم (1825).
(5)
أحمد 2/ 192، وأبو داود (1464)، والترمذي (2914)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في الصحيحة (2240).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران"(1)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف"(2).
10 -
أمره صلى الله عليه وسلم لمن حفظ القرآن أن يتعاهده حتى لا يتفلت منه: فكما أمر ورغب صلى الله عليه وسلم في حفظ القرآن - كما سبق - أمر صلى الله عليه وسلم بتعهد القرآن ومراجعة حفظه باستمرار، حتى لا يتفلت ويُنسى، ومما ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عنه ابن عمر رضي الله عنه:"إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المُعَقَّلة، إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت"(3)، وفي رواية لمسلم من حديث موسى بن عقبة رضي الله عنه:"وإذا قام صاحب القرآن فقراه بالليل والنهار ذكره وإذا لم يقم به نسيه"(4).
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئس ما لأحدهم يقول: نسيت آية كَيت وكَيت، بل هو نُسِّي، استذكروا القرآن فإنه أشد تفصيًّا من صدور الرجال من النَّعَمِ بعقلها". (5)
(أي: تفلُّتًا وتخلصًا). (6)
11 -
ترغيبه صلى الله عليه وسلم بتحسين الصوت بالقراءة: حُسن الصوت بالقراءة مطلوب، وتزيين الصوت بالقراءة سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ينبغي ألا يتجاوز هذا التحسين الحد المطلوب، ومما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث على تحسين الصوت بالقراءة والتغني بالقرآن ما يلي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به"(7).
(1) مسلم (798).
(2)
الترمذي (2910)، وصححه الألباني في الصحيحة (3327).
(3)
البخاري (5031)، ومسلم (789).
(4)
مسلم (789).
(5)
البخاري (5033)، ومسلم (791).
(6)
فَصَى الشيء من الشيء: فصله، وفصَّيتُه: خلَّصتُه. لسان العرب لابن منظور 15/ 156.
(7)
البخاري (7544)، ومسلم (1795).
وعن أبي بُرْدة، عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يا أبا موسى لقد أوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود"(1).
وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم فيه حِرص النبي صلى الله عليه وسلم على استماع القراءة بالصوت الحسن، فعن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى، لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة، لقد أوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود (2).
ولقد كان صوته صلى الله عليه وسلم حسنًا؛ بل أحسن الأصوات بقراءة القرآن الكريم، وذلك كما جاء في رواية البراء رضي الله عنه قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فما سمعت أحدًا أحسن منه صوتًا"(3).
12 -
حرص الصحابة رضي الله عنهم على كثرة قراءته: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو الآيات على الصحابة رضي الله عنهم فور نزولها، وكانوا يحفظونها ويتلونها في الصلوات ومختلف العبادات مرارًا وتكرارًا في آناء الليل وأطراف النهار. كما في قصة تزويج عمرو بن العاص لابنه عبد الله وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله قائلا:"كيف تصوم؟ " قال: قلت: أصوم كل يوم. قال: "وكيف تختم؟ " قال: كل ليلة، قال:"صم في كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر"، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال:"صم ثلاثة أيام في الجمعة" قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال:"أفطر يومين وصم يومًا، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: "صم أفضل الصوم، صوم داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة"، فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذاك أني كبرت وضعفت، فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار، والذي يقرؤه يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أيامًا وأحصى، وصام مثلهن كراهية أن يترك شيئًا فارق النبي صلى الله عليه وسلم عليه"(4).
(1) البخاري (5048).
(2)
مسلم (792).
(3)
البخاري (7546)، ومسلم (464).
(4)
البخاري (5052).
ولعل نهي الرسول صلى الله عليه وسلم هذا بسبب أنه يخشى على أمته من الملل، فإذا طال العمر دبَّ الوهن إلى جسم الإنسان وقد يصيبه الفتور، ولكن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع.
ومما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الإسراع في القراءة خوفًا على أتباعه من الملل، ما ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل"(1).
13 -
حرص الصحابة على تعلم القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وتلاوته وتعليمه: فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: أنهم يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا تعلّموا عشر آيات لم يُخلِّفوها حتى يعلموا بما فيها من العمل، فتعلّمنا القرآن والعمل جميعًا (2).
وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا عجز أحدهم عن تفريغ وقت لتحصيل القرآن الكريم مباشرة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم أناب عنه من يحصل عنه. فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوبُ النزولَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلتُ جئتهُ بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعلَ مثل ذلك. (3)
وكان من نتيجة ذلك أنْ كَثُرَ الحفاظ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وكانوا يعرضون على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ويقرؤونه عليه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليَّ، قلتُ: اقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: فإني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] قال: أمسك، فإذا عيناه تذرفان"(4).
(1) مسلم (1159).
(2)
أحمد 5/ 410. وإسناده حسن.
(3)
البخاري (89)، مسلم (1479).
(4)
البخاري (4306)، مسلم (800).
وكان مسجده صلى الله عليه وسلم عامرًا بتلاوة القرآن يضج بأصوات الحفاظ فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا (1).
عن البياضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن (2).
وكان كل حافظ للقرآن ينشر ما حفظه، ويعلمه للأولاد والصبيان والذين لم يشهدوا نزول الوحي، امتثالًا لأمره صلى الله عليه وسلم:"بَلِّغوا عني ولو آية"(3)، فشاع حفظه بين الرجال والنساء، حتى إن المرأة المسلمة كانت ترضى سورة من القرآن أو أكثر مهرًا لها، ومما ورد في ذلك حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال:"أتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لي في النساء من حاجة، فقال رجل: زوجنيها، قال: أعطها ثوبًا، قال لا أجد، قال: أعطها ولو خاتمًا من حديد، فاعتلَّ له، فقال: ما معك من القرآن؟ قال: كذا وكذا، قال فقد زوجتكها بما معك من القرآن"(4).
وخير دليل على كثرة الحفاظ في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قُتل منهم في بئر معونة المعروفة بـ "سرية القراء" سبعون رجلًا (5)، كما قُتل منهم يوم اليمامة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه سبعون قارئًا، وذكر أبو عبيد في كتابه "القراءات" عددًا كبيرًا من القراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر كثيرًا من المهاجرين، وكثيرًا من الأنصار، وبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (6).
وقد حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب جم غفير من الصحابة، منهم الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وكذلك أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود،
(1) جمع القرآن الكريم حفظًا وكتابةً (21) د. علي بن سليمان العبيد.
(2)
مالك 2/ 109: 110، أحمد 4/ 344، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1603).
(3)
البخاري (3274).
(4)
البخاري (4741).
(5)
البخاري (2647)، مسلم (677).
(6)
البرهان في علوم القرآن 1/ 242، والإتقان في علوم القرآن 1/ 195.
وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك، ومجمَّع بن جارية، وأبو زيد الأنصاري، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وأبو هريرة، وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم (1).
هؤلاء بعض من عُرفوا واشتهروا ومن لم يُعرف أكثر وأكثر. فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ رِعْلٌ، وَذَكْوَانُ، وَعُصَيَّةُ، وَبَنُو لِحْيَانَ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَمَدَّهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصارِ، قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ، يَحْطِبُونَ بِالنَّهَارِ، وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، فَانْطَلَقُوا بِهِمْ، حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ، غَدَرُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَبَنِي لِحْيَانَ (2).
وثبت أنه قُتل في وقعة اليمامة كثير من القراء، ويدل على ذلك قول عُمَرَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ (3).
لم يكن هم الصحابة حفظ ألفاظ القرآن فحسب؛ بل جمعوا إلى حفظ اللفظ فهم المعنى المراد، وتدبر الآيات، والعمل بمقتضى ما تضمنه من الأحكام والآداب. قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرؤننا القرآن، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا. (4)
ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة الواحدة، وهذا هو السر فيما رُوي أن ابن عمر رضي الله عنهما أقام على حفظ سورة البقرة ثمان سنين (5).
ويتبين من هذا أن الله عز وجل حفظ القرآن على الأرض بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أصحابه رضوان الله عليهم، والتابعين، وكافة المؤمنين بعد ذلك.
(1) راجع غاية النهاية في طبقات القراء.
(2)
البخاري (3064).
(3)
البخاري (4701).
(4)
أحمد 5/ 410، وإسناده حسن.
(5)
البخاري (4704).