الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قالوا: وهو يعني بهذا الرجل زيد بن ثابت، ويريد بذلك الكلام الطعن على جمع القرآن، وهذا يدل بالتالي على أن القرآن الموجود بين أيدينا ليس موضع ثقة، ولم يبلغ حد التواتر (1).
والرد على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: كلام ابن مسعود لا يدل على الطعن، وإنما يدل على أنه أحق بهذا من غيره
.
الوجه الثاني: مبررات ترشيح زيد دون ابن مسعود.
الوجه الثالث: لم يوافق ابنَ مسعود على غل المصاحف وإخفائها أحدٌ من الصحابة.
الوجه الرابع: إذا سلمنا أن ابن مسعود أراد الطعن في صحة جمع القرآن لا نسلم أنه داوم على هذا الطعن والإنكار.
الوجه الخامس: إنكار ابن مسعود كان شهادة لحرفه بالصحة.
الوجه السادس: على تسليم كلام ابن مسعود وأنه داوم عليه ولم يرجع عنه، لا يدل على إبطال تواتر القرآن.
الوجه السابع: قول ابن مسعود: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ؛ هذا اعتقاده.
وإليك التفصيل
الوجه الأول: كلام ابن مسعود لا يدل على الطعن، وإنما يدل على أنه أحق بهذا من غيره.
إن كلام ابن مسعود هذا لا يدل على الطعن في جمع القرآن؛ إنما يدل على أنه كان يرى في نفسه أنه هو الأولى أن يسند إليه هذا الجمع؛ لأنه كان يثق بنفسه أكثر من ثقته بزيد في هذا الباب.
ومما يشهد لذلك: ما صح عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: لما أمر عثمان رضي الله عنه في المصاحف بما أمر به، قام عبد الله بن مسعود خطيبًا، فقال:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] ثم قال: على قراءة من تأمروني أن أقرأ؟ "أتأمروني أن أقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت، فوالذي نفسي بيده، لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة، وزيد بن ثابت عند ذلك يلعب مع الغلمان، وَالله لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النبي صلى الله عليه وسلم
(1) مناهل العرفان في علوم القرآن 1/ 197.
أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ الله، - ثم استحيى مما قال - فقال: وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلت إليه ثم نزل. قال شقيق: فجلست في حِلَق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدًا يرد ذلك عليه ولا يعيبه" (1).
وذلك لا ينافي أنه كان يرى في زيد أهلية وكفاية للنهوض بما أسند إليه، وإن كان هو في نظر نفسه أكفأ وأجدر، غير أن المسألة تقديرية ولا ريب أن تقدير أبي بكر وعمر وعثمان لزيد أصدق من تقدير ابن مسعود له، كيف وقد كان لزيد مؤهلات، ومزايا توافرت فيه حتى جعلته الجدير بتنفيذ هذه الغاية السامية، أضف إلى ذلك أن عثمان ضم إليه ثلاثة، ثم كان هو وجمهور الصحابة مشرفين عليهم مراقبين لهم، وناهيك في عثمان أنه كان من حفاظ ومعلمي القرآن، وخلاصة هذا الجواب أن اعتراض ابن مسعود كان منصبًا على طريقة تأليف لجنة الجمع لا على صحة نفس الجمع مع أن كلمة ابن مسعود السالفة لا تدل على أكثر من أنه كان يكبر زيدًا بزمن طويل إذ كان عبد الله مسلمًا وزيد لا يزال ضميرًا مستترا في صلب أبيه، وليس هذا بمطعن في زيد فكم ترك الأول للآخر، ولو كان الأمر بالسن لاختل كثير من نظام الكون، ثم إن كلمة ابن مسعود ربما يفهم منها الطعن في زيد من ناحية أن أباه كان كافرًا ولكن هذا ليس بمطعن فكثير من أكابر الصحابة كانوا في مبدأ أمرهم كفارًا وخرجوا من أصلاب آباء كافرين والله تعالى يقول:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، ويقول:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38](2).
فقول ابن مسعود هذا؛ لا يدل على عدم جواز جمع القرآن في المصحف، ولا على أنه كان مخالفًا في الجمع، وكل ما يدل عليه أنه يرى أنه أحق من زيد بجمع القرآن لسوابقه في الإسلام، مع كمال ثقته في زيد وأهليتِه للنهوض بِما أسند إليه (3).
(1) البخاري (5000)، مسلم (2462).
(2)
مناهل العرفان في علوم القرآن 1/ 197.
(3)
المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة (256).