الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويدلنا على أن الإنسان في نشأته الأولى كان في منتهى السذاجة، وأنه لاستعداده الذي يفضل به سائر أنواع الحيوان كان يستفيد من كل شيء علمًا واختبارًا ويرتقي بالتدرج.
ذلك أن الله تعالى بعث غرابًا إلى المكان الذي هو فيه فبحث في الأرض أي حفر برجليه فيها يفتش عن شيء، والمعهود أن الطير تفعل ذلك لطلب الطعام، والمتبادر من العبارة أن الغراب أطال البحث في الأرض؛ لأنه قال {يَبْحَثُ} ولم يقل بحث؛ لأن المضارع يفيد الاستمرار، فلما أطال البحث أحدث حفرة في الأرض فلما رأى القاتل الحفرة - وهو متحير في أمر مواراة سوءة أخيه - زالت الحيرة واهتدى إلى ما يطلب؛ وهو دفن أخيه في حفرة من الأرض، هذا هو المتبادر من الآية.
وقال أبو مسلم: إن من عادة الغراب دفن الأشياء، فجاء غراب فدفن شيئًا فتعلم من ذلك وهذا قريب أيضًا، ولكن جمهور المفسرين قالوا: إن الله بعث غرابين لا واحدًا، وأنهما اقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر بمنقاره ورجليه حفرة ألقاه فيها. (1)
الوجه الخامس: الحكمة من بعث الله الغراب واختصاصه عن الطير
.
قال أبو الهيثم: يقال: إن الغراب يبصر من تحت الأرض بقدر منقاره. والحكمة في أن الله عز وجل بعث إلى قابيل لما قتل أخاه هابيل غرابًا ولم يبعث له غيره من الطير، ولا من الوحش أن القتل كان مستغربًا جدًّا، إذ لم يكن معهودًا قبل ذلك فناسب بعث الغراب. (2)
وأخيرًا: أما عن زعمهم أن القصة مقتبسة من التوراة فيجاب عليها بهذه المقارنة بين نص القرآن ونص التوراة في قصة ابني؛ آدم لتجد الفارق بينهما، وأن القرآن له صياغته الإعجازية:(3)
أولًا: نص القرآن: قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ
(1) تفسير المنار (6/ 346).
(2)
نقلًا من حياة الحيوان الكبرى للدميري (2/ 34).
(3)
راجع شبهة القرآن مقتبس من التوراة.
لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 27 - 32].
ثانيًا نص التوراة: سفر التكوين 4/ 3: 16
8 وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَيَّامٍ أَنَّ قَايِينَ قَدَّمَ مِنْ أَثْمَارِ الأَرْضِ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ، 4 وَقَدَّمَ هَابِيلُ أَيْضًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ سِمَانِهَا. فَنَظَرَ الرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ، 5 وَلكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ. فَاغْتَاظَ قَايِينُ جدًّا وَسَقَطَ وَجْهُهُ. 6 فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ:"لمَاذَا اغْتَظْتَ؟ وَلِمَاذَا سَقَطَ وَجْهُكَ؟ 7 إِنْ أَحْسَنْتَ أَفلَا رَفْعٌ؟ وَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ فَعِنْدَ الْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابضَةٌ، وَإِلَيْكَ اشْتِيَاقُهَا وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا". وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ. وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ. 9 فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: "أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟ " فَقَالَ: "لَا أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟ " 10 فَقَالَ: "مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ. 11 فَالآنَ مَلْعُونٌ أَنْتَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَقْبَلَ دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ. 12 مَتَى عَمِلْتَ الأَرْضَ لَا تَعُودُ تُعْطِيكَ قُوَّتَهَا. تَائِهًا وَهَارِبًا تَكُونُ فِي الأَرْضِ". 13 فَقَالَ قَايِينُ لِلرَّبِّ: "ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ. 14 إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي الْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وَمنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأَرْضِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي". 15 فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: "لِذلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةَ أَضْعَافٍ يُنْتَقَمُ مِنْهُ". وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلامَةً لِكَيْ لَا يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ. 16 فَخَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ، وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نُودٍ شَرْقِيَّ عَدْنٍ.
الفروق بين المصدرين: اتفق المصدران حول نقطتين اثنتين لا ثالث لهما، واختلفا فيما عداهما. اتفقا في مسألة القربان، وفي قتل أحد الأخوين للآخر. أما فيما عدا هاتين النقطتين فإن ما ورد في القرآن يختلف تمامًا عما ورد في التوراة، وذلك على النحو الآتي:
القرآن
…
التوراة
لا يسميهما ويكتفي ببنوتهما لآدم كما اكتفى بذكر القربانين ولم يحددهما
…
تسمى أحد الأخوين بقابين وهو "القاتل" والثاني "هابيل" كما تصف القربانين وتحدد نوعيهما.
لا يذكر حوارًا حدث بين القاتل وبين الله، ولا يذكر أن القاتل طرده الله من وجهه إلى أرض بعيدة، إذ ليس على الله بعيد.
…
تروى حوارًا بين قابين والرب بعد قتله أخاه، وتعلن غضب الرب على قابين وطرده من وجه الرب إلى أرض بعيدة.
يذكر الحديث الذي دار بين ابني آدم، ويفصل القول عما صدر من القتيل قبل قتله وتهديده لأخيه بأنه سيكون من أصحاب النار إذا قتله ظلمًا.
…
التوراة تخلو من أي حوار بين الأخوين.
يذكر مسألة الغراب، الذي بعثه الله لِيُرى القاتل كيف يتصرف في جثة أخيه، ويوارى عورته.
…
لا مقابل في التوراة لهذه الرواية ولمْ تُبَيِّنْ مصير جثة القتيل؟ !
يصرح بندم "القاتل" بعد دفنه أخاه وإدراكه فداحة جريمته.
…
تنسب الندم إلى "قابين" القاتل لما هدده الله بحرمانه من خيرات الأرض، ولا تجعله يشعر بشناعة ذنبه.
يجعل من هذه القصة هدفًا تربويًا ويبنى شريعة القصاص العادل عليها،
…
لا هدف لذكر القصة في التوراة إلا مجرد التاريخ، فهي معلومات ذهنية خالية
ويلوم بني إسرائيل على إفسادهم في الأرض بعد مجيء رسل الله إليهم.
…
من روح التربية والتوجيه، أضف إلى هذه ما تحتوى عليه التوراة من سوء مخاطبة "قابين" الرب، فترى في العبارة التي فوق الخط:"أحارس أنا لأخي" فيها فظاظة، لو صدرت من إنسان لأبيه لعد عاقًّا جافًّا فظًّا غليظًّا فكيف تصدر من "مربوب" إلى "ربه" وخالقه .. ؟ !
ولكن هكذا تنهج التوراة، فلا هي تعرف قدر الرب ولا من تنقل عنه حوارًا مع الرب، ولا غرابة في هذا، فالتوراة تذكر أن موسى أمر ربه بأن يرجع عن غضبه على بنى إسرائيل؛ بل تهديده إياه - سبحانه - بالاستقالة من النبوة إذا هو لم يستجب لأمره.
وأيضًا هذه بعض الأسئلة:
1 -
بمقابلة أكثر من نسخة تجد اختلافًا في الألفاظ والكلمات، فبعد هذا الاختلاف يكون كتابًا مقدسًا؟ ! ؟ ! ! !
مثلًا في أول الكلمات - عرف آدم حواء امرأته فجعلت له - وفي أخرى - وعاشر آدم حواء زوجته فجعلت.
2 -
نسخة اسم ابن آدم القاتل قايين "بياءين" وفي أخرى بياء واحدة "قابين" فأيها أصح؟ !
والواقع أن ما قصَّهُ علينا القرآن - وهو الحق - من أمر ابني آدم مختلف تمامًا عما ورد في التوراة في هذا الشأن.
فكيف يقال: إن القرآن اقتبس هذه الأحداث من التوراة وصاغها في قالب البلاغة العربية؟ !
إن الاختلاف ليس في الصياغة؛ بل هو اختلاف أصيل كما قد رأيت من جدول
الفروق المتقدم.
والحاكم هنا هو العقل، فإذا قيل: إن هذه القصة مقتبسة من التوراة، قال العقل:
* فمن أين أتى القرآن بكلام الشقيق الذي قُتِلَ مع أخيه، وهو غير موجود في نص التوراة التي يُدَّعى أنها مصدر القرآن؟ !
* ومن أين أتى القرآن بقصة الغراب الذي جاء ليُري القاتل كيف يواري سوءة أخيه وهى غير واردة في التوراة المُدَّعى أصالتها للقرآن؟ !
* ولماذا أهمل القرآن الحوار الذي تورده التوراة بين "الرب" وقابين القاتل، وهذا الحوار هو هيكل القصة كلها في التوراة؟ !
* * *