الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثالث: يوسف عليه السلام وصف نفسه بهذا الوصف حتى يعلم الملك أنه يفي بهذه المهمة
.
قال الرازي: لا نسلم أنه مدح نفسه - تفاخرًا - لكنه بين كونه موصوفًا بهاتين الصفتين النافعتين في حصول هذا المطلوب؛ وبين البابين فرق، وكأنه قد غلب على ظنه أنه يحتاج إلى ذكر هذا الوصف؛ لأن الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكنه ما كان عالمًا بأنه يفي بهذا الأمر (1).
الوجه الرابع: الأصل في التزكية الامتناع، وإن كان لضرورة أو حاجة فهو مباح
.
لما خلا مدحُه لنفسه من بغي وتكبر، وكان مراده به الوصول إِلى حق يقيمه وعدل يُحييه وجور يبطله، كان ذلك جميلًا جائزًا، فهب أنه مدح نفسه إلا أن مدح النفس إنما يكون مذمومًا إذا قصد الرجل به التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل، فأما على غير هذا الوجه فلا نسلم أنه محرم، فقوله تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] المراد منه تزكية النفس حال ما يعلم كونها غير متزكية، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية:{هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} أما إذا كان الإنسان عالمًا بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه، والله أعلم (2). فدلت الآية أيضًا على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل.
قال الماوردي: وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات، ولكنه مخصوص فيما اقترن بوصله، أو تعلق بظاهر من مكسب، وممنوع منه فيما سواه، لما فيه من تزكية ومراءاة، ولو ميزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله، فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله، ولما يرجو من الظفر بأهله فيجوز للرجل مدح نفسه إذا جهل أمره للحاجة والرخصة والضرورة (3).
وقد دلَّ على الرخصة في موضع الحاجة والضرورة قول يوسف عليه السلام: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ، وذلك أن الملك كان لا يعرف فيه القدرة على الحفظ والضبط لبيت المال، وطرق
(1) التفسير الرازي (18/ 161).
(2)
زاد المسير 3/ 245، تفسير الرازي 18/ 161.
(3)
الجامع لأحكام القرآن 18/ 222، النكت والعيون 3/ 52، محاسن التأويل 6/ 243.
حفظ الغلال ونحو ذلك، فاحتاج إلى البيان، وكما قال إبراهيم عليه السلام لأبيه:{يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)} [مريم: 43]، وذلك لترغيب أبيه وحثه على متابعة دين الحق، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إني لأعلمكم بالله، وأشدكم منه خشية". (1)
وقوله: "أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر"(2)، وذلك ليعلم الناس الاعتقاد الواجب فيه صلى الله عليه وسلم، وأنه أعلم الخلق بالله وأخشاهم له، وليحذرهم من الغلو المذموم في العبادة بتحريم ما أحل الله، أو إيجاب ما لم يوجبه، وكقول عائشة رضي الله عنها:(على الخبير سَقَطَّتَ)(3).
وقول ابن مسعود رضي الله عنه: (لو أعلم أحدًا مني بكتاب الله تضرب إليه أكباد الإبل لذهبت إليه)(4)، ونحو ذلك للترغيب في طلب العلم وأخذه عنه.
وعلى أي حال، فالأصل في هذا الباب الامتناع من مدح النفس وتزكيتها، والحذر على النفس من ذلك، وهؤلاء الأفاضل منهم الأنبياء المعصومون، ومنهم الأولياء المتقون المشهود لهم بالفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، فمن يشهد للمادحِ نَفْسَهُ - منهم - مِنْ غيرهم؟ ! ومن يضمن له حسن نيته وهى تتقلب على المرء في الساعة الواحدة مرات؟ والسلامة لا يعدلها شيء، والفرق بين الحق والباطل في مثل هذا المقام ربما كان أدق من الشعرة وأحد من السيف، وربما تخفي حظوظ النفس على صاحبها ويوهم نفسه بأنه يعمل المباح، وحقيقة الأمر العجب المحرم والغرور المذموم، فما لأمثالنا وتزكية نفوسهم ومدحها وذكر فضائلها؟
وما أكثر من تغره نفسه في الفضائل التي هي عارية عنها! وإنما هي دعوى وتشبع بما لم يعط، فإذا كان مدح الإنسان نفسه بما يتيقن من فضائلها الأصل فيه المنع، والجواز فيه على قدر الضرورة والحاجة مع شروط سلامة النية وحسن القصد والإخلاص الذي هو أعز شيء، والشرك في هذا المقام أخفى من دبيب النمل، فكيف بما يشك فيه أهو في النفس أم
(1) أخرجه البخاري (6101)، مسلم (6356).
(2)
أخرجه البخاري (4712)، مسلم (194).
(3)
أخرجه مسلم (349).
(4)
أخرجه البخاري (4715)، مسلم (2463).