الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثاني: خاطَبَهم على المُتَعارَفِ عندهم، وهذا من عرفهم
.
فأَما قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} فإِنه خاطَبَهم على المُتَعارَفِ عندهم، وعلى ما كانو ايُسَمُّونَهم به، ومنه قَولُ موسى عليه السلام للسامِرِيّ:{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} أَي: الذي اتَّخَذْتَه إِلهًا.
وكانوا يطلقون "الرب" على السيد والكبير والملوك وهذا من عرفهم، حكم عليه بالربوبية؛ كما يقال: رب الدار ورب الثوب (1).
الوجه الثالث: الجمع بين قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وقول النبي: صلى الله عليه وسلم "وَلَا يَقُلْ أحَدُكُمْ رَبِّي وَلْيَقُلْ سَيِّدِي مَوْلَاي
" (2).
قال القرطبي: قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم، وليقل" من باب الإرشاد إلى إطلاق اسم الأولى، لا أن إطلاق ذلك الاسم محرم، ولأنه قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم:"أن تلد الأَمَةُ ربها"؛ أي: مالكها وسيدها، وهذا موافق للقرآن في إطلاق ذلك اللفظ، فكان محل النهي في هذا الباب ألا نتخذ هذه الأسماء عادة فنترك الأولى والأحسن.
وقد قيل: إن قول الرجل عبدي وأمتي يجمع معنيين: أحدهما: أن العبودية بالحقيقة إنما هي لله تعالى، ففي قول الواحد من الناس لمملوكه عبدي وأمتي تعظيم عليه، وإضافة له إلى نفسه بما أضافه الله تعالى به إلى نفسه، وذلك غير جائز.
والثاني: أن المملوك يدخله من ذلك شيء في استصغاره بتلك التسمية، فيحمله ذلك على سوء الطاعة. وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون ذلك جائزًا في شرع يوسف عليه السلام (3).
قال ابن حجر: وَفِيهِ نَهْي الْعَبْد أَنْ يَقُولَ لِسَيِّدِهِ: رَبِّي، كَذَلِكَ نَهْي غَيْره فَلَا يَقُول لَهُ أَحَد: رَبّك، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسه، فَإِنَّهُ قَدْ يَقُول لِعَبْدِهِ: اِسْقِ رَبّك، فَيَضَعُ الظَّاهِرَ مَوْضِع الضَّمِير عَلَى سَبِيل التَّعْظِيم لِنَفْسِهِ، وَالسَّبَب فِي النَّهْيِ أَنَّ حَقِيقَة الرُّبُوبِيَّة للهِ
(1) النهاية في غريب الحديث 2/ 179، تفسير الرازي 18/ 144، تفسير ابن كثير 8/ 26.
(2)
أخرجه البخاري (2552)، مسلم (2249).
(3)
تفسير القرطبي 9/ 201: 200.
تَعَالَى؛ لِأَنَّ الرَّبّ هُوَ الْمَالِك وَالْقَائِم بِالشَّيْءِ فَلَا تُوجَدُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ إِلَّا للهِ تَعَالَى.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: سَبَب الْمَنْع أَنَّ الْإِنْسَان مَرْبُوبٌ مُتَعَبِّدٌ بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيد للهِ وَتَرْك الْإِشْرَاك مَعَهُ، فَكَرِهَ لَهُ الْمُضَاهَاة فِي الِاسْم لِئَلَّا يَدْخُل فِي مَعْنَى الشِّرْك، وَلَا فَرْق فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُرّ وَالْعَبْد، فَأَمَّا مَا لَا تَعَبُّد عَلَيْهِ مِنْ سَائِر الْحَيَوَانَات وَالْجَمَادَات فَلَا يُكْرَهُ إِطْلَاق ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْد الْإِضَافَة، كَقَوْلِهِ: رَبّ الدَّار وَرَبّ الثَّوْب. وَقَالَ اِبْن بَطَّال: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَال لِأَحَدٍ غَيْر الله: رَبّ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَال لَهُ: إِلَهُ، وَالَّذِي يَخْتَصُّ بِالله تَعَالَى إِطْلَاق الرَّبّ بِلَا إِضَافَةٍ، أَمَّا مَعَ الْإِضَافَة فَيَجُوزُ إِطْلَاقُهُ؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنْ يُوسُف عليه السلام:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ، وَقَوْله:{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} ، وَقَوْله صلى الله عليه وسلم فِي أَشْرَاط السَّاعَة:"أَنْ تَلِدَ الْأَمَة رَبَّهَا"(1)، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْي فِي ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى الْإِطْلَاق، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فَلِبَيَانِ الْجَوَاز.
وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوص بِغَيْرِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَرُدّ مَا فِي الْقُرْآن، أَوْ الْمُرَاد النَّهْي عَنْ الْإِكْثَار مِنْ ذَلِكَ وَاتِّخَاذ اِسْتِعْمَال هَذِهِ اللَّفْظَة عَادَة، وَلَيْسَ الْمُرَاد النَّهْي عَنْ ذِكْرهَا فِي الْجُمْلَة.
قَوْله: "وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي مَوْلَايَ" فِيهِ جَوَاز إِطْلَاق الْعَبْد عَلَى مَالِكه سَيِّدِي.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْن الرَّبّ وَالسَّيِّد؛ لِأَنَّ الرَّبَّ مِنْ أَسْمَاء الله تَعَالَى اِتِّفَاقًا، وَاخْتُلِفَ فِي السَّيِّد، وَلَمْ يُرِد فِي الْقُرْآن أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاء الله تَعَالَى. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَسْمَاء الله تَعَالَى فَالْفَرْقُ وَاضِحٌ إِذْ لَا اِلْتِبَاس، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ فَلَيْسَ فِي الشُّهْرَة وَالِاسْتِعْمَال كَلَفْظِ الرَّبّ فَيَحْصُلُ الْفَرْق بِذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَد، وَالْمُصَنِّفُ فِي (الْأَدَب الْمُفْرَد) مِنْ حَدِيث عَبْد الله بْن الشِّخِّير رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"السَّيِّدُ الله"(2).
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا أَطْلَقَهُ لِأَنَّ مَرْجِعَ السِّيَادَة إِلَى مَعْنَى الرِّيَاسَة عَلَى مَنْ تَحْت يَده، وَالسِّيَاسَة لَهُ وَحُسْنُ التَّدْبِير لِأَمْرِهِ؛ وَلذَلِكَ سُمِّيَ الزَّوْج سَيِّدًا، قَالَ: وَأَمَّا الْمَوْلَى فَكَثِير
(1) أخرجه مسلم (5).
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 25) من طريق قتادة، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (211)، وأبو داود في سننه (4806) من طريق أبي نضرة؛ كلاهما (قتادة وأبو نضرة) عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه به. والحديث صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (155).
التَّصَرُّف فِي الْوُجُوهُ الْمُخْتَلِفَة مِنْ وَلِيّ وَنَاصِر وَغَيْر ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ: السَّيِّد وَلَا الْمَوْلَى عَلَى الْإِطْلَاق مِنْ غَيْر إِضَافَة إِلَّا فِي صِفَة الله تَعَالَى.
وَفِي الْحَدِيث جَوَاز إِطْلَاق مَوْلَايَ أَيْضًا، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم، وَالنَّسَائِيّ، مِنْ طَرِيق الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة فِي هَذَا الْحَدِيث نَحْوه وَزَادَ:"وَلَا يَقُلْ أَحَدكُمْ: مَوْلَايَ فَإِنَّ مَوْلَاكُمْ الله، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: سَيِّدِي"، فَقَدْ بَيَّنَ مُسْلِم الِاخْتِلَاف فِي ذَلِكَ عَلَى الْأَعْمَش، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الزِّيَادَة، وَمِنْهُمْ مَنْ حَذَفَهَا، وَقَالَ عِيَاض: حَذْفُهَا أَصَحُّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْمَشْهُور حَذْفُهَا، قَالَ: وَإِنَّمَا صِرْنَا إِلَى التَّرْجِيح لِلتَّعَارُضِ مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْع وَعَدَم الْعِلْم بِالتَّارِيخِ. وَمُقْتَضَى ظَاهِر هَذِهِ الزِّيَادَة أَنَّ إِطْلَاق السَّيِّد أَسْهَلُ مِنْ إِطْلَاق الْمَوْلَى، وَهُوَ خِلَاف الْمُتَعَارَف، فَإِنَّ الْمَوْلَى يُطْلَقُ عَلَى أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا الْأَسْفَل وَالْأَعْلَى، وَالسَّيِّد لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْأَعْلَى، فَكَانَ إِطْلَاق الْمَوْلَى أَسْهَلَ وَأَقْرَب إِلَى عَدَم الْكَرَاهَة، وَالله أَعْلَم.
وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلَفْظِ الْمَوْلَى إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا؛ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيّ، وَالْمُصَنِّف فِي "الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ" بِلَفْظِ:"لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَلَا أَمَتِي، وَلَا يَقُلْ الْمَمْلُوك: رَبِّي وَرَبَّتِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ الْمَالِك: فَتَايَ وَفَتَاتِي، وَالْمَمْلُوك: سَيِّدِي وَسَيِّدَتِي؛ فَإِنَّكُمْ الْمَمْلُوكُونَ وَالرَّبُّ الله تَعَالَى"(1).
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَاد النَّهْي عَنْ الْإِطْلَاق كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَام الْخَطَّابِيّ، وَيُؤَيِّدُ كَلَامه حَدِيثُ اِبْن الشِّخِّير الْمَذْكُور، وَالله أَعْلَم. وَعَنْ مَالِك تَخْصِيص الْكَرَاهَة بالنِّدَاءِ فَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: يَا سَيِّدِي، وَلَا يُكْرَهُ فِي غَيْر النِّدَاء (2).
* * * *
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 423، والبخاري في الأدب المفرد (210)، والنسائي في الكبرى (10072)، وأبو داود في سننه (4975) من طريق مُحَمَّد بْن سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة به. والحديث صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (154).
(2)
فتح الباري 5/ 213: 212، وانظر شرح صحيح مسلم للنووي 8/ 10:9.