الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال القرطبي: ويحتمل أن يكون المراد بهذه الآية في الآخرة، فأما التي في الدنيا فقد يؤاخذ فيها بعضهم بجرم بعض (1).
قال الطبري: ولا تأثم نفس آثمة بإثم أخرى غيرها، ولكنها تأثم بإثمها وعليه تعاقب دون إثم أخرى غيرها. (2)
قال البيضاوي: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} جواب عن قولهم: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} . (3)
قال ابن عاشور: فمعنى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لا تحمل حاملة، أي لا تحمل نفسٌ حين تحمل حمل أي نفس أخرى غيرها، فالمعنى: لا تغني نفس عن نفس شيئًا تحمله عنها أي: كل نفس تزر وزر نفسها، فيفيد أن وزر كل أحد عليه، وأنه لا يحمل غيره عنه شيئًا من وزره الذي وزره، وأنه لا يتبعه أحد من وزر غيره من قريب أو صديق، ولا تتبع نفس بإثم غيرها، فهي إن حملت لا تحمل حمل غيرها، وهذا إتمام لمعنى المشاركة (4).
الوجه الثاني: استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
. (5)
قال الكرخي: واستشكل هذا - أي قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} بقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
وأجيب: بأن الناس إذا تظاهروا بالمنكر، فالواجب على كل من رآه أن يغيره إذا كان قادرًا على ذلك، فإذا سكت فكلهم عصاه هذا بفعله وهذا برضاه، وقد جعل الله بحكمته الراضي بمنزلة العامل فانتظم في العقوبة، وعلامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده، فكل من لم يكن بهذه الحالة فهو راض
(1) تفسير القرطبي (7/ 154).
(2)
تفسير الطبري (5/ 113).
(3)
تفسير البيضاوي (1/ 221).
(4)
تفسير ابن عاشور (8/ 207).
(5)
فتح الباري (5/ 349).
بالمنكر فنقمة العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار (1).
وقال ابن العربي: فقد أخبرنا ربنا أن كل نفس بما كسبت رهينة، وأنه لا يؤاخذ أحدًا بذنب أحد، وإنما تتعلق كل عقوبة بصاحب الذنب بيد أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عنه فكلهم عاص، هذا بفعله وهذا برضاه به، وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل فانتظم الذنب بالعقوبة ولم يتعد موضعه، وهذا نفيس لمن تأمله. (2)
وقد بينت سنة النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، وهو أن المنكر إذا ظهر ولم ينكره الناس أنزل الله العقاب من عنده.
عن زينب بنت جحش أنها سألت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون! قال: "نعم إذا كثر الخبث". (3)
وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالمثال كما في حديث النعمان بن البشير قال صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ الله وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ. فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا"(4).
قال ابن حجر: وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف. (5)
وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، وإني سمعت رسول الله يقول: إن الناس إذا
(1) نقلًا عن فتح البيان في مقاصد القرآن (5/ 160).
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (2/ 847)، وتفسير القرطبي (7/ 375).
(3)
صحيح مسلم (2880).
(4)
البخاري (2361).
(5)
فتح الباري (5/ 349).
رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب منه (1).
قال النووي: وأما قوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، فليس مخالفًا لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المذهب الصحيح في معنى الآية أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصيركم غيركم، مثل قوله:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، وإذا كان كذلك مما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا فعله لم يمتثل المخاطب، فلا عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدى ما عليه.
وقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في حديث آخر فقال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم"(2).
ولذا ذم الله بني إسرائيل ولعنهم بسبب أنهم كانوا لا يتناهون عن المنكر قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78، 79].
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل فيما أنزله على داوود نبيه عليه السلام على لسان عيسى ابن مريم بسبب عصيانهم واعتدائهم على خلقه.
ثم قال: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ. . . .} أي كان لا ينهى أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليُحذر أن يركب مثل الذي ارتكبوا، فقال:{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} . (3)
(1) فتح الباري (5/ 349)، والحديث صححه الألباني في المشكاة (5142).
(2)
الترمذي (2169)، وقال حديث حسن.
(3)
تفسير ابن كثير (1/ 116، 117).