الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقدرون عليه وهو فعله ومشيئته وتوفيقه فهذا غير مقدور لهم وهو الذي منعوه وحيل بينهم وبينه، فتأمل هذا الموضع، وأعرف قدره والله المستعان.
المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام وخلق المشيئة المستلزمة للفعل
.
وهذه المرتبة أخص من التي قبلها، وهذه المرتبة تستلزم أمرين: أحدهما فعل للرب تعالى وهو الهدى، والثاني فعل العبد وهو الاهتداء؛ وهو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي؛ قال تعالى:{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} ، ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثره التام، فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد؛ قال تعالى:{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37].
وهذا صريح في أن هذا الهدى ليس له صلى الله عليه وسلم ولو حرص عليه، ولا إلى أحد غير الله، وأن الله سبحانه إذا أضل عبدًا لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته؛ كما قال تعالى:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} ، وقال تعالى:{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وقال تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ، وقال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} [الجاثية: 23]، وقال:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13].
وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، وقال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، وقال اهل الجنة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، ولم يريدوا أن بعض الهدى منه وبعضه منهم؛ بل الهدى كله منه، ولولا هدايتُه لهم لما اهتدوا وقال تعالى:
يتضح مما سبق: أن المقصود بالهداية في قوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، وما شابههما من الآيات المقصود منها هداية التوفيق والإلهام والتأييد.
الهدى هنا يجيء بمعنى: خلق الإيمان في القلب، وهذا لايكون إلا لله عز وجل وحده، وقد استحق هؤلاء القومُ الظالمون والفاسقون ذلك لخروجهم عن طاعة الله عز وجل.
قال تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ، {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} قولان: الأول: فتح مكة، الثاني: العقاب (2).
وقال الحسن: بعقوبة آجلة أو عاجلة، أي: بقضائه، وهذا تهديد وتخويف (3).
وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} يعني: الخارجين عن طاعته، وفي هذا دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلمين ترجيح مصالح الدين على مصالح الدنيا (4).
ولما كان من آثر حب شيء من ذلك على حبه تعالى، كان مارقًا من دينه راجعًا إلى دين من آثره، وكان التقدير: فيصيبكم بقارعة لا تطيقونها ولا تهتدون إلى دفعها بنوع حيلة؛ لأنكم اخترتم لأنفسكم منابذة الهداية، ومعلوم أن من كان كذلك فهو مطبوع في الفسق، عطف عليه قوله:{وَاللَّهُ} أي: الجامع لصفات الكمال، {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ} أي: لا يخلق الهداية في قلوب {الْفَاسِقِينَ} أي: الذين استعملوا ما عندهم من قوة القيام فيما يريدون من الفساد حتى صار
(1) شفاء العليل لابن القيم (169: 171).
(2)
تفسير زاد المسير (3/ 413).
(3)
تفسير القرطبي (8/ 91).
(4)
تفسير الخازن (2/ 344).
الفسق - وهو الخروج مما حقه المكث فيه والتقيد به وهو هنا الطاعة - خلقًا من أخلاقهم ولازمًا من لوازمهم؛ بل يَكِلُهم إلى نفوسهم فيخسروا الدنيا والآخرة (1).
قال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ونحوها من الآيات، ومعلوم أنه لم ينفِ هدى البيان والدلالة الذي تقوم به الحجة؛ فإنه حجته على عباده، وتأويل بعضهم هذه النصوص على أن المراد بها: هداية البيان والتعريف لا خلق الهدى في القلب؛ فإن الله سبحانه لا يقدر على ذلك عند هذه الطائفة، وهذا التأويل من أبطل الباطل؛ فإن الله سبحانه يخبر أنه قسم هدايته قسمين: قسمًا لا يقدر عليه غيره، وقسمًا مقدورًا للعباد فقط، في القسم المقدور للغير:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وقال في غير المقدور للغير:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، وقال:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} ، ومعلوم قطعًا أن البيان والدلالة قد تحصل له ولا تُنفى عنه، وكذلك قوله:{فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} لا يصح حمله على هداية الدعوة والبيان؛ فإن هذا يُهدى وإن أضله الله بالدعوة والبيان؛ قال ابن مسعود: رضي الله عنه "علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الصلاة، والتشهد في الحاجة: إن الحمد لله، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا لله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ويقرأ ثلاث آيات:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} ، {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (2).
وعند أبي داود عن عبد الله بن الحارث قال: خطب عمر بن الخطاب بالجابية، فحمد الله وأثنى عليه، وعنده جاثليق يترجم له ما يقول، فقال: من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، فنفض جبينه كالمنكر لما يقول، قال عمر: ما يقول؟
قالوا: يا أمير المؤمنين، يزعم أن الله لا يضل أحدًا، قال عمر: كذبت أي عدو الله؛ بل
(1) تفسير نظم الدرر للبقاعي (3/ 292).
(2)
الترمذي (1105) قال الترمذي: حديث صحيح، وصححه الألباني في ظلال الجنة (255).