الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يشاهده في حال ذبحه، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك. وقيل: بل أضجعه كما تضجع الذبائح وبقي طرف جبينه لاصقًا بالأرض. "وأسلما" أي سمى إبراهيم وكبر وتشهد الولد للموت. قال السدي وغيره: أمرَّ السكين على حلقه فلم تقطع شيئًا. ويقال: جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس، والله أعلم.
فعند ذلك نودي من الله عز وجل: {أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} أي قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك ومبادرتك إلى أمر ربك، وبذلت ولدك للقربان كما سمحت ببدنك للنيران وكما مالك مبذول للضيفان! ولهذا قال تعالى:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} أي الاختبار الظاهر البين.
وقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي: جعلناه فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه.
والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعين أقرن رآه مربوطا بسمرة في ثبير، فأخذه إبراهيم وذبحه عوضًا عن ولده إسماعيل.
هذا هو الظاهر من القرآن؛ بل كأنه نص على أن الذبيح هو إسماعيل؛ لأنه ذكر قصة الذبيح ثم قال بعده: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (1).
الوجه الثالث: المقصود من سؤال إبراهيم عليه السلام لربه عز وجل
-.
أولًا: قال الجمهور: إن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكًا في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب المعاينة.
وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام. وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوءة والخلة؟
(1) قصص الأنبياء (155).
ثانيًا: والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعًا، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكًا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول. نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا، ومتى قلت: كيف ثوبك؟ وكيف زيد؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله، وقد تكون {كَيْفَ} خبرًا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه، {كَيْفَ} نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي، و {كَيْفَ} في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول له المكذب: أرني كيف ترفعه؟ فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول: افرض أنك ترفعه أرني كيف؟ فلما كان في عبارة الخليل عليه السلام هذا الاشتراك المجازي، خلص الله له ذلك وحمله على أن يبين الحقيقة فقال له:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} ، فكمل الأمر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة (1).
ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك، فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث. وقد أخبر الله سبحانه أن أنبياءه، وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل: فقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65]. وقال اللعين: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [الحجر: 40]، وإذا لم يكن له عليهم سلطنة، فكيف يشككهم؟ ، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها، واتصال الأعصاب، والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين، فقوله:
(1) المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 352)، وانظر فصل: عصمة الأنبياء في المقدمة.
{أَرِنِي كَيْفَ} وطلب مشاهدة الكيفية. (1)
ثالثًا: وقوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ومعناه إيمانًا مطلقًا دخل فيه فصل إحياء الموتى، والواو واو حال دخلت عليه ألف التقرير، و {لِيَطْمَئِنَّ} معناه ليسكن عن فكره، والطمأنينة اعتدال وسكون على ذلك الاعتدال فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام:"ثم اركع حتى تطمئن راكعًا"، الحديث، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة الإحياء غير محظورة، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها؛ بل هي فكر فيها عبر، فأراد الخليل أن يعاين، فتذهب فكره في صورة الإحياء، إذ حركه إلى ذلك إما أمر الدابة المأكولة، وإما قول النمرود: أنا أحيي وأميت، وقال الطبري: معنى {لِيَطْمَئِنَّ} ليوقن. وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وحكي عنه ليزداد يقينًا وقاله إبراهيم وقتادة. وقال بعضهم: لأزداد إيمانًا مع إيماني. (2)
رابعًا: وقال آخرون سأل ذلك ربه؛ لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى. وعن ابن عباس أنه قال: ما في القرآن آية أرجى عندي منها، وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} ؟ وذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم".
وهذا مردود فأما قول ابن عباس رضي الله عنه: هي أرجى آية فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا، وليست مظنة ذلك، ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ؟ أي إن الإيمان كاف لا يحتاج بعده إلى تنقير وبحث، وأما قول عطاء بن أبي رباح: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فمعناه من حب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت، به، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس الخبر كالمعاينة"، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم:"نحن أحق بالشك من إبراهيم" فمعناه: أنه لو كان شك لكنا نحن
(1) تفسير القرطبي (2/ 256، 257).
(2)
المحرر الوجيز (1/ 353).