الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثاني: قرأ الكسائي "هَلْ تسْتَطِيع رَبُّكَ" بالتاء فيكون المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك؟ فينفي الشك
.
قال الطبري: واختلفت القراء في قراءة قوله: {يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين {هل تَسْتَطِيعُ} بالتاء {رَبُّكَ} بالنصب.
قلت: وهي قراءة الكسائي؛ وهي صحيحة متواترة من القراءات العشر الصحيحة.
بمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك؟ وهل تستطيع أن تدعو ربك، أو هل تستطيع وترى أن تدعوه؟ وقالوا: لم يكن الحواريون شاكين أن الله تعالى ذكره قادر أن ينزل عليهم ذلك. إنما قالوا لعيسى عليه السلام: هل تستطيع أنت ذلك؟ . (1)
قال ابن أبي مريم: {هل تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ} بالتاء والنصب من ربك، قرأها الكسائي وحده، ووجه ذلك أن المراد هل تستطيع سؤال ربك؟ فحذف المضاف، ومعنى سؤالهم عن استطاعته مسألة الله أنه محمول على الاحتجاج منهم على عيسى عليه السلام أي أنك مستطيع فما يمنعك؟ كما تقول لصاحبك هل تستطيع أن تذهب عني فإني مشغول. أي اذهب فإنك غير عاجز عن ذلك، فكذلك قولهم هل تستطيع سؤال ربك؟ أي: إنك مستطيع فاسأل. (2)
الوجه الثالث: قيل إن سؤالهم كان في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل فيكون المعنى هل يقدر ربك
؟
قال القرطبي: وقيل المعنى: هل يقدر ربك؟ وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل، ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز:{اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي لا تشكوا في قدرة الله - تعالى -.
قلت - أي القرطبي -: وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14]، وقال
(1) تفسير الطبري (7/ 129)، والقرطبي (6/ 342).
(2)
الموضح في وجوه القراءات وعللها لابن أبي مريم (1/ 455).
النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي حواري وحواريِّ الزبير"(1)، ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاءوا بمعرفة الله تعالى، وما يجب له وما يجوز، وما يستحيل عليه، وأن يبلغوا ذلك أممهم، فكيف يخفى ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله - تعالى -؟ . (2)
قيل: إن الاستطاعة بمعنى الإطاعة، والمعنى: هل يطيعك ويجيب دعاءك ربك إذا سألته ذلك؟ . (3)
قال الشيخ محمد رشيد رضا: إن الاستطاعة هنا بمعنى الطاعة، والمعنى: هل يطيعك ويجيب دعاءك ربك إذا سألته ذلك؟ وربما ظن الأكثرون أن هذا الوجه الأخير تكلف بعيد وليس كذلك؛ فالاستطاعة استفعال من الطوع وهو ضد الكره. قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11].
وفي لسان العرب: الطوع نقيض الكره. طاعه ويطوعه وطاوعه والاسم الطواعة والطواعين.
ثم قال: ويقال: طعت له وأنا أطيع طاعة ولتفعلنه طوعًا أو كرهًا، وطائعًا أو كارهًا وجاء فلان طائعًا غير مكره.
قال ابن سيده: طاع يطاع وأطاع لان وانقاد وأطاعه إطاعة وانطاع له كذلك، فيفهم من هذا أن إطاعة الأمر فعله عن اختيار ورضا، ولذلك عبر به عن امتثال أوامر الدين؛ لأنها لا تكون دينًا إلا إذا كانت عن إذعان ووازع نفسي، والذي أفهمه أن الاستفعال في هذه كالاستفعال في مادة الإجابة فإذا كان (استجاب له) بمعنى أجاب دعاءه أو سؤاله فمعنى استطاعه أطاعه أي: انقاد له وصار في طوعه أو طوعًا له.
والسين والتاء في المادتين على أشهر معانيها وهو الطلب، ولكنه طلب دخل على فعل محذوف دل عليه المذكور المترتب على المحذوف فأصل استطاع الشيء: طلب وحاول أن
(1) أخرجه مسلم (2415).
(2)
تفسير القرطبي (6/ 342).
(3)
تفسير الطبري (7/ 129)، وانظر وجوه القراءات وعللها لابن أبي مريم.