الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 49، 50]، قال مجاهد: أعطى كل شيء خلقه لم يعط الإنسان خلق البهائم، ولا البهائم خلق الإنسان، وأقوال أكثر المفسرين تدور على هذا المعنى؛ قال عطية ومقاتل: أعطى كل شيء صورته، وقال الحسن: أعطى كل شيء صلاحه، والمعنى: أعطاه من الخلق والتصوير ما يصلح به لما خلق له ثم هداه لما خلق له وهداه لما يصلحه في معيشته، ومطعمه، ومشربه، ومنكحه، وتقلبه، وتصرفه؛ هذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين، فيكون نظير قوله:(قدر فهدي)، فالله سبحانه أعطى كل شيء خلقه المختص به، ثم هداه لما خلق له، ولا خالق سواه سبحانه ولا هادي غيره، فهذا الخلق وهذه الهداية من آيات الربوبية ووحدانيته (1).
المرتبة الثانية: هداية الإرشاد والبيان للمكلفين:
وهذه الهداية لا تستلزم حصول التوفيق واتباع الحق وإن كانت شرط فيه أو جزء سبب، وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبب؛ بل قد يتخلف عنه المقتضى؛ إما لعدم كمال السبب، أو لوجود مانع؛ ولهذا قال تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، وقال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، فهداهم هدى البيان والدلالة فلم يهتدوا فأضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولًا بعد أن عرفوا الهدى، فأعرضوا عنه فأعماهم عنه بعد أن أراهموه، وهذا شأنه سبحانه في كل من أنعم عليه بنعمة فكفرها، فإنه يسلبه إياها بعد أن كانت نصيبه وحظه؛ كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 35]، وقال تعالى عن قوم فرعون:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] أي: جحدوا بآياتنا بعد أن تيقنوا صحتها، وقال: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا
(1) شفاء العليل لابن القيم (140: 165).
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)} [آل عمران: 86]
وهذه الهداية هي التي أثبتها لرسوله حيث قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ونفى عنه ملك الهداية الموجبة؛ وهي هداية التوفيق والإلهام بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، وقال تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} [يونس: 25]، فجمع سبحانه بين الهداء يتبين العامة والخاصة، فعم بالدعوة حجة مشيئة وعدلًا، وخص بالهداية نعمة مشيئة وفضلًا، وهذه المرتبة أخص من التي قبلها؛ فإنها هداية تخص المكلفين، وهي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدًا إلا بعد إقامتها عليه؛ قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقال:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)} [الزمر: 56، 57].
فإن قيل: كيف تقوم حجته عليهم وقد منعهم من الهدى وحال بينهم وبينه؟ قيل: حجته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى وبيان الرسل لهم، وأراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عيانًا، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهرًا وباطنًا، ولم يَحُلْ بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل أو صغر لا تمييز معه أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته، فلم يمنعهم من هذا الهدى ولم يحل بينهم وبينه، نعم قطع عنهم توفيقه ولم يُرِدْ من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه، فما حال بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا