الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والملائكة والشهداء والعلماء والمؤمنون في من دخل النار من المسلمين فأخرجوا منها على حسب ما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على طبقات شتى فدخلوا الجنة، فلما فقدهم أهل الكفر ودُّوا حينئذ لو كانوا مسلمين، وأيقنوا أنه ليس شافع يشفع لهم ولا صديق حميم يغني عنهم من عذابهم شيئًا، قال الله عز وجل في أهل الكفر لما نضجوا بالعذاب وعلموا أن الشفاعة لغيرهم قالوا:{فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف: 53]، وقال عز وجل:{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 94: 101]، وقال عز وجل في سورة المدثر وقد أخبر الملائكة قال لأهل الكفر:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 42 - 48]. هذه كلها أخلاق فقال عز وجل: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} فدل على أنه لا بد من شفاعة، وأن الشفاعة لغيرهم لأهل التوحيد خاصة. وقال عز وجل:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 1 - 2]، وإنما الكفار لو كانوا مسلمين عندما رأوا معهم في النار قوما من الموحدين فعيروهم.
وقالوا: ما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنى في النار من أهل التوحيد ففقدهم أهل الكفر، فسألوا عنهم؛ فقيل: شفع فيهم الشافعون؛ لأنهم كانوا مسلمين، فعندها ودوا لو كانوا مسلمين؛ حتى تلحقهم الشفاعة (1).
الوجه الرابع: الرد على منكر الشفاعة بإزالة التعارض بين الآيات التي ظاهرها التعارض، وإمكانية الجمع بينهما
.
(1) الشريعة (3/ 1205 - 1208).
إن نفي الشفاعة في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48]، وقوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} . ليس في الاثنين دليل لمنكري الشفاعة؛ لأن قوله: {يَوْمًا} أخرجه مُنَكَّرًا، ولا شك أن في القيامة مواطن، ويومها معدود بخمسين ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زمانًا للشفاعة، وبعضها هو الوقت الموعود، وفيه المقام المحمود لسيد البشر - عليه أفضل الصلاة والسلام - وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها واختلاف أوقاتها، منه قوله تعالى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} [المؤمنون: 101] مع قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} [الصافات: 27]، فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين ووقتين متغايرين: أحدهما محل للتناول، والآخر ليس محلًا له، وكذلك الشفاعة وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة، رزقنا الله الشفاعة وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة (1).
ويمكن حمل هذه الآيات أيضًا على ما يلي:
1 -
يحتمل أن تكون هذه الآيات التي ظاهرها نفي الشفاعة إنما وردت في أقوامٍ لا يجدون شفيعًا تقبل شفاعته لعجز المشفوع فيه. (2)
2 -
يحتمل أن يكون هذه الآيات التي ظاهرها نفي الشفاعة أن يكون معناها لا يجيب الشافع المشفوع فيه إلى الشفاعة وإن كان لو شفع لشفع. (3)
3 -
يحتمل أن يكون معنى هذه الآيات التي ظاهرها نفي الشفاعة، إنما معناها يرد حيث لم يأذن الله في الشفاعة للكفار، ولا بد من إذن الله بتقدم الشافع بالشفاعة لقوله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ
(1) محاسن التأويل (1/ 303).
(2)
البحر المحيط (1/ 348).
(3)
المصدر السابق.
قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} [سبأ: 23]، وقوله تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28].
4 -
يحتمل أن يكون المعنى في هذه الآيات التي ظاهرها نفي الشفاعة أن طاعة المطيع لتقضي عن العاصي ما كان واجبًا عليه، فلا تقضي نفس عن نفس حقًّا لازمًا لله جل ثناؤه ولا لغيره، ولا يقبل الله منها شفاعة شافع فيترك ما لزمها من حق (1).
5 -
أن الشفاعة في قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)} [الزمر: 44]، هذه الشفاعة خاصة بالله وحده، أو أن الشفاعة كلها خاصة بالله وحده، ولا يستطيع أحد أن يشفع لأحد إلا بشرطين هما:
1 -
أن يكون المشفوع له مرتضى.
2 -
وأن يكون الشفيع مأذونًا له.
وهنا الشرطان مفقودان جميعًا لقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)} [الزمر: 43] أي يشفعون ولو كانوا لا يملكون شيئًا ولا يعقلون؟ أي ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيئًا قط حتى يملكوا الشفاعة ولا عقل لهم (2).
فيقول تعالى ذامًا للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله، وهم الأصنام والأنداد التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان لديهم على ذلك، وهي لا تملك شيئًا من الأمر؛ بل وليس لها عقل تعقل به ولا سمع تسمع به ولا بصر تبصر به؛ بل هي جمادات أسوأ حالًا من الحيوان بكثير، قل: أي يا رسول الله لهؤلاء الزاعمين إنَّ ما اتخذوه شفعاء لهم عند الله، أخبرهم أن الشفاعة لا تنفع عند الله إلا لمن ارتضاه وأذن له، فمرجعها كلها إليه {مَنْ ذَا الَّذِي
(1) تفسير الطبري (1/ 267)، تفسير الخازن (1/ 43).
(2)
الكشاف (4/ 131).
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} الله ملك السموات والأرض أي هو المتصرف في جميع ذلك ثم إليه ترجعون أي يوم القيامة فيحكم بينكم بعدله ويجزي كلًا بعمله (1).
فقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43، 44]. فـ (أم) منقطعة وهي للاضطراب الانتقالي انتقالًا من تشنيع إشراكهم إلى إبطال معاذيرهم في شركهم، ذلك أنهم لما دمغتهم حجج القرآن باستحالة أن يكون لله شركاء تمحلوا تأويلًا لشركهم فقالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} كما حكى عنهم في أول هذه السورة، فلما استوفيت الحجج على إبطال الشرك أقبل هنا على إبطال تأويلهم منه ومعذرتهم.
والاستفهام الذي تشعر به (أم) في جميع مواقعها هو هنا للإنكار بمعنى أن تأويلهم وعذرهم منكر كما كان المعتذر عنه منكرًا فلم يقضوا بهذه المعذرة وطرًا.
وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم مقالة تقطع بهتانهم وهي {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} فالواو في (أولو كانوا) عاطفة كلام المجيب على كلامهم، وهو من قبيل ما سمي بعطف التلقين في قوله تعالى:{قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] ولك أن تجعل الواو للحال كما هو المختار في نظيره وتقدم في قوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91] وصاحب الحال مقدر دل ما قبله من قوله: {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} والتقدير: أيشفعون ولو كانوا لا يملكون شيئًا؟ والظاهر أن حكم تصدير الاستفهام قبل واو الحال كحكم تصديره قبل واو العطف، وأفاد تنكير (شيئًا) في سياق النفي عموم كل ما يُمْلَكُ فيدخل في عمومه جميع أنواع الشفاعة، ولما كانت الشفاعة أمرًا معنويًا كان معنى ملكها تحصيل إجابتها والكلام تهكم إذ كيف يشفع من لا يعقل، فإنه لعدم عقله لا يتصور خطورة معنى الشفاعة عنده فضلًا عن أن تتوجه إرادته إلى الاستشفاع فاتخاذهم شفعاء من الحماقة، ولما نفي أن يكون لأصنامهم شيء
(1) تفسير ابن كثير (12/ 134).
من الشفاعة في عموم نفي ملك شيء من الموجودات عن الأصنام قوبل بقوله (لله الشفاعة) أي الشفاعة كلها لله، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول ذلك لهم ليعلموا أن لا يملك الشفاعة إلا الله أي هو مالك إجابة شفاعة الشفعاء الحق.
وتقديم الخبر المحرر وهو "لله" على المبتدأ لإفادة الحصر، واللام للملك أي قصر ملك الشفاعة على الله تعالى لا يملك أحد الشفاعة عنده. و"جميعًا" حال من الشفاعة مفيدة للاستغراق أي لا يشذ جزئي من جزئيات حقيقة الشفاعة عن كونه ملكًا لله، وقد تأكد بلازم هذه لحال ما دل عليه الحصر من انتفاء أن يكون شيء من الشفاعة لغير الله. وجملة (له ملك السموات والأرض) لتعميم انفراد الله بالتصرف في السماوات والأرض الشامل للتصرف في مؤاخذة المخلوقات وتسيير أمورهم، فموقعها موقع التذييل المفيد لتقرير الجملة التي قبله وزيادة، والمراد الملك بالتصرف بالخلق وتصريف أحوال العالمين ومن فيها، فإذا كان ذلك الملك له فلا يستطيع أحد صرفه عن أمر أراد وقوعه إلى ضد ذلك الأمر في مدة وجود السماوات والأرض، وهذا إبطال لأن تكون لآلهتهم شفاعة لهم في أحوالهم في الدنيا، وعطف عليه (ثم إليه ترجعون) للإشارة إلى ثبات البعث، وإلى أنه لا يشفع أحد عند الله بعد الحشر إلا من أذن الله بذلك. و (ثم) للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل، ذلك لأن مضمون "إليه ترجعون" أن لله ملك الآخرة كما كان له ملك الدنيا وملك الآخرة أعظم لسعة مملوكاته وبقائها، وتقديم "إليه" على "ترجعون" للإهتمام والتقوى والرعاية الفاصلة (1).
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 43، 44]. فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض، وهو الله وحده فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه، فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي
(1) التحرير والتنوير (24/ 26: 28).
له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه، وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم، وهي التي أبطلها الله سبحانه في كتابه بقوله:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: من الآية 48] وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، وقال تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)} [الأنعام: 51]، وقال:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4].
فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه؛ بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه كما قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3]، وقال:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه ولا الشافع شفيع من دونه؛ بل شفيع بإذنه.
والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك والعبد المأمور، فالشفاعة التي أبطلها الله: شفاعة الشريك فإنه لا شريك له، والتي أثبتها: شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له ويقول: اشفع في فلان ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد، وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه وهم الذين ارتضى الله سبحانه.
قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال:{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)} [طه: 109]، فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاء قول المشفوع له وإذنه للشافع فيه، فأما المشرك فإنه لا يرتضيه ولا يرضى قوله فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن
المشفوع له وإذنه للشافع فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة.
وسر ذلك: أن الأمر كله لله وحده فليس لأحد معه من الأمر شيء وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده: هم الرسل والملائكة المقربون وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول ولا يتقدمون بين يديه ولا يفعلون شيئًا إلا بعد إذنه لهم وأمره لهم ولا سيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا فهم مملوكون مربوبون أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه فإذا أشرك بهم المشرك واتخذهم شفعاء من دونه ظنا منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وتعالى وما يجب له ويمتنع عليه فإن هذا محال ممتنع تشبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي.
والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق والرب والمربوب والسيد والعبد والمالك والمملوك والغني والفقير والذي لا حاجة به إلى أحد قط والمحتاج من كل وجه إلى غيره، فالشفعاء عند المخلوقين: هم شركاؤهم فإن قيام مصالحهم بهم وهم أعوانهم وأنصارهم الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس. فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنتقض طاعتهم لهم ويذهبون إلى غيرهم فلا يجدون بدًا من قبول شفاعتهم على الكره والرضى فأما الغني الذي غناه من لوازم ذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته وكل من في السموات والأرض عبيد له مقهورون بقهره مصرفون بمشيئته لو أهلكهم جميعًا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة.
قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} [المائدة: 17]، وقال سبحانه في سيدة آي القرآن آية الكرسي:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 44].
فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده وأن أحدًا لا يشفع عنده إلا بإذنه فإنه ليس بشريك بل مملوك محض بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يعرفها الناس ويفعلها بعضهم مع بعض ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنها هي المعروفة المشاهدة عند الناس ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه. وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه فإنه الذي أذن والذي قبل والذي رضي عن المشفوع والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله: (فمتخذ الشفيع مشرك لا تنفعه شفاعته ولا يشفع فيه ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه ومرجوه ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده ويطلب رضاه ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه)، قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 43، 44]، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس: 18].
فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم هم وإنما تحصل بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له.
وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق وسؤاله للمشفوع عنده لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده لا خلقًا ولا أمرًا ولا إذنًا، بل هو سبب محرك له من خارج كسائر الأسباب التي تحرك الأسباب وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما