الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإضلال عقوبة منه لهم حين بين لهم فلم يقبلوا ما بينه لهم ولم يعملوا به فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى، وما أضل الله سبحانه أحدًا قط إلا بعد هذا البيان.
وإذا عَرفْت هذا عَرفْت سرَّ القدر، وزالت عنك شكوك كثيرة وشبهات في هذا الباب، وعلمت حكمة الله في إضلاله مَنْ يضله من عباده، والقرآن يصرح بهذا في غير موضع كقوله:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ، وقوله:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} .
فالأول كفر عناد، والثاني كفر طبع، وقوله تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} ، فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تيقنوه وتحققوه بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم فلم يهتدوا له، فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه موضع عظيم.
وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} ، فهذا هدى بعد البيان والدلالة وهو شرط لا موجب، فإنه إن لم يقترن به هدى آخر بعده لم يحصل به كمال الاهتداء وهو هدى التوفيق والإلهام. وهذا البيان نوعان: بيان بالآيات المسموعة المتلوة، وبيان بالآيات المشهودة المرئية؛ وكلاهما أدلة وآيات على توحيد الله، وأسمائه، وصفاته، وكماله، وصدق ما أخبرت به رسلُه عنه؛ ولهذا يدعو عباده بآياته المتلوة إلى التفكير في آياته المشهودة، ويحضهم على التفكر في هذه وهذه، وهذا البيان هو الذي بعثت به الرسل وجعل إليهم وإلى العلماء بعدهم، وبعد ذلك يضلُّ الله مَنْ يشاء؛ قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)} ، فالرسل تبين والله هو الذي يضل مَنْ يشاء ويهدي من يشاء بعزته وحكمته.
البيان الخاص:
وهو البيان المستلزم للهداية الخاصة؛ وهو بيان تقارنه العناية والتوفيق والاجتباء وقطع أسباب الخذلان وموادها عن القلب، فلا تتخلف عنه الهداية البتة؛ قال تعالى في هذه
المرتبة: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} ، وقال تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، فالبيان الأول شرط وهذا موجب؛ قال تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 23]، وقوله تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)} [فاطر: 19 - 23].
وهذا الإسماع أخص من إسماع الحجة والتبليغ؛ فإن ذلك حاصل لهم وبه قامت الحجة عليهم، لكن ذاك إسماع الآذان وهذا إسماع القلوب، فإن الكلام له لفظ ومعنى، وله نسبة إلى الآذان والقلب وتعلق بهما؛ فسماع لفظه حظ الأذن وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب، فإنه سبحانه نفى عن الكفار سماع المقصود والمراد الذي هو حظ القلب، وأثبت لهم سماع الألفاظ الذي هو حظ الأذن؛ قال تعالى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 2، 3]، وهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه أو تمكنه منها، وأما مقصود السماع وثمرته والمطلوب منه فلا يحصل مع لهو القلب وغفلته وإعراضه؛ بل يخرج السامع قائلًا للحاضر معه:{مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16]، والفرق بين هذه المرتبة ومرتبة الإفهام أن هذه المرتبة إنما تحصل بواسطة الأذن؛ ومرتبة الإفهام أعم فهي أخص من مرتبة الفهم من هذا الوجه؛ ومرتبة الفهم أخص من وجه آخر وهي أنها تتعلق بالمعنى المراد ولوازمه ومتعلقاته وإشاراته، ومرتبة السماع مدارها على إيصال المقصود بالخطاب، ويترتب على هذا السماع سماع القبول فهو إذن ثلاث مراتب: سماع الأذن، وسماع القلب، وسماع القبول والإجابة (1).
(1) مدارك السالكين لابن القيم (1/ 44).