الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ديننا تعلم لغة كتابنا. (1)
الثاني: أن الأجر يزداد مع المشقة وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران. (2)
الثالث: أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها وقد قال {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
قولهم كيف تفسر إلى اللغات الأخرى؟
فقد بينا في المقدمة أنه يقوم عالم من العلماء بصياغة تفسير سهل يختار فيه القول الراجح عنده ثم يترجم هذا التفسير وهذا في سائر القرآن ومنه هذه الحروف. (3)
وعلى هذا فقد ظهر لنا وللسائل معنى هذه الكلمات عند أهل العلم والحكمة منها حتى لو لم يكن المعنى ظاهر.
وكيف يفعل الذين يسكنون الأماكن النائية وغير العرب وكيف تفسر إلى اللغة الانجليزية أو غيرها وبهذا تثار هذه الشبهة إن شاء الله على أصحابها لأن الكلمات لها معنى وهي من القرآن السهل الميسر، غير أنه بقيت مسألة.
الوجه الحادي عشر: الرد على قولهم: هل يحتاجون إلى مفسرين وجهابذة في اللغة لكي نعرف ماذا يقصد بكلمة الم، الر، كهيعص
. (4)
فجوابه أولًا: إنهم لا يحتاجون إلى الجهابذة والخبراء في فواتح السور فحسب بل يحتاجون إليهم في فهم أكثر كلمات القرآن الكريم لأن ذلك علم من علوم القرآن بل من
(1) انظر المقدمة.
(2)
الحديث عند البخاري (4653)، ومسلم (798).
(3)
انظر المقدمة.
(4)
قلت: هذا من أعجب العجب فليقل لنا هذا المتكلم عن أي كتاب ألفه فاضل في فن من الفنون وعمل فيه جهده وخبرته ثم فهمه غير أهل العلم هذا الفن من غير استشراح لكله أو لبعضه. فكيف إذا كان الكتاب كلام الله رب العالمين فهل يحيط هؤلاء بمعانيه من غير رجوع إلى أهل الفن والخبرة أمثال ابن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" وهؤلاء أهل الذكر الذين أمر الله بسؤالهم.
علوم الإسلام العظيمة وهو علم التفسير والتأويل.
وهو علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية. (1)
نهضة الأفراد والأمم لا يمكن أن تكون صحيحة عن تجربة ولا سهلة متيسرة ولا رائعة مدهشة إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن ونظمه الحكيمة التي روعيت فيها جميع عناصر السعادة للنوع البشري على ما أحاط به علم خالقه الحكيم وبديهي أن العمل بهذه التعاليم لا يكون إلا بعد فهم القرآن وتدبره.
وهذا لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان لما تدل عليه ألفاظ القرآن وهو ما نسميه بعلم التفسير خصوصًا في هذه العصور الأخيرة التي فسدت فيها ملكة البيان العربي وضاعت فيها خصائص العروبة حتى من سلائل العرب أنفسهم.
فالتفسير هو مفتاح هذه الكنوز والذخائر التي احتواها هذا الكتاب المجيد النازل لإصلاح البشر وإنقاذ الناس وإعزاز العالم، وبدون التفسير لا يمكن الوصول إلى هذه الكنوز والذخائر مهما بالغ الناس في ترديد ألفاظ القرآن وتوفروا على قراءته كل يوم ألف مرة بجميع وجوهه التي نزل عليها. وهنا تلمح السر في تأخر مسلمة هذا الزمن على رغم وفرة المصاحف في أيديهم ووجود ملايين الحفاظ بين ظهرانيهم وعلى رغم كثرة عددهم واتساع بلادهم في حين أن سلفنا الصالح نجحوا بهذا القرآن نجاحًا مدهشا كان وما زال موضع إعجاب التاريخ والمؤرخين مع أن أسلافنا أولئك كانوا في قلة من العدد وضيق من الأرض وخشونة من العيش ومع أن نسخ القرآن ومصاحفه لم تكن ميسورة لهم ومع أن حفاظه لم يكونوا بهذه الكثرة الغامرة.
أجل إن السر في ذلك هو أنهم توفروا على دراسة القرآن واستخراج كنوز هداياته يستعينون على هذه الثقافة العليا بمواهبهم الفطرية وملكاتهم السليمة العربية من ناحية وبما يشرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبينه لهم بأقواله وأعماله وأخلاقه وسائر أحواله كما قال سبحانه
(1) المناهل (2/ 6).
ثانيًا: فإن القرآن نزل بلسان عربي في زمان أفصح العرب فكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه أما دقائق باطنه فلا تظهر لهم إلا بعد البحث والنظر وسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم مثل قولهم: وأينا لم يظلم نفسه حينما نزل قوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك واستدل بقوله إن الشرك لظلم عظيم (2).
ومما تقدم يتبين أن فائدة التفسير هي التذكر والاعتبار ومعرفة هداية الله في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق وسمي علم التفسير لما فيه من الكشف والتبين (3).
قلت: وهذا التفسير لا بد له من جهابذة يقومون به شأن سائر العلوم والتخصصات ومن ينكر هذا؟ ! .
ورد عن ابن عباس أنه قال: إن التفسير أربعة: حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تفسره العرب بألسنتها وتفسير تفسره العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله.
قال الزركشي: وهذا تقسيم صحيح:
1 -
فأما الذي تعرفه العرب فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم وذلك شأن اللغة والإعراب فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها ومسميات أسمائها ولا يلزم ذلك القارئ ثم إن كان ما تتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم كفي فيه خبر الواحد والاثنين والاستشهاد بالبيت والبيتين وإن كان مما يوجب العلم لم يكف ذلك بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ وتكثر شواهده من الشعر وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلا للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه ليتوصل المفسر إلى معرفة الحكم وليسلم القارئ من اللحن وإن لم يكن محيلًا للمعنى وجب تعلمه على القارئ ليسلم من اللحن ولا يجب على المفسر
(1) المناهل (2/ 8 - 10).
(2)
البخاري (32)، ومسلم (124).
(3)
المناهل (2/ 11).
ليتوصل إلى المقصود دونه على أن جهله نقص في حق الجميع إذا تقرر ذلك فما كان من التفسير راجعًا إلى هذا القسم فسبيل المفسر التوقف فيه على ما ورد في لسان العرب وليس لغير العالم بحقائق اللغة ومفهوماتها تفسير شيء من الكتاب العزيز ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين.
2 -
وأما ما لا يعذر واحد بجهله وهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد وكل لفظ أفاد معنى واحدًا جليًا لا سواه يعلم أنه مراد الله تعالى فهذا القسم لا يختلف حكمه ولا يلتبس تأويله إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله وأنه لا شريك له في إلهيته وإن لم يعلم أن لا موضوعة في اللغة للنفي وإلا للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر. فما كان من هذا القسم لا يقدر أحد يدعي الجهل بمعاني الفاظه لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة.
3 -
وأما ما لا يعلمه إلا الله تعالى فهو ما يجرى مجرى الغيوب نحو الآي المتضمنة قيام الساعة ونزول الغيث وما في الأرحام وتفسير الروح والحروف المقطعة وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف من أحد ثلاثة أوجه:
إما نص من التنزيل، أو بيان من النبي صلى الله عليه وسلم، أو إجماع الأمة على تأويله فإذا لم يرد فيه توقيف من هذه الجهات علمنا أنه مما استأثر الله تعالى بعلمه.
4 -
ما يرجع إلى اجتهاد العلماء وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل وهو صرف اللفظ إلى ما يئول إليه فالمفسر ناقل والمؤول مستنبط وذلك استنباط الأحكام وبيان المجمل وتخصيص العموم وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه.
وقال أيضًا: والحق أن علم التفسير منه ما يتوقف على النقل كسبب النزول والنسخ وتعيين المبهم وتبيين المجمل ومنه ما لا يتوقف قوله ويكفي في تحصيله التفقه على الوجه المعتبر.
ثم قال: واعلم أن القرآن قسمان أحدهما ورد تفسيره بالنقل عمن يعتبر تفسيره وقسم لم يرد.
والأول ثلاثة أنواع، إما أن يرد التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة، أو عن رءوس التابعين فالأول يبحث في عن صحة السند والثاني ينظر في تفسير الصحابي فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتمادهم وإن فسره بما شاهده من الأسباب والقرائن فلا شك فيه وحينئذ إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة فإن أمكن الجمع فذاك وإن تعذر قدم ابن عباس لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بذلك حيث قال اللهم علمه التأويل. وقد رجح الشافعي قول زيد في الفرائض لقوله صلى الله عليه وسلم أفرضكم محمد زيد فإن تعذر الجمع جاز للمقلد أن يأخذ بأيها شاء وأما الثالث وهم رءوس التابعين إذا لم يرفعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى أحد من الصحابة رضي الله عنهم فحيث جاز التقليد فيما سبق فكذا هنا وإلا وجب الاجتهاد.
والثاني ما لم يرد فيه نقل عن المفسرين وهو قليل وطريق التوصل إلى فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالها بحسب السياق وهذا يعتني به الراغب كثيرًا في كتاب المفردات فيذكر قيدًا زائدًا على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ لأنه اقتصه من السياق. والذي يجب على المفسر البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة فتحصيل معاني المفردات من ألفاظ القرآن من أوائل المعادن لمن يريد أن يدرك معانيه وهو كتحصيل اللبن من أوائل المعادن في بناء ما يريد أن يبنيه. وليس ذلك في علم القرآن فقط بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع وغيره وهو كما قالوا إن المركب لا يعلم إلا بعد العلم بمفرداته لأن الجزء سابق على الكل في الوجود من الذهبي والخارجي فنقول النظر في التفسير هو بحسب أفراد الألفاظ وتراكيبها (1).
قلت: وبهذا يظهر أن الحاجة إلى العلماء المتخصصين في فهم القرآن أمر لا يطعن في القرآن ولا في هدايته، والله أعلم.
* * *
(1) البرهان للزركشي (2/ 164 - 174)، والإتقان (2/ 141 - 259).