الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - شبهة: يوسف عليه السلام استغاث بغير الله تعالى
.
نص الشبهة:
يُستدلُّ من القرآن على لسان يوسف عليه السلام: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} أنه استغاث بغير الله، فكيف يقع ذلك منه؟ !
والردُّ على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: هذا من الأخذ بالأسباب المشروعة، ولا ينافي التوكل على الله
.
الوجه الثاني: أرسل إلى الملك ليتوصل إلى دعوته إلى الله.
وإليك التفصيل
الوجه الأول: هذا من الأخذ بالأسباب المشروعة، ولا ينافي التوكل على الله.
في هذه الآية دليل على جواز الاستعانة بمن هو مظنة كشف الغمة وإن كان مشركًا، وقد جاء ذلك في قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ، وقوله حكاية عن عيسى عليه السلام:{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} ، وفي الحديث:(والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)(1)، وجلي أن ذلك من نظام الكون والعمران البشري، ولذلك ميز الإنسان بالنطق، وهذا من يوسف عليه السلام على سبيل الاستعانة والتعاون في تفريج كربه وجعله بإذن الله وتقديره سببًا للخلاص، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب من يحرسه، ففعلُ يوسفَ عليه السلام دليل على جواز السعي والتعلق بالأسباب وإن كان اليقين حاصلًا، ولا ينافي ذلك التوكل على رب الأرباب، فإن الأمور بيد مسببها، ولكنه جعلها سلسلةً وركب بعضها على بعض، فتحريكها سنة، والتعويل على المنتهى يقين.
فاعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة، والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله والسعي في إزالة الظلم لا ينافي التسليم لقضاء الله، فإن التسليم الواجب هو التسليم لحكم الله وقضائه الشرعي الديني.
(1) أخرجه مسلم (2699).
أما القضاء والحكم القدري الكوني فإنه ثلاثة أنواع:
القسم الأول: الحكم الكوني الذي لا قدرة للإنسان فيه لا على أخذ الأسباب أو دفعها؛ مثل كونه ولد بصفة معينة، أو في زمن معين، أو لأبوين معينين، ومثل كونه ذكرًا أو أنثى، ومثل موت بعض أحبابه وأقاربه، ومثل مرضه مرضًا لا يعرف له دواء ولا يرجى منه شفاء، فهذا قدر لا بد فيه من التسليم المحض، وعدم المنازعة وعدم الفرار منه؛ إذ لا سبيل إلى ذلك، وترك التسليم ووجود المنازعة إنما هو السخط والشك، والاعتراض على الربوبية، وجرأة الإقدام، ووقاحة الاقتراح بأنه كان ينبغي غير ما كان والعياذ بالله.
القسم الثاني: الحكم الكوني الذي جعل الله للعباد على أخذ الأسباب أو دفعها قدرة وإرادة وكسبًا، وكونه عز وجل جعل لهم قدرة وإرادة تتعلق بالأسباب تكسبًا:
لا ينافي أنه إنما يوجبه حكمه الكوني، فليست إرادة العباد موجبة وقدرتهم في الحقيقة أثرهم؛ إنما هو من آثار قدرة الله عز وجل فهو الذي شاء أن يشاؤا، وهو الذي أقدرهم؛ فهذا النوع من الحكم القدري يشرع فيه وجوبًا واستحبابًا أخذ الأسباب المباحة والمشروعة. فمن ابتلاه الله بقدر من الجوع دفعه بقدر من الأكل، ومن ابتلاه الله بقدر من العطش فرَّ منه إلى قدر من الشرب، ومن أصابه قدر من المرض نازعه بقدر من التداوي؛ مصداق ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لما سئل عن الأدوية التي يتداوون بها ترد من قدر الله شيئًا فقال: "هي من قدر الله")(1).
ومن ذلك قول عمر لأبي عبيدة: (أتفرُّ من قدر الله؟ ! قال: نعم، أفر من قدر الله إلى قدر الله)(2).
(1) ضعيف. أخرجه الترمذي (2148، 2065)، وابن ماجه (3437)، أحمد (15046)، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (359) وضعيف ابن ماجه (3437) وحسنه الألباني في مشكلة الفقر (11) بلفظ: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال:"هي من قدر الله". أما اللفظ المذكور فضعيف.
(2)
أخرجه البخاري (5397)، مسلم (2219).
ومن هذا ما فعله يوسف عليه السلام، فحين أصابه قدر من الظلم والسجن شرع في دفعه بقدر طلب الشفاعة العادلة لدى الملك الذي أقدره الله على أن يرفع الظلم عنه، ويتأكد أخذ الأسباب في هذا النوع من الحكم الكوني القدري إذا كان في الذي تفر إليه طاعة لله وعبودية محبوبة له، وقد يكون واجبًا أن يأخذ بالأسباب، فمن ترك نفسه للجوع حتى هلك مع قدرته على الأكل كان آثمًا، ومن ترك أولاده بلا نفقة وهو قادر على الكسب برغم التسليم بالقدر كان آثمًا؛ مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم:"وكفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت". (1)
القسم الثالث: من الحكم الكوني الحكم على العبد بالمعصية والخذلان، فهذا يجب عليه أن يفر منه وينازعه بقدر من الطاعة والتوبة والإنابة والتضرع إلى الله أن يأخذ بناصيته إليه، وأن يوفقه لما يحب ويرضى، وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وبهذا يحقق العبد:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} ، وفي هذا النوع بعد تحقيق التوبة والإنابة والإصلاح ما استطاع - يكون القدر بالنسبة إلى ما قد دفع في الماضي بالفعل ولا قدرة على تغيير هذا الماضي، بل قدرته في إزالة آثاره وقد فعل؛ يكون القدر في هذه الحالة عذرًا للعبد وحجة يحتج بها (كما حَجَّ آدمُ موسى بذلك). (2)
وكما قال كعب بن مالك رضي الله عنه بعد توبته وقبولها: (فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت، غير أنه لم يقدر له ذلك). (3) فهو باقٍ على ندمه على التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ويتمنى أن لو كان لم يقع في الذنب، وهذا من كمال الندم، ولكنه يسلي نفسه ويعزيها بالقدر كما أنه في النوع الثاني؛ وهو الحكم الكوني الذي للعبد فيه قدرة على الأسباب - يكون الاستسلام للقدر مأمورًا به بعد استفراغ الوسع في أخذ الأسباب، وقد لا تثمر ثمرتها
(1) أخرجه مسلم (996) بلفظ (كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يقوت)، وأبو داود (1692)، وأحمد (6459)، وحسنه الألباني في الجامع (4481)، وأخرجه الطيالسي (2281) وغيرهم من طرق عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا.
وفيه وهب بن جابر: قال ابن حجر: مقبول؛ كما في التقريب (2/ 651).
(2)
أخرجه البخاري (3409)، مسلم (2652).
(3)
أخرجه مسلم (2769) بلفظ: (ثم لم يقدر)، وأحمد (15363).
ولا تؤتي نتيجتها فقد نسي الرجل الساقي أن يذكر أمر يوسف للملك، فما كان من يوسف إلا التسليم والرضا بقضاء الله، فإن الأسباب ليست موجبة لنتائجها، فلا يحزن العبد ولا يغتم ولا يهتم، فقد جعل الله الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط، فلا بد من التسليم والتفويض والتوكل على الله والثقة به سبحانه وتعالى.
أطلنا الكلام على هذه المسألة المهمة؛ لأن البعض قد فسر الآية الكريمة على أن يوسف عليه السلام لطلبه من الذي علم أنه ناجٍ من صاحبيه في السجن أن يذكره عند ربه، وأنه لو لم يفعل لما لبث في السجن ما لبث، ويجعل ذلك حجة في ترك الأسباب زاعمًا أنها منافية للتسليم والرضا بالقدر، ومعلوم أن هدي الأنبياء جميعًا وسنتهم الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله، فإن جاء ما يعجز العبد وما لا قدرة له عليه وغلبه أمرٌ قال: قدر الله وما شاء فعل، وسلم الأمر لله وقضائه، فأخذ الأسباب ابتغاء الفرج من عند الله.
ولو وقع إنسان في بئر مثلًا وكان يستطيع أن ينادي مَنْ بالطريق بجوار البئر ليخرجه لزمه ذلك كما يلزمه إمساك الحبل لمن ألقاه إليه؛ خلافًا للمنقول عن بعض المتقدمين مِنْ تركه النداء أرسل الله إليه من ألقى إليه الحبل، فهل كان ترك النداء توكلًا والإمساك بالحبل نقصًا في التوكل؟ !
فالمسألة واحدة في الأمرين؛ كلاهما سبب.
إذن فطلب الشفاعة في الحق أمر مشروع لا ينافي كمال التوكل مع ثقة القلب به وكمال توكله عليه، وهذا هو الظن الواجب بيوسف عليه السلام. (1)
واحتياج الإنسان للواسطة في قضاء حاجته أو رفع الظلم عنه عادة قديمة، وقي الغالب لا يكون إلا إذا كانت الحكومات ظالمة مستبدة لا يعمل فيها بموجب الشرائع والأنظمة؛ ولكن بالرأي الفردي وبحسب الشهوة، وهذه الحالة السيئة كما كانت في تلك الحكومات المصرية الهكسوسية، فهي سائدة في جميع الأمم بنسب تتفاوت تبعًا للتربية والأخلاق.
(1) تأملات إيمانية في سورة يوسف عليه السلام (125: 122).