الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - شبهة: أن الشيطان أنسى يوسف عليه السلام ذكر ربه عز وجل
-.
نص الشبهة:
جاء في القرآن في سورة يوسف: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} ، فيوسف عليه السلام نسي ربه، واستعان بالمخلوق، واعتصم به؛ فعوقب بذلك بأن بقي في السجن وقتًا طويلًا.
والرد على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: الضمير في قوله: {فَأَنْسَاهُ} عائد على ساقي الملك؛ وهو الصواب
.
الوجه الثاني: عدم صحة الحديث المروي في حمل النسيان على يوسف عليه السلام.
الوجه الثالث: أن قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} لا ينافي التوكل؛ لأن يوسف عليه السلام كان ذاكرًا لربه في كل أحواله.
وإليك التفصيل
الوجه الأول: الضمير في قوله: {فَأَنْسَاهُ} عائد على ساقي الملك؛ وهو الصواب.
اختلف علماء التفسير في الضمير في قوله تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} على قولين:
الأول: أنه عائد على يوسف عليه السلام أي: أنساه الشيطان ذكرَ الله سبحانه وتعالى، فقال لساقي الملك حين علم أنه سينجو ويعود إلى حالته الأولى مع الملك:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ، نسى في ذلك الوقت أن يشكو إلى الله ويستغيث به، وجنح إلى الاعتصام بالمخلوق فعوقب باللبث في السجن بضع سنين (1).
الثاني: أنه عائد على ساقي الملك الناجي فهو الناسي، أي: أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف لربه (2).
قلنا: والصواب القول الثاني للوجوه الآتية:
1 -
الضمير في لغة العرب يعود إلى أقرب مذكور، ما لم يكن هناك دليل على خلاف ذلك.
(1) تفسير الطبري (12/ 223: 222)، تفسير الرازي (18/ 145)، تفسير القرطبي (9/ 201).
(2)
تفسير ابن كثير (8/ 45)، روح المعاني (12/ 248).
2 -
أن يوسف عليه السلام لم ينسْ ذكر ربه، بل كان دائمًا ذاكرًا له.
3 -
قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا. . .} [يوسف: 45، 46] دليل واضح وبرهان لائح على أن ساقي الملك هو الناسي، ولذلك لما رأى الملك رؤيا وعجز جلساؤه عن تعبيرها تذكر ساقي الملك الناسي يوسفَ عليه السلام فولى وجهه نحو السجن يسأل يوسف عن تعبيرها، فالمراد أن ساقي الملك عندئذ تذكر يوسف، وقد كان قبل ذلك ناسيًا لوصية يوسف له عند الخروج من السجن.
وقد فصل شيخ الإسلام هذا المقام تفصيلًا حسنًا فقال: وقال تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} قيل: أنسى يوسف ذكر ربه لما قال: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ، وقيل: بل الشيطان أنسى الذي نجا منهما ذكر ربه؛ وهذا هو الصواب، فإنه مطابق لقوله:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ؛ قال تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} ، والضمير يعود إلى القريب إذ لم يكن هناك دليل على خلاف ذلك، ولأن يوسف لم ينس ربه بل كان ذاكرًا لربه.
وقد دعاهما قبل تعبير الرؤيا إلى الإيمان بربه، وقال لهما:{يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف: 39، 40]، وقال لهما قبل ذلك:{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} أي: في الرؤيا {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} يعني: التأويل، {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)} [يوسف: 37، 38].
فبدأ يذكر ربه عز وجل، فإن هذا مما علمه ربه، لأنه ترك ملة قوم مشركين، لا يؤمنون بالله،
وإن كانوا مقرين بالصانع ولا يؤمنون بالآخرة، واتبع ملة آبائه أئمة المؤمنين الذين جعلهم الله أئمة يدعون بأمره إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، فذكر ربه ثم دعاهما إلى الإيمان بربه، ثم بعد هذا عبر الرؤيا فقال:{يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف: 41]، ثم لما قضى تأويل الرؤيا:{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، فكيف يكون قد أنسى الشيطانُ يوسفَ ذكر ربه؟ ! وإنما أنسى الشيطانُ الناجيَ ذكرَ ربه؛ أي: الذكر المضاف إلى ربه والمنسوب إليه وهو أن يذكر عنده يوسف.
والمقصود أن يوسف عليه السلام لم يفعل ذنبًا ذكره الله عنه، وهو سبحانه لا يذكر من الأنبياء ذنبًا إلا ذكر استغفارًا منه، ولم يذكر عن يوسف استغفارًا من هذه الكلمة، كما لم يذكر عنه استغفارًا من مقدمات الفاحشة، فعلم أنه لم يفعل ذنبًا في هذا ولا هذا، بل همَّ همًّا تركه لله فأثيب عليه حسنة، كما قُدم بسطُ هذا في موضعه، وأما ما يكفره الابتلاء من السيئات فذلك جوزي به صاحبه بالمصائب المكفرة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"ما يصيب المؤمن من وصب، ولا نصب، ولا هم، ولا حزن، ولا غم، ولا أذى؛ إلا كفر الله به خطاياه"(1).
ولما أنزل الله تعالى هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] قال أبو بكر: يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر وأيُّنا لم يعمل سوءًا؟ ! فقال:"ألست تحزن؟ ألست تنصب؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فذلك مما تجزون به"(2).
فتبين أن قوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} أي: نسي الفتى ذكر ربه؛ أن يذكر هذا لربه، ونسي ذكرَ يوسفَ ربه، والمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول، ويوسف قد ذكر ربه ونسي الفتى ذكر ربه، وأنساه الشيطان أن يذكر ربه هذا الذكر الخاص، فإنه وإن كان يسقي ربه خمرًا فقد لا يخطر هذا الذكر بقلبه، وأنساه الشيطان تذكر ربه وإذكار ربه لما قال: {
(1) أخرجه البخاري (5641)، مسلم (2573).
(2)
أخرجه الترمذي (3039)، وعبد بن حميد في مسنده (1/ 36)، مسند أبي يعلى (1/ 29)(30/ 21)، وغيرهم كثير بسند ضعيف، لكن الحديث صحيح بشواهده، وانظر (عجالة الراغب المتمني 1/ 446: 445).
اذْكُرْنِي} أمره بإذكار ربه فأنساه الشيطان إذكار ربه، فإذكار ربه أن يجعله ذاكرًا، فأنساه الشيطان أن يجعل ربه ذاكرًا ليوسف، والذكر: هو مصدر وهو اسم، فقد يضاف من جهة كونه اسمًا فيعم هذا كله أي: أنساه الذكر المتعلق بربه والمضاف إليه، ومما يبين أن الذي نسي ربه هو الفتى لا يوسف بعد ذلك:{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون (45)} [يوسف: 45]، وقوله:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} دليل على أنه كان ناسيًا فادكر (1).
قال محمد رشيد رضا: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} أي: أنسى الساقي تذكر ربه، وهو أن يذكر يوسف عنده على حد:{وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]، {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} منسيًا مظلومًا، والفاء على هذا للسببية، وهو المتبادر من السياق والجاري على نظام الأسباب، ويؤيده قوله تعالى الآتي قريبًا:{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: تَذَكَّرَ، إلا أن هذا الاستعمال يحتاج إلى حذف وتقدير، ووجهوه بأنه أضاف المصدر إليه لملابسته له، وأنه على تقديرك:(ذكر إخبار ربه) من حذف المضاف وهو كثير، كما أن الإضافة لأدنى ملابسة كثير في كلامهم.
وقيل: إن المعنى: أن أنسى يوسف عليه السلام ذكر ربه وهو الله عز وجل، فعاقبه الله تعالى بإبقائه في السجن بضع سنين. وقالوا: إن ذنبه الذي استحق عليه هذا العقاب أنه توسل إلى الملك لإخراجه ولم يتوكل على الله عز وجل، وجاءوا عليه بروايات لا يقبل في مثلها إلا الصحيح المرفوع أو المتواتر منه؛ لأنها تتضمن الطعن في نبي مرسل، وهو خلاف الظاهر من وجوه:
الأول: عطف الإنساء على ما قاله للساقي بالفاء يدل على وقوعه عقبه، ومفهومه أنه كان ذاكرًا لله تعالى قبله إلى أن قاله، فلو كان قوله ذنبًا عوقب عليه لوجب أن يعطف عليه بجملة حالية بأن يقال: وقد أنساه الشيطان ذكر ربه؛ أي: في تلك الحال، فلم يذكره بقلبه ولا بلسانه فاستحق عقابه تعالى بإطالة مكثه على خلاف ما أراده من ملك مصر وحده.
(1) دقائق التفسير (3/ 263: 259).
الثاني: أن اللائق بمقامه أن لا يقول ذلك القول إلا من باب مراعاة سنة الله تعالى في الأسباب والمسببات كما وقع بالفعل، فإنه ما خرج من السجن إلا بأمر الملك، وما أمر الملكُ بإخراجه إلا بعد أن أخبره الساقي بخبره، وما آتاه ربه من العلم بتأويل الرؤى وبغير ذلك مما وصاه به يوسف، فإذا كان قد وصاه بذلك ملاحظًا أنه من سنن الله في عباده متذكرًا ذلك وهو اللائق به؛ فلا يعقل أن يعاقبه ربه - تعالى - عليه، وعطفُ الإنساء بالفاء يدل على وقوعه بعد تلك الوصية، فلا تكون هي ذنبًا ولا مقترنة بذنب فيستحق عليها العقاب.
الثالث: إذا قيل: سلمنا أنه كان ذاكرًا لربه عندما أوصى الساقي ما أوصاه به، ولكنه نسيه عقب الوصية.
قلنا: إن زعمتم أنه نسي ذلك في الحال واستمر ذلك النسيان مدة ذلك العقاب وهو بضع سنين أو تتمتها - كنتم قد اتهمتم هذا النبي الكريم تهمة فظيعة لا تليق بأضعف المؤمنين إيمانًا، ولا بدَّ عليها من دليل، بل يبطلها وصف الله بأنه من المحسنين ومن عباده المخلصين المصطفين، وبأنه غالب على أمره، وأنه حذف عنه السوء والفحشاء وكيد النساء، وإن زعمتم أن الشيطان أنساه ذكر ربه برهة قليلة عقب تلك الوصية ثم عاد إلى ما كان عليه من مراقبته له عز وجل وذكره فهذا النسيان القليل لا يستحق هذا العقاب الطويل، ولم يعصم من مثله نبي من الأنبياء كما يعلم من الوجهين الرابع والخامس.
الرابع: جاء في نصوص التنزيل في خطاب الشيطان: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201]، فالتذكر بعد النسيان القليل من شأن أهل التقوى.
الخامس: إن النسيان ليس ذنبًا يعاقب الله تعالى عليه، وقد قال تعالى لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم:{وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] يعني: الذين أمره بالإعراض عنهم إذا رآهم يخوضون في آيات الله (1).
(1) تفسير المنار (12/ 314: 312).