الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرجل، فإنه لو كان هذا دل على العزم والأنبياء معصومون من العزم على الزنا (1).
وقال ابن عطية: ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكة ونحو ذلك؛ لأن العصمة مع النبوة (2).
وقال القاسمي: هذا وقد ألصق هنا بعض المفسرين الولعين بسرد الروايات ما تلقفوه من أهل الكتاب ومن المتصولحين من تلك الأقاصيص المختلفة على يوسف عليه السلام في همه التي أنزه تأليفي عن نقلها بردها. . . (3).
وقال ابن كثير: وأكثر أقوال المفسرين ها هنا مُتَلَقًّى من كتب أهل الكتاب فالإعراض عنه أولى بنا، والذي يجب أن يعتقد أن الله تعالى عصمه، وبرأه، ونزهه عن الفاحشة، وحماه عنها، وصانه منها؛ ولهذا قال تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (4).
وقال ابو السعود: فُسّر همُّه عليه السلام بأنه عليه السلام حلَّ الهَمَيان وجلس مجلسَ الخِتان. . .، وقيل: رؤيتُه للبرهان بأنه سمع صوتًا: إياك وإياها فلم يكترثْ. . .، وقيل: إنْ كلَّ ذلك إلا خرافاتٌ وأباطيلُ تمجُّها الآذانُ، وتردُّها العقول والأذهانُ، ويلٌ لمن لاكها ولفّقها أو سمعها وصدّقها (5).
الوجه الثالث: الأدلة على براءة يوسف عليه السلام
-.
الدليل الأول: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [يوسف: 53] فمن كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة لا
(1) زاد المسير لابن الجوزي (4/ 205).
(2)
المحرر الوجيز لابن عطية (3/ 234) بتصرف.
(3)
تفسير القاسمي (9/ 214).
(4)
قصص الأنبياء لابن كثير (قصة يوسف عليه السلام).
(5)
تفسير أبي السعود (4/ 266، 267)، وانظر إلى بحث:"الاسرائيليات" من هذه الموسوعة.
فهذا كله كلام امرأة العزيز، ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر بعد إلى الملك ولا سمع كلامه ولا رآه، ولكن لما ظهرت براءته في غيبته كما قالت امرأة العزيز:{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)} أي: لم أخنه في حال مغيبه عني، وإن كنت في حال شهوده راودته فحينئذ:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)} وقد قال كثير من المفسرين: إن هذا كلام يوسف، ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول. وهو قول في غاية الفساد، ولا دليل عليه، بل الأدلة تدل على نقيضه (1).
الدليل الثاني: وكذلك قوله تعالى عنه أنه قال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} فصح عنه أنه قط لم يصبُ إليها (2).
الدليل الثالث: أن الله تعالى لم يذكر عنه ذنبًا، فلم يذكر ما يناسب الذنب من الاستغفار، بل إن من الباطل الممتنع أن يظن ظانٌّ أن يوسف عليه السلام هَمَّ بالزنا وهو يسمع قول الله تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فنسأل من خالفنا: الهم بالزنا بسوء هو أم غير سوء؟ لا بد أنه سوء، وقد صرف الله عنه
(1) مجموع الفتاوى (10/ 298).
(2)
الفصل لابن حزم (4/ 11).
السوء، ولو قال: إنه ليس بسوء لعاند الإجماع، فإذًا هو سوء فقد صرف عنه الهم بيقين (1).
الدليل الرابع: شهادة الجميع له ببراءته: شهد بذلك رب العالمين عز وجل، وشهد يوسف عليه السلام، وتلك المرأة، وزوجها، والنسوة، والشهود، وإبليس اللعين؛ أقروا ببراءة يوسف من المعصية، فليس للمسلم توقف في هذا الباب (2).
- أما بيان أن يوسف عليه السلام ادعى البراءة عن الذنب فهو قوله عليه السلام: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} ، وقوله عليه السلام:{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} .
- أما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} ، وأيضًا قالت:{الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51].
- وأما بيان أن زوج المرأة أقرَّ بذلك فهو قوله: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} .
- وأما الشهود فقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} الآيات (3).
- وأما شهادة الله تعالى بذلك فقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات:
أولها: قوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} واللام للتأكيد والمبالغة.
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (10/ 296)، وانظر الفصل لابن حزم (4/ 11)، والتفسير الكبير للرازي (18/ 115، 116)، قاعدة في المحبة لابن تيمية (صـ 77)، قصص الأنبياء لابن كثير (قصة يوسف عليه السلام).
(2)
نقلًا من التفسير الكبير للرازي (18/ 116: 117) بتصرف.
(3)
وأشار إلى هذا المعنى ابن حزم في الفصل (4/ 11) فقال: فَصَحَّ أنها كذبت بنص القرآن، وإذا كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سوءًا، فما هَمَّ بالزنا، ولو أراد بها الزنا لكانت من الصادقين، وهذا بَيِّنٌ جدًّا.
ثانيها: قوله: {وَالْفَحْشَاءَ} أي: كذلك نصرف عنه السوء والفحشاء.
ثالثها: قوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا} مع أنه تعالى قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} .
ورابعها: قوله: {الْمُخْلَصِينَ} وفيه قراءتان: تارة باسم الفاعل [المُخْلِصِين] وأخرى باسم المفعول [المُخْلَصِين]، فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتيًا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص، ووروده باسم المفعول يدل على أنه تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه لحضرته، وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهًا عما أضافوه إليه.
- وأما بيان أن إبليس أقر بطهارته، فلأنه قال:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين؛ لقوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فكان هذا إقرارًا من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريقة الهدى، وعند هذا نقول لهؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله تعالى: فليتقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته، ولعلهم يقولون: كنا في أول الأمر تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه فزدنا عليه في السفاهة.
كما قال الخوارزمي:
وكنت امرءًا من جند إبليس فارتقى
…
بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أُحْسِنُ بعده
…
طرائقَ فسق ليس يحسنها بعد
فثبتت بهذه الدلائل أن يوسف عليه السلام برئ عما يقوله الجهال (1).
الدليل الخامس: أن الله تعالى لم يذكر عنه توبة:
أن يقال إن الله تعالى لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنبًا إلا ذكر توبته منه. . . كما ذكر قصة آدم، وموسى، وداود، وغيرهم من الأنبياء. . . ويوسف عليه السلام لم يذكر الله تعالى عنه في
(1) التفسير الكبير للرازي (18/ 116، 117)، أضواء البيان (3/ 49، 51).
القرآن أنه فعل مع الرأة ما يتوب منه، أو يستغفر منه أصلًا، وقد اتفق الناس على أنه لم تقع منه الفاحشة، ولكن بعض الناس يذكر أنه وقع منه بعض مقدماتها، مثل ما يقولون أنه حل السراويل وقعد منها مقعد الخاتن ونحو هذا، وما ينقلونه في ذلك ليس هو عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مستندَ لهم فيه إلا النقلُ عن بعض أهل الكتاب، وقد عرف كلام اليهود في الأنبياء وغضهم منهم كما قالوا في سليمان ما قالوا، وفي داود ما قالوا، فلو لم يكن معنا ما يرد نقلهم لم نصدقهم فيما لم نعلم صدقهم فيه، فكيف نصدقهم فيما قد دل القرآن على خلافه؟ !
والقرآن قد أخبر عن يوسف من الاستعصام والتقوى والصبر في هذه القضية ما لم يذكر عن أحد نظيره، فلو كان يوسف قد أذنب لكان إما مصرًّا وإما تائبًا، والإصرار ممتنع، فتعين أن يكون تائبًا، والله لم يذكر عنه توبة في هذا ولا استغفارًا كما ذكر عن غيره من الأنبياء، فدلك ذلك على أن ما فعله يوسف كان من الحسنات المبرورة، والمساعي المشكورة، كما أخبر الله عنه بقوله تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (1).
الدليل السادس: أن الزنا من منكرات الكبائر، والخيانة في معرض الأمانة أيضًا من منكرات الذنوب، وأيضًا مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة التامة والعار الشديد أيضًا من منكرات الذنوب، وأيضا الصبي إذا تربى في حضن إنسان وبقي مكفيَ المؤنة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكمال قوته - فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المعظم من منكرات الأعمال، إذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام كانت موصوفة بجميع هذه الجهات الأربع، ومثل هذه المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (15/ 147: 149) بتصرف، تفسير الرازي (18/ 116).