الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السادس: تعظيمه بالوصف الكامل دون الاسم نحو: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ} [النور: 22]، {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة: 40] والمراد الصديق في الكل.
السابع: تحقيره بالوصف الناقص نحو: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3].
واعلم أن علم المبهمات مرجعه النقل المحض لا مجال للرأي فيه.
فمن خلال هذا الأصل نتبين لماذا لم يسم القرآن الكريم اسم القرية أو الرجل الذي مر عليها؟ ، وستأتي أقوال العلماء في ذلك. (1)
الوجه الثالث: أقوال علماء الإسلام في اسم المار واسم القرية وترجيح الصحيح
.
اختلف علماء الإسلام في اسم المار على القرية، واسم القرية أيضًا وهذا شيء بدهي أن يقع بينهم الاختلاف في مثل هذا الشيء لعدم ورود النص القاطع عن المعصوم صلى الله عليه وسلم في تعيينه، وإليك هذه الأقوال مشفوعة بحجج كل قول ومن قال به ثم الترجيح، والله المستعان.
أولًا: اسم المار وفيه قولان:
الأول: أنه مؤمن واختلفوا في تعيينه على قولين:
الأول: أنه عزير.
وقال بهذا القول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (2)
والثاني: أنه أرمياء.
وقال بهذا القول وهب بن منبه. (3)
وحجة من قال: إنه كان مؤمنًا وكان نبيًا وجوه:
الأول: أن قوله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} يدل على أنه كان عالمًا بالله، وعلى أنه
(1) الإتقان للسيوطي (2/ 282)، وهو مختصر من البرهان للزركشي (1/ 202).
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 310)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين.
(3)
أخرجه عنه الطبري في تفسيره (5/ 440/ رقم 5892) بإسناد جيد، ومجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير أخرجه عنه الطبري (5/ 441/ 5895) بإسناد حسن.
كان عالمًا بأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة؛ لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء إنما يصح أن لو حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة، فأما من يعتقد أن القدرة على الإحياء ممتنعة لم يبق لهذا التخصيص فائدة.
الثاني: أن قوله: {كَمْ لَبِثْتَ} لا بد له من قائل، والمذكور السابق هو الله تعالى؛ فصار التقدير: قال الله تعالى: {كَمْ لَبِثْتَ} فقال ذلك الإنسان: {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} فقال الله تعالى: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} ومما يؤكد أن قائل هذا القول هو الله تعالى قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} ومن المعلوم أن القادر على جعله آية للناس هو الله تعالى، ثم قال:{وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} ولا شك أن قائل هذا القول هو الله تعالى؛ فثبت أن هذه الآية دالة من هذه الوجوه الكثيرة على أنه تكلم معه، ومعلوم أن هذا لا يليق بحال هذا الكافر.
فإن قيل: لعله تعالى بعث إليه رسولًا أو ملكًا حتى قال له هذا القول عن الله تعالى.
قلنا: ظاهر هذا الكلام يدل على أن قائل هذه الأقوال معه هو الله تعالى، فصرف اللفظ عن هذا الظاهر إلى المجاز من غير دليل يوجبه غير جائز.
الثالث: أن إعادته حيًا وإبقاء الطعام والشراب على حالهما، وإعادة الحمار حيًا بعد ما صار رميمًا مع كونه مشاهدًا لإعادة أجزاء الحمار إلى التركيب وإلى الحياة إكرام عظيم وتشريف كريم، وذلك لا يليق بحال الكافر له.
الرابع: أنه تعالى قال في حق هذا الشخص: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} وهذا اللفظ إنما يستعمل في حق الأنبياء والرسل قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] فكان هذا وعدًا من الله تعالى بأنه يجعله نبيًا، وأيضًا فهذا الكلام لم يدل على النبوّة بصريحه فلا شك أنه يفيد التشريف العظيم، وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر وعلى الشك في قدرة الله تعالى.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من جعله آية أن من عرفه من الناس شابًا كاملًا إذا شاهدوه بعد مائة سنة على شبابه وقد شاخوا أو هرموا، أو سمعوا بالخبر أنه كان مات منذ زمان وقد عاد شابًا صح أن يقال لأجل ذلك إنه آية للناس؛ لأنهم يعتبرون بذلك ويعرفون به قدرة الله تعالى، ونبوّة نبي ذلك الزمان؟
والجواب من وجهين:
الأول: أن قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً} إخبار عن أنه تعالى يجعله آية، وهذا الاخبار إنما وقع بعد أن أحياه الله، وتكلم معه، والمجعول لا يجعل ثانيًا، فوجب حمل قوله:{وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} على أمر زائد عن هذا الإحياء، وأنتم تحملونه على نفس هذا الإحياء فكان باطلًا.
والثاني: أن وجه التمسك أن قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} يدل على التشريف العظيم، وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى.
الخامس: مما روي عن ابن عباس رضي الله عنه في سبب نزول الآية قال: إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثيرين، ومنهم عزير وكان من علمائهم، فجاء بهم إلى بابل، فدخل عزير يومًا تلك القرية ونزل تحت شجرة وهو على حمار، فربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحدًا فعجب من ذلك وقال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} لا على سبيل الشك في القدرة؛ بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة، وكانت الأشجار مثمرة، فتناول من الفاكهة التين والعنب، وشرب من عصير العنب ونام، فأماته الله تعالى في منامه مائة عام وهو شاب، ثم أعمى عن موته أيضًا الإنس والسباع والطير، ثم أحياه الله تعالى بعد المائة ونودي من السماء: يا عزير {كَمْ لَبِثْتَ} بعد الموت؟ فقال: {يَوْمًا} فأبصر من الشمس بقية فقال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} فقال الله تعالى: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} من التين والعنب وشرابك من العصير لم يتغير طعمهما، فنظر فإذا التين والعنب كما
شاهدهما ثم قال: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله، وسمع صوتًا أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحًا فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض، ثم التصق كل عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ثم جاء الرأس إلى مكانه ثم العصب والعروق ثم أنبت طراء اللحم عليه، ثم انبسط الجلد عليه، ثم خرجت الشعور عن الجلد، ثم نفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق فخر عزير ساجدًّا، وقال:{أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم: حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرخياء مات ببابل، وقد كان بختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفًا ممن قرأ التوراة وكان فيهم عزير، والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة، وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفًا، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاه فما اختلفا في حرف، فعند ذلك قالوا: عزير بن الله، وهذه الرواية مشهورة فيما بين الناس، وذلك يدل على أن ذلك المار كان نبيًا. (وهذا من الإسرائيليات)(1).
ورد آخرون هذا القول ومنهم ابن القيم رحمه الله فقال:
ويظن بعض الناس أن عزيرًا هو الذي مر على قرية وهىِ خاوية على عروشها، قال: أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه، ويقول: إنه نبي، ولا دليل على هاتين المقدمتين ويجب التثبت في ذلك نفيًا وإثباتًا (2).
والثاني: أنه رجل كافر شك في البعث، وحجة هذا القول وجوه:
الأول: أن الله حكى عنه أنه قال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} وهذا كلام من يستبعد من الله الإحياء بعد الإماتة، وذلك كفر.
فإن قيل: يجوز أن ذلك وقع منه قبل البلوغ.
(1) تفسير الرازي (7/ 26 - 28) بتصرف.
(2)
هداية الحيارى (1/ 213) بتصرف يسير.
قلنا: لو كان كذلك لم يجز من الله تعالى أن يعجب رسوله منه؛ إذ الصبي لا يتعجب من شكه في مثل ذلك، وهذه الحجة ضعيفة لاحتمال أن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشك في قدرة الله تعالى على ذلك؛ بل كان بسبب اطراد العادات في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معمورًا، وهذا كما أن الواحد منا يشير إلى جبل، فيقول: متى يقلبه الله ذهبًا، أو ياقوتًا؟ لا أن مراده منه الشك في قدرة الله تعالى؛ بل على أن مراده منه أن ذلك لا يقع ولا يحصل في مطرد العادات، فكذا ها هنا.
الثاني: قالوا: إنه تعالى قال في حقه: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} وهذا يدل على أنه قبل ذلك لم يكن ذلك التبين حاصلًا له، وهذا أيضًا ضعيف؛ لأن تبين الإحياء على سبيل المشاهدة ما كان حاصلًا له قبل ذلك، فأما إن تبين ذلك على سبيل الاستدلال ما كان حاصلًا فهو ممنوع.
الثالث: أول قال: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذا يدل على أن هذا العالم إنما حصل له في ذلك الوقت، وأنه كان خاليًا عن مثل ذلك العلم قبل ذلك الوقت، وهذا أيضًا ضعيف؛ لأن تلك المشاهدة لا شك أنها أفادت نوع توكيد وطمأنينة ووثوق، وذلك القدر من التأكيد إنما حصل في ذلك الوقت، وهذا لا يدل على أن أصل العلم ما كان حاصلًا قبل ذلك.
الرابع: أنه انتظم مع نمروذ في سلك واحد وهو ضعيف أيضًا؛ لأن قبله وإن كان قصة نمروذ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم، فوجب أن يكون نبيًا من جنس إبراهيم، (وأيضًا مما يؤيد ذلك ما بين قصته وقصة إبراهيم الآتية بعد من التناسب المعنوي، فإنَّ كليهما طلبا معاينة الإحياء مع أن ما جرى له في القصة مما يبعد أن يجري مع كافر، وإذا انضم إلى ذلك تحريه الظاهر في الاحتراز عن الكذب في القول الصادر قبل التبيين الموجب لإيمانه على زعم من يدعي كفره قوى المعارض جدًّا)(1).
وبعد عرض هذه الأقوال وذكر حجج كل لا نستطيع الجزم بترجيح واحد منها على
(1) أفاد هذه الزيادة الآلوسي في روح المعاني (2/ 21)، ورجح صاحب المنار أنه ليس كافرًا (3/ 41)، ذكر هذه الوجوه كلها الرازي في تفسيره (7/ 26)، وانظر الكشاف (1/ 334).
الآخر، والسبب معروف ولطالما كررناه أننا لا نستطيع قول شيء بغير بينة ودليل وخاصة في الأمور الغيبية.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أن الله - تعالى ذكره - عجَّب نبيه صلى الله عليه وسلم ممن قال - إذ رأى قرية خاوية على عروشها - "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قِبَلِهِ البيان على اسم قائل ذلك. وجائز أن يكون ذلك عزيرًا، وجائز أن يكون أورميا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه؛ إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت - من قريش، ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب - وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم على ما يزيل شكهم في نبوته، ويقطع عذرهم في رسالته، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه، من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه منهم؛ بل كان أميا وقومه أميون، فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجَرِه، أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه. ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك، لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبًا يقطع العذر ويزيل الشك، ولكن القصد كان إلى ذم قِيله، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه. (1)
قلت: ما أحسن هذا الكلام وأجمله وأقطعه لكل اعتراض وشبهة.
ثانيًا: اسم القرية، وفيها قولان:
الأول: أنها بيت المقدس لما خربه بختنصر، وهو المشهور.
(1) الطبري (5/ 441).