الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الرابع: فقه التعامل مع المعتدين.
الوجه الخامس: مراعاة الشريعة لاختلاف أحوال المعتدى عليهم.
الوجه السادس: القصاص في الكتاب المقدس.
الوجه السابع: وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله.
وإليك التفصيل
الوجه الأول: المراد بقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
.
إن من أساسات فهم أو دراسة أي كلام أو كتاب أن يهتم بالسياق الذي يأتي فيه الكلام حتى يفهم مراد قائله، فلا ننسب إليه شيئًا ما أراده، ولكن سبب هذا أننا فهمنا بعض كلامه بمعزل عن البعض الآخر، وإذا كنا نحرص على أن لا ننسب إلى أحد من الخلق شيئًا لم يُرده أو معنىً لم يُشر إليه، فمن باب أولى أن يقال ذلك في حق كلام رب العالمين، فالآية وردت في سياق ينبغي أن تفهم في إطاره وهو: يقول الله تعالى في الآيات السابقة لهذه الآية: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} ثم قال: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)} [البقرة: 190 - 194] فالآيات كما ترون جاءت في معرض الحديث عن قتال الكفار المعتدين، وبيان كيفية مواجهة اعتدائهم بدون ظلم، وبالنظر إلى الآية في هذا السياق تجد أن قوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} نظيرُ قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] وأن معناه: فمن اعتدى عليكم في الحَرم فقاتَلكم فاعتدوا عليه بالقتال
نحو اعتدائه عليكم بقتاله إياكم؛ لأني قد جعلتُ الحُرمات قصاصًا، فمن استحلَّ منكم أيها المؤمنون من المشركين حُرْمةً في حَرَمي، فاستحلوا منه مثله فيه (1).
ويبدو أن عدم فهم المراد بقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} والنظر إليه مجردًا كما أسلفت هو الذي سبب هذا الفهم الخاطئ. فكأنهم فهموا أن قوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} أمر من الله بالظلم، فقد يقال: إذا كانت الآيات نزلت لتبين كيف يرد على عدوان المشركين وغيرهم، فلماذا جاء فيها {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} أليس الاعتداء من الظلم؟
نقول وبالله التوفيق: ولا يراد بالاعتداء هنا الظلم، وإنما سمي جزاء الظالمين عدوانًا مشاكلة كقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].
فإن قال قائل: وهل يجوز الاعتداء على الظالم كما جاء في قوله تعالى: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} ؟
فيقال: إن المعنى في ذلك على غير الوجه الذي إليه ذهبتَ، وإنما ذلك على وَجه المجازاة لما كان من المشركين من الاعتداء، يقول: افعلوا بهم مثل الذي فعلوا بكم؛ كما يقال: (إن تَعاطيتَ مني ظلما تعاطيته منك)، والثاني ليس بظلم.
كما قال عمرو بن شأس الأسديّ: (2)
جَزَيْنَا ذَوِى العُدْوَانِ بِالأمْسِ قَرْضَهُمْ
…
قِصَاصًا، سَواءً حَذْوَكَ النَّعْلَ بِالنَّعْلِ.
وهذا يوضح أن من أساليب كلام العرب أسلوب يقال له المشاكلة اللفظية. (3)
إذن سَمَّاه اعْتِداء؛ لأَنه مجُازاةُ اعْتِداءٍ بمثْل اسمه؛ لأَن صورة الفِعْلين واحدةٌ وإِن كان أَحدُهما طاعة والآخر معصية، والعرب تقول: ظَلَمني فلان فظلَمته؛ أَي: جازَيْتُه بظُلْمِه، لا وَجْه للظُّلْمِ أَكثرُ من هذا، والأَوَّلُ ظُلْم والثاني جزاءٌ ليس بظلم؛ وإن وافق اللفظُ اللفظَ
(1) الطبري (3/ 581) بتصرف يسير، والشوكاني في فتح القدير (1/ 252) بتصرف.
(2)
راجع ترجمته في طبقات فحول الشعراء (1/ 26).
(3)
الطبري (3/ 573).