الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللبيب الفطن هل يليق بهذه السورة غير ص وسورة ق غير حرفها؟ وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف والله أعلم (1).
قلت: فظهر بما ذكرنا من الأوجه أن هذه الحروف لها معان تكلم فيها أهل العلم، فليست من الطلاسم ولا من الكلام الذي لا يفهم وبظهور المعنى تظهر الحكمة.
الوجه العاشر: الرد على قولهم: ماذا يفعل الذين يقطنون في أماكن نائية، وليس عندهم مفسرين للغة
؟
والجواب على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أننا لا نسلم بوجود أماكن نائية لدرجة أنه لا يمكنها أن تتصل بأهل العلم أو تسمع منهم، وبخاصة في هذه الأيام التي صار العالم فيها كقرية صغيرة بسبب هذا التقدم العلمي ووسائل الاتصال والنشر الحديثة.
الوجه الثاني: أن هؤلاء الذين هم في الأماكن النائية نقول لهم هل وصلكم القرآن أم لا؟
والظاهر أنه وصلهم؛ لأنهم يسألون عن التفسير، وما دام القرآن وصلهم فإننا نقول لهم: الجهة التي أوصلت إليكم القرآن والإسلام قبل ذلك توصل إليكم ما غمض عنكم من التفسير والأحكام إن شاء الله تعالى.
الوجه الثالث: نحن نسأل هذا المتكلم، أين هذه الأماكن النائية التي انعدمت صلتها بنا ونحن أمام الله مسئولون عن توصيل الدعوة بما تحتاجه إليهم، فما عليكم إلا أن تقولوا لنا أين هذه الأماكن؟
الوجه الرابع: وعلى التسليم بوجود أماكن بهذا الوصف؛ فإما أن يكون بلغها الإسلام أو لا، فإن لم يكن الإسلام بلغهم، ولم يعلموا عنه لا اسمًا ولا رسمًا، فكيف يسألون عن القرآن وعن فهمه؟ وأيضًا ما داموا كذلك وماتوا ولم يصلهم الإسلام؛ فإن الله تعالى قال في محكم كتابه {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} .
(1) بدائع الفوائد (3/ 693)، البرهان في علوم القرآن (1/ 168).
وإن كان الإسلام وصلهم فإما أن يكونوا دخلوا فيه أو لا، فإن لم يكونوا دخلوا في الإسلام، فإن في المحكم الواضح الدلالة من كتاب الله؛ بل في الكون وفي أنفسهم ما يدعوهم إلى الإسلام، فإن دخلوا فيه وأرادوا أن يعرفوا معنى هذه الكلمات فإن هذا باب من أبواب العلم.
لكن هل يجب عليهم ذلك؟ والجواب لا يجب؛ لأن العلم منه ما هو فرض ومنه ما هو فرض كفايه.
قال أبو عمر: قد أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصته بنفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه على أهل ذلك الموضع. واختلفوا في تلخيص ذلك، والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه، نحو: الشهادة باللسان، والإقرار بالقلب بأن الله وحده لا شريك له لا شبه له، ولا مثل، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، خالق كل شيء، وإليه مرجع كل شيء. (1)
قلت: فثبت أن معرفة تفسير هذه الحروف ليس واجبًا متعينًا على جميع الأفراد، وإنما يقوم به البعض بمعرفته؛ لينذر قومه ويزيل عنهم الشبهة.
لكن كيف يتعلم هذا البعض معنى هذه الكلمات؟
والجواب عن ذلك في القرآن حيث قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وكيف يسأل؟
والجواب من وجوه:
1 -
يرحل إلى العلماء.
2 -
أن يدعو العلماء إلى بلادهم.
3 -
المراسلة.
(1) مختصر جامع بيان العلم وفضله (12 - 15).
4 -
القراءة في كتب التفسير.
الوجه الخامس: قال الله تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} وقال الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} هذا الذي يسكن الأماكن النائية، ويحتج له على القرآن بأنه لا يفهم الحروف المقطعة.
وأقول: وهو أيضًا لا يفهم كثيرًا من الأحكام وكثيرًا من الآيات، فهل هذا عيب في الأحكام أو سائر الآيات؟ ! أم أنه يجب عليه أن يطلب العلم بوسائله المشروعة، وأيضًا فإنه يجهل كثيرًا من أمور دنياه ومن الحقائق العلمية ولا يستطيع تفسيرها ولا الوصول إليها. فهل هذا عيب على الحقائق العلمية؟ أم يقال: إن هؤلاء الناس يحتاجون إلى تعلم ودراسة ونحو ذلك. فالذي ينبغي على هؤلاء أن يطلبوا الحق ويقبلوه، وعلامة ذلك أن تكون قاعدتهم في القبول والرد لا على حسب الأهواء.
والرد على قولهم ماذا يفعل غير العرب؟
فجوابه في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} أي سهلناه للحفاظ، وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب علم لحفظه فيعان عليه أو هيأناه للذكر؟
وقال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتابٌ يقرأ كله ظاهرًا إلا القرآن. . . فيسر الله تعالى على هذه الأمة حفظ كتابه ليذَّكَّروا ما فيه، أي يفتعلوا الذكر، والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب فيهم. وقوله {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قارئ يقرؤه، أو فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه؟ (1).
فهذا تنويه بشأن القرآن، وأنه من عند الله، وأن الله يسره وسهله لتذكر الخلق بما تحتاجونه من التذكير مما هو هدي وإرشاد وهذا التيسير ينبئ بعناية الله تعالى به مثل قوله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} تبصرة للمسلمين ليزدادوا إقبالًا على مدارسته وتعريضًا
(1) القرطبي (11/ 130، 131).
للمشركين عسي أن عن صدودهم عنه كما أنبأ عنه قوله {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وتأكيد الخبر باللام وحرف التحقيق مراعي فيه حال المشركين الشاكين في أنه من عند الله، والتيسير إيجاد اليسر في الشيء كقوله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} أو قول كقوله {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} واليسر السهولة وعدم الكلفة في تحصيل المطلوب من شيء.
وإذ كان القرآن كلامًا فمعنى تيسيره يرجع إلى تيسير ما يُراد من الكلام وهو فهم السامع المعاني التي عناها المتكلم به بدون كلفة على السامع ولا إغلاق كما يقولون: يدخل للأذن بلا إذن. وهذا اليسر يحصل من جانب الألفاظ وجانب المعاني؛ فأما من جانب الألفاظ فلذلك بكونها في أعلى درجات فصاحة الكلمات وفصاحة التراكيب، أي فصاحة الكلام، وانتظام مجموعها، بحيث يخف حفظها على الألسنة.
وأما من جانب المعاني، فبوضوح انتزاعها من التراكيب ووفرة ما تحتوي عليه التراكيب منها من مغازي الغرض المسوقة هي له.
هذا وقد فرض الله على علماء القرآن تبيينَه تصريحًا كقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، وتعريضًا كقوله:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} ، فإن هذه الأمة أجدر بهذا الميثاق. وفي الحديث:"ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلُون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلَّا نزلتْ عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده". (1)
قلت: فظهر بهذه الآية أن الله وعد وأخبر أن القرآن ميسر كله لكل أجناس البشر الذين يطلبون الحق ولهذا نرى في الناس من لا يحسن العربية شيًا لكن يقرأ القرآن قراءة صحيحة فسبحان من يسر القرآن للذكر.
فإن قال هذا صعب فالجواب من وجوه:
الأول: أنه تلزمه القراءة هكذا ولا يجوز له أن يترجم القرآن ترجمة حرفية ومن دخل
(1) التحرير والتنوير (27/ 188، 189).