الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد المطلب أن يحفر فى مكان يعيش فيه النمل حيث يأتى غراب فى الصباح وينقر فوق بيت النمل وينكشه. ورغم هذا لم يستطع عبد المطلب أن يهتدى إلى المقصود من هذا الرمز والإشارة ثم وصاه بأن يبدأ فى الحفر مسترشدا بهذه الأقوال إذ قال له بعد ليلة «زمزم وما زمزم هزمه جبريل برجله وسقياء إسماعيل وأهله زمزم البركات روى الرماق الواردات شفاء سقم وخير طعام» ،وفى الليلة التالية قال «احفر تكتم بين الفرث والدم وعند نقر الأعصم وفى قرية النمل مستقبل الأصنام الأحمر» تكتم اسم من أسماء زمزم المكرم بمعنى «مكتوم» كما سيبين فيما بعد.
الغراب الأعصم:
يطلق على غراب إحدى رجليه حمراء على قول ابن شيبه. وبناء على رأى حاكم يطلق على غراب أحمر الرجلين والمنقار، وبناء على قول صاحب الإحياء يطلق على غراب بطنه بيضاء، وبناء على تدقيق صاحب حياة الحيوان يطلق على غراب أبيض الجناحين أو أبيض الرجلين أو يطلق على غراب أبرش.
على بن أبى طالب-رضى الله عنه-بناء على القول الموثوق الذى يروى عن على بن أبى طالب بن عبد المطلب عند ما رأى الرؤيا السابقة الذكر، غشيته الرهبة والدهشة وتحير فيما يفعله، ولم يستطع أن يبدأ فى حفر البئر، وبعد فترة رأى عبد المطلب فى رؤياه أن شخصا يقول له «أحفر بئر طيبة. وبعد ليلة يقول له احفر بئر مضنونة وعمقها وفى ليلة أخرى بعد أن ذكر الفقرات السابقة المسجوعة عرفه بموقع البئر وبين بعض خواصها؟ ولكن عبد المطلب لم يستطع أن يفهم معنى هذه العبارات المبهمة وراح فى تفكير عميق. وفى ليلة من الليالى استغرق فى النوم ورأسه مشغول بهذه الأفكار فى حجر إسماعيل. وإذا به رأى فى منامه أن هذا الرجل المبارك يقول له: «هل تعرف معنى زمزم، زمزم بئر الماء الذى فجره جبريل عليه السلام بضربة من رجله وهو اسم ماء إسماعيل-عليه السلام وأتباعه. وهو البركة ذاتها وإنه يروى العطاش الذين يردون للشرب ويشفى
المرضى، وهو أنفس أنواع الطعام، وبهذا الإيضاح وضح شأن بئر زمزم وخواص مائها».
عبد المطلب-عرف عبد المطلب بدلالة هذه الرؤيا معنى زمزم لدرجة ما؟ ولكنه لم يستطع أن يعرف موقعه بالضبط.
لذا توجه إلى الله-سبحانه وتعالى-متضرعا مبتهلا قائلا: «يا ربى العليم ومولاى الكريم، دلنى على موقع البئر الذى كلفت بحفره. وقد أصاب سهم دعاته هدفه ونال قبولا إذ رأى فى رؤياه من يقول له: يا عبد المطلب احفر بئر زمزم وإذا أردت أن تعرف مكانها فإنها بين صنمى «إساف» و «نائلة» ،حيث يذبح فيه القرشيون قرابينهم وفوق بيت نمل. وغدا سيأتى غراب أبرش وينبش بمنقاره فضع علامة حيث ينبش ثم عجل بحفر وتعميق المكان الذى فيه بيت النمل فتنال مطلبك».
وهكذا وضحت الرؤيا الأمر، ولم يبق أدنى شك فى مكان زمزم، واستيقظ عبد المطلب من نومه واتجه صوب المسجد الحرام ورأى الغراب ينبش ما بين إساف ونائلة فى وقت السحر، وذهب هناك حيث وجد بيت النمل وبدأ مع ابنه الحفر فى هذا المكان ومعه أدوات الحفر مثل الفأس والمجرفة.
حينما رأى أفراد قبيلة قريش أن عبد المطلب يحفر المكان المذكور شاع الخبر سريعا فيما بينهم وهجموا على عبد المطلب قائلين:
لم يكن لعبد المطلب حينذاك أبناء غير الحارث وقد رأى أنه لن يستطيع أن يقاوم القرشيين مع ابنه، لذا ترك مقاومتهم واتجه إلى الله-سبحانه وتعالى مخلصا يائسا «يا إلهى، إذا ما نصرتنى على قريش وأبلغت عدد أولادى إلى عشرة فإننى أفدى واحدا منهم قربانا لك» وكان هذا نذر منه.
وبظهور بعض العلامات أدرك عبد المطلب أن دعاءه قد حاز القبول فتوكل على الله وقام بأداء ما كلف به، وغلب هو وابنه الوحيد كل قبائل قريش وكفت القبائل المعتدية يدها عنه ووقفوا فى موقف المشاهدة والتفرج.
وفى اليوم الثالث عند ما ظهرت العلامات التى تشير إلى وجود بئر زمزم مثل
(1)
الأسلحة وتماثيل صغار الغزلان
(2)
التى ألقاها الجراهمة فى بئر زمزم، عند ما أجبروا على ترك مكة المكرمة والجلاء عنها، عندئذ قال عبد المطلب:«إن كل هذه الأشياء لدليل كاف للإثبات أن بئر زمزم فى هذا المكان» ومن فرط سروره أخذ يكبر بصوت مرتفع.
عند ما سمع القرشيون تكبير عبد المطلب اجتمعوا كلهم حوله وأدركوا أنه نال مراده ورأوا الأشياء القيمة التى أخرجها من البئر فطمعوا فيها وظهرت عليهم بوادر النزاع والخصومة وقالوا «يا عبد المطلب إن لنا نصيبا فى الأشياء التى أخرجتها من داخل البئر» .
لأن البئر بئر جدنا إسماعيل-عليه السلام-وهذا يوجب تقسيم ما وجدته بين أفراد قبائل قريش فقال لهم لاحق لكم فى هذه الدفينة لأنكم لم تساعدونى فى حفر البئر بل أردتم منعى من الحفر مما أدى إلى إراقة الدماء، ولكنهم اعترضوا عليه مهددين بتجدد النزاع وقالوا:«إذا رفضت إشراكنا فى المال كله فعلى الأقل نقسمه مناصفة بينك وبين القبائل، فإذا رفضت هذا الحل أيضا فإننا نقاتلك من جديد» .
ولما رأى عبد المطلب أن المعارضة قد استفحلت وأنها قد تؤدى إلى قتل بعض الأشخاص، خاطب الذين استمروا فى الضغط عليه «عليكم أن تختاروا حكما نافذ الكلمة ليفصل بيننا فى هذا الأمر» وقد ارتضت قريش هذا الرأى الصائب وقرروا اللجوء إلى كاهنة قبيلة «بنى سعد بن هذيم» التى تسكن قريبا من بلاد
(1)
عند ما ألقى الجراهمة هذه الأشياء الثمينة فى بئر زمزم ألقوها ليخفوها عن أعدائهم ثم سدوها بالحجارة والتراب حتى يجبروا أعداءهم على ترك المكان تحت وطأة العطش.
(2)
صغار الغزلان هذه كانت مصنوعة من الذهب الخالص ومرصعة بأنواع الجواهر.
الشام العامرة لتحكم بينهم، وخرجوا جميعا للذهاب إلى حيث تقيم الكاهنة المشار إليها، ولما كانت منطقة الحجاز فى ذلك الوقت خالية من الطرق المنتظمة وليس بها قرى متقاربة أو عيون ماء أو آبار ممرات ضيقة لدفع الوحشة. ولا شك أن السير فى مثل هذه الطرق أمر مخيف، كما أن السير فى تلك الصحارى الخالية من المياه من الصعوبة بمكان، لذا حمل عبد المطلب ومن معه من صناديد قبيلة قريش ما يحتاجون إليه من أطعمة ومال يكفيهم إلى أن يصلوا إلى حدود الشام.
وعند ما ابتعدوا عن مكة ووصلوا إلى واد موحش عديم الماء نفد الماد الذى كان مع عبد المطلب وفئته وأوشكوا على الهلاك، وبعد أن احترقت أكبادهم من العطش. وطلبوا بعض الماء من خصومهم حتى ينجو من هذه المصيبة العظيمة، ولكنهم رفضوا قائلين: «نحن الآن فى واد تنعدم فيه فرصة العثور على نقطة ماء فإذا ما أعطينا لكم الماء فإننا سنتعرض للعطش الذى تعرضتم له كما أن الماء الذى معنا قليل يكاد أن يكفينا وهذا عذر مقنع فى عدم إمدادكم. فزادت حيرة عبد المطلب وجماعته وقلقهم عند ما تلقوا هذا الرد.
وعند ما رأى عبد المطلب هذا الجحود والإساءة من معارضيه سأل من معه مستطلعا رأيهم «ما رأيكم فى هذا الأمر؟! فقالوا نحن طوع أمرك، ننفذ ما تراه.
عندئذ قال: «رأيى أن يحفر كل واحد منكم قبرا لنفسه فى انتظار الموت، ومن يموت أولا يدفنه الذى ما زال على قيد الحياة، فإذا دفن كل من يموت يبقى فى النهاية جثمان شخص واحد بدون دفن والأفضل أن يبقى جثمان واحد فقط بدون دفن من أن تبقى أجسادنا جميعا فى العراء مكشوفة فليحفر كل واحد منكم قبرا طالما فيه القدرة على الحفر. وافق رفاقه على رأيه وحفر كل واحد منهم قبرا لنفسه وانتظر حلول أجله.
وبعد مدة قال عبد المطلب: «يا رفاقى-إن حفر قبر انتظارا للموت شئ عجيب لم يحدث منذ عهد آدم-عليه السلام-ويدل على عجزنا وضعف هممنا، فإذا قمنا وسرنا ربما يكتب الله لنا النجاة بأن نصل إلى بلدة أو قرية ويبعث لنا ماء
الحياة برحمته، هيا انهضوا لتستمروا فى الطريق سنستعين بالله تعالى»،وبتأثير هذه الكلمات المشجعة التى كانت كالماء الزلال، انبعث فى أبدان أصدقائه الذين كادوا أن يهلكوا قوة كافية، وجهز كل واحد منهم دابته للسير.
أما رجال القبائل المعارضة كانوا يراقبون حركاتهم متيقظين مبتهجين وهم يرون المصيبة الشديدة التى تعرض لها عبد المطلب وأصحابه بسبب قلة الماء ويتحدثون فى استهزاء.
وعند ما امتطى عبد المطلب جواده وأراد أن يستمر فى السير تفجر من تحت قدمى دابته التى تحركت للسير ماء عذب سائغ ولما رأى عبد المطلب وأنصاره هذه النعمة غير المنتظرة فرحوا فرحا شديدا بالماء وكبروا كلهم فى صوت واحد ونزلوا عن جيادهم وشربوا الماء مكبرين حتى ارتووا وملئوا جرارهم، وقربهم ودعوا معارضيهم الذين كانوا قالوا لهم، إننا نرفض أن نعطيكم شربة ماء وقالوا لهم، إن الله-سبحانه وتعالى-قد سقانا وأحيانا بظهور هذا الماء وهو يكفى لنا ولكم اشربوا كما تشاءون واملئوا قربكم، ربما لا نتمكن من العثور على الماء فى المسافة الباقية من الطريق.
وتحير القرشيون مما ناله عبد المطلب من نعمة غير مرتقبة واستغربوا ثم تذكروا موقفهم منه وإساءتهم إليه بمنع الماء عنه فعلاهم الخجل واستحيوا وقالوا لعبد المطلب لقد فصل الله فى قضيتنا بظهور هذا الماء لم يعد لنا حق المعارضة فى ماء زمزم.
وما دام الله الوهاب الذى لا يمن عليه-جل شأنه-قد من عليك بإظهار هذا الماء وأنقذك من العطش فلا شك أنه قد أنعم عليك بزمزم المكرم والأشياء القيمة التى ظهرت فى بئر زمزم.
فكل هذه الأشياء حقك الحلال فتصرف فيها كما تشاء، ولم تعد هناك حاجة إلى حكم الكاهنة. ثم رجعوا جميعا بعد ما أقنعوا عبد المطلب بالعودة.
سعد عبد المطلب مما أظهره أفراد القبائل المختلفة من احترام وندموا على ما بدر منهم، لذا دعاهم كلهم بمجرد عودته إلى مكة المعظمة وخطب فيهم قائلا:
«إذا كان لا حق لكم فى الأشياء الثمينة التى أخرجت من بئر زمزم بسبب معارضتكم لى فإننى بما أتصف به من مروءة وشهامة أود أن يكون لكم نصيب منها فلتقسم هذه الأشياء إلى قسمين» وتسحب القرعة، وكل من تصيبه القرعة تكون هذه الأشياء من نصيبه.
وعقب قوله هذا، جعل صغار الغزلان حصة، وبقية الأشياء حصة أخرى وأجرى القرعة بين قريش والبيت الأعظم وبينه فخرجت الغزلان من نصيب الكعبة وبقية الأشياء من نصيب عبد المطلب ولحكمة ما خرج القرشيون صفر اليدين من هذه القرعة، وقد باع عبد المطلب نصيبه من هذه الأشياء وأنفق ثمنها على أعمال الكعبة، وفى قول آخر أنه صهر الغزلان وزين باب المعلا من الكعبة، وفى قول ثالث إنها ظلت كما هى وعلقها على باب الكعبة الشريفة».
وعند ما خرج القرشيون من القرعة بلا نصيب فلم يسعهم إلا أن يتفرقوا وأن يقفوا موقف المتفرج، ولما فهموا أنه لم يعد لهم من الأمر شئ تغاضوا تماما عن منازعة عبد المطلب حول بئر زمزم.
ورأى عبد المطلب أن الأمور هدأت واستمر فى تعميق البئر على النحو الذى يريده، ونجح فى إظهار ماء زمزم العذب الذى قد اختفى منذ خمسمائة سنة وبما أن الناس والحجاج والأهالى يلقون مشقة إحضار الماء من الآبار البعيدة ويتكبدون فى سبيل ذلك مشقات بالغة زادت مكانته وقدره بين الناس. مما حمله على أن يرفع يديه بالشكر لله-سبحانه وتعالى-من فرط سعادته وفخره ونذر نذرا بقوله «يا رب لو أنعمت على بعشرة من الأبناء الذكور وبلغوا جميعا مبلغ الرجال فى حياتى لأذبحن أحدهم قربانا وفداء لك وعند ما بلغ عدد أبنائه عشرا، أو فى بنذره على النحو المذكور في الصورة الثانية من الوجهة الثانية.
ويدعى بعض المؤرخين أن نذر عبد المطلب كان عند ما عارضته قريش فى حفر البئر، والبعض الآخر يقول إنه كان فى أثناء ظهور ماء زمزم.