الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيضا قد تضرروا ضررا شديدا، وفهم جيدا أن عودة عبد الله بن الزبير بمدد قليل من الجنود سيؤدي إلى انتصارهم لذا كتب الحجاج إلى عبد الملك ينبئه بأنه قد انتصر على عبد الله بن الزبير، إلا أن عساكره أيضا قد ضعفوا أشد الضعف وطلب منه أن يبعث له بمدد حتى ينتصر على عبد الله، فما كان من عبد الملك إلا ابتدأ بإرسال المدد.
واستصحب الحجاج القوة الاحتياطي التي أرسلت له من الشام، وعجل بحصار مكة المكرمة قبل أن يجمع ابن الزبير القوة اللازمة.
وانتوى ألا يقارب النساء وألا يتعطر وألا يترك السلاح قبل أن يقتل عبد الله ابن الزبير، وبناء على هذه النية نصب المنجنيق فوق قمم جبل أبى قبيس في السنة الثانية والسبعين من الهجرة، وضيق على أهل مكة الخناق حتى أصبح من المستحيل الدخول إلى أرض المطاف من جراء تساقط الأحجار.
وقد وجد في هذه الفترة عبد الله بن عمر-رضي الله عنه-في مكة المكرمة بنية الحج وقد تأثر من هذه الحرب أشد التأثر، وأرسل إلى الحجاج الظالم يقول له:«يا حجاج إذا كنت تخاف من الله، فلا تلق الحجارة على المسجد الحرام. إن موسم الحج من الشهور المحرمة، قد اندهش الصلحاء من الأمة الذين أتوا لأداء فريضة الحج من هذه الوقعة، وقد أصبح من المستحيل الدخول إلى ساحة المطاف من جراء الحجارة التي تلقيها، على الأقل اترك الحرب والقتال إلى ما بعد العيد حتى يسقط عن الناس فريضة الحج» ،وبناء على هذا الطلب كف الحجاج عن الحرب والقتال، وأرجأهما إلى ما بعد انتهاء الحجاج من أداء نسكهم، وطلب من الحجاج أن يعودوا إلى بلادهم في الوقت الذي حدده، ثم شرع في الحرب مرة أخرى. وأهان كعبة الله بما أمطر عليها من الحجارة.
حادثة غريبة:
بينما ابتدر الحجاج الغادر في إلقاء الحجارة على الساحة السعيدة الحرام ظهرت على وجه السماء سحابة سوداء مظلمة، وقد غطى الأقطار الحجازية ظلام دامس
وسمعت أصوات الرعد والبرق، واستولى على قلوب المخالفين الخوف والخشية.
وحينما رأى حشرات الأعداء هذه العلامات المخيفة تركوا ميدان القتال وأخذوا يبحثون عن مكان يختبئون فيه. ولكن الحجاج المهين للدين خاطب جنوده قائلا: ما الدافع لخوفكم وقلقكم؟ حتى هرب كل واحد منكم إلى جهة إذا كنتم خفتم من أصوات الرعد والبرق فإن هذه ليست أشياء تدعو للقلق والخوف، إنني نموت في هذه البلاد ولا تنقطع الصواعق والبرق منها، قال هذا ثم ذهب بنفسه إلى المنجنيق وتجرأ على أن يلقي الحجارة صوب كعبة الله من البقعة المقدسة.
وينقل من المصادر الموثوقة أنه حينما أخذت أستار كعبة الله تحترق متوهجة من جراء الأحجار المحترقة التي أمر الحجاج بإلقائها على الكعبة الشريفة، ظهرت سحابة من ناحية جدة ذات صواعق، وبروق أخافت جند الشام، وتقدمت هذه السحابة حتى وقفت فوق سقف بيت الله وأخذت تمطر بشدة حتى أطفأت أماكن كعبة الله المحترقة. إن السحابة المذكورة كانت فوق سقف بيت الله فقط،ولم تقع قطرة من المطر خارج المسجد الحرام وخارج المطاف، ومع هذا سالت سيول شديدة من الميزاب الذهبي ساعات وساعات، سيول قد تجرف الإنسان.
وفي أثناء ذلك أصابت الصاعقة المنجنيق الذي نصبه الحجاج الظالم فوق جبل أبى قبيس وأحرقته مع أربعة من جنود الشام، فأعد الحجاج منجنيقا آخر وكلف أربعين نفرا من الجنود بإلقاء الحجر وكان جزاؤهم أن أحرقتهم الصاعقة الثانية فهبطت أرواحهم إلى جهنم وبئس القرار.
وهذا الحال لم يجعل الحجاج ينتبه ويندم على كل ما حدث بل ثار وغضب وهدد جنوده وبهذا اشتد القتال ونسى جنود الشام ما حدث.
وبعد هذه الحادثة الغريبة أصيب اثنا عشر نفرا من جنود الشام وهلكوا.
وسفاكو الدماء الذين رأوا هذا انزعجوا بشدة، وأخذ جنود الشام يهربون من
جانب المنجنيق وقد أصابهم الفزع، إلا أن موت بعض أهل مكة بالصواعق أيضا أعطى فرصة للحجاج الظالم أن يخاطب جنوده. قائلا: الحق معكم وليس مع أهل مكة إن العلامات المهيبة الخاصة بأراضي الحجاز زالت فاصبروا قليلا.
وقد أدى خطاب الحجاج هذا إلى اشتداد القتال، ومد الصراع وزاد القحط والغلاء في مكة مما جعل المكيين يسأمون من أرواحهم، فالتجأ أغلبهم إلى الحجاج طالبين الأمان وترك بعضهم عبد الله بن الزبير متجهين إلى المدينة المنورة.
ولم يكن أهل مكة فقط ممن تخلوا عن عبد الله بن الزبير في محنته، ولكن ابنيه حمزة وحبيب وهما من صلبه تخليا عنه، ولجأ كلاهما إلى السفاح الحجاج مبايعين وتركا والدهما بمفرده؛ ولكن ابنه المسمى بالزبير ظل في عون أبيه ولم يفترق عنه.
وذهب عبد الله بن الزبير إلى أمه إذ رأى أصحابه قد افترقوا من حوله كفرخ الحجل، وقابل والدته ذات النطاقين وقال لها: يا أماه إن أتباعي الذين كانونا معي خانوني كما خان أهالى الكوفة أتباع الحسين بن على-رضي الله عنه-سيدهم.
ومع هذا ظل أولاده بجانبه، ولكن أولادي قد خانوني إذ انضموا إلى الحجاج مبايعين وتركوني بمفردي، إن ذلك الظالم الذي لا يستحيي يبعث لي رسائل واحدة تلو أخرى قائلا: إذا تركت مخالفتي أقبل جميع مطالبك.
فما رأيك في هذا الخصوص فقالت له: يا بني لا يليق بك بعد كل هذه الحروب أن تسلم نفسك إلى يدي بني أمية. إنك رجل مسن، كم سيطول عمرك؟ وخير لك أن تستشهد ببطولة من أن تعيش في صحراء المذلة والاحتفار، فلما سمع منها هذا الرد ودعها، وقضى ليله حتى الصباح في داخل الكعبة متعبدا متضرعا وبعد ما أدى صلاة الفجر أخذ معه بعض الفتيان الذين قرب أجلهم، وأخذ يقاتل ويهلك في كل هجمة عدو الله وهكذا أخرج جند الشام الموجودين في داخل المسجد الحرام ثم خرج من باب الصفا واتجه صوب جبل أبي قبيس.
وبينما كان عبد الله متجها إلى جبل أبي قبيس تبعه أحد أنجاس الشام، ورماه بيده الحقيرة بحجارة وأوقع ذلك البطل أسد الوغى على الأرض، كما تقدم أحد الأنجاس المنكرين وقطع تاج الرءوس ومضى به إلى الحجاج الظالم.
قد سر الحجاج قليل الأدب أيما سرور وسجد شاكرا حامدا وكله فخر وسرور ثم أرسل رأسه الشريف مع رءوس الرؤساء الآخرين من أهل مكة، وصلب جثته الموعودة بالغفران، وأمر ألا تنزل حتى ترجو ذلك أمه أسماء ذات النطاقين.
حينما سمعت ذات النطاقين ذلك الأمر قررت ألا تذل نفسها برجاء الحجاج، ولكنها مرت بالصدفة من جانب المكان الذي كان مصلوبا فيه، وقالت أما آن لهذا الفارس أن يترجل!؟ وعند ما سمع الحجاج السفاح هذا القول أوله بالرجاء، وأمر أن تنزل جثة الشهيد المظلوم من مصلبها. ودفنت في مقبرة الحجون صنوان الجنة في جمال منظرها.
ويقول بعض المؤرخين إذ يروون هذا الخبر بشكل آخر. إن أم الزبير ذات النطاقين لم تتذلل إلى الحجاج طالبة منه إنزال ابنها من مصلبه، وكذلك لم تقل أما آن لهذا الفارس أن يترجل. وقد أنزلت جثة عبد الله من مصلبه بأمر وارد من عبد الملك. وكان عبد الملك يعرف مدى عداوة الحجاج لابن الزبير وقد بلغه أن الحجاج يصر على إبقاء جثة عبد الله على المصلب؛ لذا بعث برسول إلى الحجاج يأمره أمرا قاطعا بإنزال جثة الشهيد، وقد أنزلت جثته بعد أربعين يوما من تاريخ صلبها، وسلمت إلى أمه ذات النطاقين التي ابتدرت بتجهيزها وتكفينها ودفنت في مقبرة المعلا. وبناء على هذا قد مضي أربعون يوما بين استشهاد ابن الزبير ودفنه، وظلت جثته مصلوبة أربعين ويوما.
قد كبر جموع جند الشام حينما بلغهم استشهاد عبد الله بن الزبير من فم واحد، مظهرين فرحهم وسرورهم، وحينما بلغ الخبر إلى أسماء ذات النطاقين التي كانت قد تجاوزت الثمانين من عمرها، قالت بعد ما استرجعت الآية الجليلة:
{إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} (البقرة:156) ما هذه الحال؟! وما أعجبه؟! إذا كان