الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انتقال حكومة مكة إلى يد بنى خزاعة
بعد أن نجحت قبائل الجراهمة الباغية فى طرد طائفة العمالقة من الأراضى الحجازية المقدسة، نكلوا بهم واختار الجند مضاض بن عمرو أميرا لأنفسهم.
وبعد فترة من مقتل سميدع اتخذت عشيرة قطورا مضاض بن عمرو رئيسا لها بعد الانتصار عليها وزادت قوتهم وقاموا ببدع لا تليق بالمكانة الرفيعة لكعبة الله واتسموا بسوء الخلق وقاموا بما يستدعى غضب الله الجليل عليهم وظهرت آثار البغض والشقاوة والطغيان بانقطاع ماء زمزم الذى غار تماما.
واستخفوا بحرمة كعبة الله الشريفة، واستحلوا المحارم وما نهى عنه، وجرأوا على الاستيلاء على الأموال والهدايا التى يرسلها الملوك والحكام إلى البيت الشريف.
أحلوا الحرام وأخذوا يظلمون الناس ويعتدون عليهم بل تجاوزوا ذلك بأن منعوا الناس من زيارة مكة المعظمة فى خسّة ودناءة.
وكان مضاض بن عمرو رئيس هؤلاء المشئومين من الجراهمة قد جمعهم ذات يوم وخطب فيهم واعظا فقال: «يا طائفة الجراهمة اجتنبوا المظالم والمعاصى فى جوار بيت الله الشريف، وقوموا بالأفعال الخيرة تنالوا القبول والرضا عند صاحب الكبرياء. فقد سلطكم الله القادر على العمالقة البغاة، عند ما انتهكوا حرمة الحرم الشريف وقد تم طرد هؤلاء المشئومين من دائرة الفيض الإلهى ورأيتم كيف حرموا من دخول دائرة الحرم الشريف وسمعتم ما ابتلى به قوم هود وصالح وشعيب-عليهم السلام-من النوازل وأنواع البلاء.
وإذا تمسكتم بما أنتم عليه من رذائل الأخلاق فليس ببعيد وجود طائفة أقوى منكم فتطردكم وتخرجكم-مثل العمالقة-من حدود أرض الحجاز الميمونة «فأجابوه بقول يملأه الغرور
(1)
وهل يوجد بين العرب قوم أشجع وأجرأ منا، وهل
(1)
اسم الشقى الجرهمى الذى هذا القول لمضاض بن عمرو هو مجدع.
هناك من لديهم الرجال الأقوياء والأسلحة البتارة الأكثر والأكمل منا؟ حتى تجرؤ على حربنا وقتالنا وطردنا وإخراجنا من أرض مكة؟ فلماذا تزعجبنا بهموم الحرب والقتال واحتمال طردنا من ساحة مكة الله؟!
وعند ما شعر مضاض بن عمرو أن إصلاح أحوال القبيلة الضالة أمر غير ممكن وأن هذا الحال مقدمة لداهية كبرى، قام ذات ليلة وأخذ الغزالين الذهب وكانا محفوظين فى خزينة بيت الله، وبقية الهدايا القيمة وألقى بها كلها فى بئر زمزم الذى قد نضب ماؤها، ثم سد البئر المذكور بالحجارة والتراب. ثم اصطحب أولاد وأحفاد إسماعيل وأسرع راحلا إلى الأطراف حتى لا يتعرضوا للخذلان.
كما أوضحنا سابقا فى الوجهة الخاصة أن الأشياء القيمة التى أخفاها مضاض بن عمرو فى بئر زمزم أخرجها عبد المطلب بن هاشم فيما بعد فى أثناء حفره للبئر وأجريت قرعة بالاتفاق مع الرأى العام وكانت نتيجتها أن الغزالين كانا من نصيب البيت الأعظم وبقية الأشياء من نصيب عبد المطلب.
وقد قام عبد المطلب بتعليق الغزالين على جانبى باب الكعبة فزين بهما الكعبة وباع بقية الأشياء أنفق ثمنها كله على بيت الله، وأظهر بهذا مدى إخلاصه وعبوديته.
عقب خروج مضاض بن عمرو مصطحبا أحفاد بنى إسماعيل إلى أطراف البلدان اشتد بغى وطغيان الجراهمة، وتصرفوا حسب هواهم.
وعند ما أدرك بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وقبائل غبشان الخزاعى، قلة عدد الجراهمة، استعانوا بالقبائل المجاورة المقيمة فى البوادى لكى يغيروا على الجراهمة وكونوا جمعا كبيرا وأعلنوا الحرب على الجراهمة.
وبعد معارك كثيرة، حاصروا مكة المعظمة وضيقوا الخناق على الجراهمة البغاة، وطردوهم خارج حدود كعبة الله المحفوفة بالهدى.
وأول من تبوأ مقعد الحكم فى مكة المكرمة بعد الجراهمة هو غبشان الخزاعى.
ومن بعده أصبح عمرو بن الحارث الغبشانى أميرا لمكة، وقد توارث أبناؤه وأحفاده الولاية الجليلة لحكومة مكة حتى مجئ خليل بن حبشة بن سلولة صهر قصى بن كلاب.
وكان بنو خزاعة من ساكنى بلدة مأرب الواقعة على بعد ثلاث مراحل من مدينة صنعاء اليمن المشهورة.
وعند ما علموا أنها ستنهار نتيجة لخرق السدود والنقب وسيهجم سيل العرم ويغرق سكان بلاد «سبأ» ويمحوهم.
ولما قضت هذه الشائعة راحة الناس وكان منهم عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان فخرج وقد أخذ معه قبيلته المنقادة له وباع أملاكه ومتاعه وأسرع يبحث عن بلدة يسكنها. وكان يقابل أهل البلاد التى يمر بها ويغلبهم، مع هذا لم يستطع التكيف والتآلف مع ماء البلاد وهوائها التى يمر بها، لهذا عزم على الذهاب إلى أرض الحجاز المقدسة بناء على ما أخبرته به كاهنة تسمى ظريفة وبعد فترة وصل إلى حدود ميقات مكة.
وفى أثناء إقامته بلغه أن قبائل الجراهمة مصرون على رأيهم بمنع غيرهم من دخول مكة، فتشاور مع حكماء القبيلة. ورأى أن يرسل برسالة إلى الجراهمة يستأذنهم فى البقاء بأرض مكة المشرفة لفترة قصيرة، ولكن الجراهمة رفضوا رجاء عمرو بن عامر. ولما بلغ قولهم إنه يتحتم عليه-فى كل الأحوال-أن يزيل خيامه من عند حدود كعبة الله، وأن يرتحلوا إلى أى بلد آخر عندئذ قال لهم عمرو بن عامر: إننى أرى البقاء فى أرض مكة بلاد قيد أو شرط،فإذا كان هذا ملائما لكم فحددوا لنا مكانا مناسبا بجانبكم نكن إخوة لكم نعاونكم وننصركم، حسبما يقتضى الأمر. أما إذا صممتم على المعارضة والرفض، فسأسلب راحتكم وأستعمل معكم أساليب العنف والسيطرة والقوة القهرية، فأخرجكم من مساكنكم وبيوتكم وأطردكم خارج الحدود، وإذا تصديتم لقتالى فسأنتصر عليكم بعون الله وسأهين رجالكم بقتلهم بالسيف وأقيد أطفالكم ونساءكم بأصفاد الأسر.
ومع هذا القول فإنهم عارضوه فاستجمع كل قوته وحاربهم ثلاثة أيام وثلاث ليال متواصلة، وفى النهاية لاذ الجراهمة بالفرار فدخل مكة المكرمة، واستولى عليها وقضى على جماعات الجراهمة الذين قبض عليهم وقهرهم.
واشترك فى هذه الحرب غبشان الخزاعى مع أبناء بكر بن عبد مناة بن كنانة.
وقد هلك وقتل كثير من الجراهمة، جزاء وفاقا لما اقترفوه من مظالم ومساوئ وكانت عاقبتهم جميعا أن أخرجوا من مكة وأبعدوا مطرودين إلى جبال اليمن.
والواقع أنه ما من حاكم اعتاد على أن يظلم داخل مكة إلا وهلك، وأخرج هو وقومه وقبيله منها! حتى أطلق على مكة اسم بكة نظرا لأن المدينة المباركة تبك أعناق الجبابرة.
وعلى الذين يرغبون فى معرفة تفاصيل هذه الواقعة الرجوع إلى الصورة الرابعة من الوجهة الرابعة من مرآة المدينة.
وخرجت حكومة مكة المشرفة من أيدى الجراهمة، وما أن أصبحت فى قبضة الخزاعيين وتصرفهم حتى رجع إليها بنو إسماعيل المنتشرون فى الممالك والبلدان وأقاموا داخل الأرض المقدسة لكعبة الله، بعد أن استأذنوا الخزاعيين فى هذا.
وبعد فترة قصيرة التمس مضاض بن عمرو الجرهمى إذنا بالإقامة فى مكة المكرمة فلم يوافق أفراد بنى خزاعة علي إقامة مضاض أو أى فرد من الجراهمة فى أرض مكة الطاهرة وأجابوه إذا تجاوز أحد منكم حدود الحرم الشريف سنقتله بلا تردد.
واستقبل مضاض بن عمرو رد بنى خزاعة بالصمت وحدث نفسه قائلا:
«سأجد لى حيلة فيما بعد لأقيم فى مكة» .
وذات يوم صعد فوق جبل أبى قبيس يبحث عن إبله. فرأى إبله المفقودة بين يدى بنى خزاعة يذبحونها ويقسمونها بينهم، فراقبهم لفترة طويلة ثم قطع الأمل فى استرداد إبله وقال فى نفسه: «إذ هبطت إلى الوادى لن تسلم من القتل كما
سبق أن هددوك من قبل «ثم أخذ أنصاره وأتباعه وشيعته الذين معه ووجه رجاله تجاه اليمن وخرج من أرض الحجاز المقدسة» .
وكما يفهم من قصيدة عمرو بن الحارث بن مضاض التالى ذكرها أنه عند ما خرجت البلدة السعيدة المباركة من يد مضاض بن عمرو الجرهمى البلدة التى لا مثيل لها فإنه سقط من فوق كرسى الحكم، وأصبح شيخ قبيلة عادية أصابه الحزن والألم الشديد.
ومضاض بن عمرو هو الحادى والعشرون من ملوك الجراهمة الذين تولوا أمر السلطة فى البلاد الحجازية المقدسة.
وأول من تبوأ مقعد الحكم من ملوك الجراهمة هو جرهم بن قحطان، عاد وقد استولى على الأراضى الحجازية عند ما كان أخوه يعرب يتولى الحكم فى أرض اليمن مكان والده قحطان وهزم جرهم العمالقة واستولى على زمام الحكم.
وعند ما توفى جرهم بن قحطان آلت حكومة الحجاز إلى ابنه عبد ياليل بن جرهم وعند وفاته آلت إلى جرشم بن عبد ياليل وعند ما توفى جرشم آلت إلى عبد المدان بن جرشم، ومن بعده إلى ثقيلة بن عبد المدان وفى النهاية إلى عبد المسيح بن ثقيلة ومن بعده إلى مضاض بن عبد المسيح ومن بعده إلى عمرو بن مضاض وعند ما توفى عمرو آلت إلى أخيه حارث بن مضاض بن عمرو بن الحارث ولما توفى عمرو آلت إلى أخيه الحارث بن مضاض ومن بعده إلى عمرو بن الحارث وبعد وفاة عمرو آلت إلى أخيه بشر بن الحارث وبعده إلى مضاض بن عمرو بن مضاض وفى حياة مضاض هذا خرج حكم مكة من يد الجراهمة كما فصلنا القول فيه أعلاه. وأخذ بنو خزاعة حكم مكة فى أيديهم.
وهذه القصيدة من نظم عمرو بن الحارث وتحكى انتقال حكومة مكة المشرفة إلى إدارة بنى خزاعة.