الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النظر الخامس
فيما يعرف به كون اللفظ موضوعا لمعناه
لما كان المرجع في معرفة شرعنا إلى القرآن والأخبار، وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم، كان العلم بشرعنا موقوفا على العلم بهذه الأمور،
وما لا يتم الواجب المطلق إلا به، وكان مقدورا للمكلف، فهو واجب.
ثم الطريق إلى معرفة لغة العرب ونحوهم وتصريفهم إما العقل، وإما النقل،
أو ما يتركب منهما.
أما العقل: فلا مجال له في هذه الأشياء؛ لما بينا أنها أمور وضعية،
والأمور الوضعية لا يستقل العقل بإدراكها.
وأما النقل: فهو إما تواتر أو آحاد والأول يفيد العلم، والثاني يفيد الظن.
وأما ما يتركب من العقل والنقل، فهو كما عرفنا بالنقل أنهم جوزوا الاستثناء
عن صيغ الجمع، وعرفنا بالنقل أيضا أنهم وضعوا الاستثناء لإخراج ما لولاه
لدخل تحت اللفظ؛ فحينئذ نعلم بالعقل بواسطة هاتين المقدمتين النقليتين أن صيغة الجمع تفيد الاستغراق.
واعلم أن على كل واحد من هذه الطرق الثلاثة- إشكالات، أما التواتر:
فإن الإشكال عليه من وجوه:
أحدها: أنا نجد الناس مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة المسلمين اختلافا لا يمكن القطع فيه بما هو الحق؛ كلفظة الله
تعالى؛ فإن بعضهم زعم أنها ليست عربية، بل سريانية، والذين جعلوها عربية
اختلفوا في أنها من الأسماء المشتقة، أو الموضوعة، والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافا شديدا،
وكذا القائلون بكونه موضوعا اختلفوا أيضا اختلافا كبيرا،
ومن تأمل أدلتهم في تعيين مدلول هذه اللفظة علم أنها متعارضة، وأن شيئا منها لا يفيد الظن الغالب فضلا عن اليقين.
وكذا اختلفوا في الإيمان والكفر، والصلاة والزكاة، حتى إن كثيرا منالمحققين في علم الاشتقاق
زعموا أن اشتقاق الصلاة من الصلوين، وهما: عظما الورك، ومن المعلوم أن هذا الاشتقاق غريب.
وكذلك اختلفوا في صيغ الأمور والنواهي، وصيغ العموم مع شدة
اشتهارها، وشدة الحاجة إليها اختلافا شديدا.
وإذا كان الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ، والحاجة إلى
استعمالها ماسة جدا كذلك، فما ظنك بسائر الألفاظ؟! وإن كان كذلك ظهر
أن دعوى التواتر في اللغة والنحو متعذرة.
فإن قلت: هب أنه لا يمكن دعوى التواتر، في معاني هذه الألفاظ على سبيل
التفصيل، ولكنا نعلم معانيها في الجملة، فنعلم أنهم يطلقون لفظ الله على الإله
سبحانه وتعالى، وإن كنا لا نعلم أنن مسمى هذا اللفظ أهو الذات، أم المعبودية،
أم القادرية؟ وكذا القول في سائر الألفاظ.
قلت: حاصل ما ذكرته أنا نعلم إطلاق لفظ الله على الإله سبحانه وتعالى من
غير أن نعلم أن مسمى هذا الاسم ذاته، أو كونه معبودا، أو كونه قادر على
الاختراع، أو كونه ملجأ الخلق، أو كونه بحيث تتحير العقول في إدراكه إلى
غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ، وذلك يفيد نفي القطع بمسماه، وإذا كان الأمر كذلك في هذه اللفظة مع غاية شهرتها ونهاية الحاجة إلى معرفتها، كان الاحتمال فيما عداها أظهر.
وثانيها: أن من شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة، فهب أنا علمنا حصول شرائط التواتر في حفاظ اللغة والنحو والتصريف في زماننا هذا، فكيف نعلم حصولها في سائر الأزمان؟!
فإن قلت: الطريق إليه أمران:
أحدهما: أن الذين شاهدناهم أخبرونا أن الذين أخبروهم بهذه اللغات كانوا موصوفين بالصفات المعتبرة في التواتر، وأن الذين أخبروا من أخبرهم كانوا كذلك إلى أن يتصل النقل بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم.
وثانيهما: أن هذه الألفاظ، لو لم تكن موضوعة لهذه المعاني، ثم وضعها واضع لهذه المعاني،
لاشتهر ذلك ولعرف؛ فإن ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله.
قلت: أما الأول، فغير صحيح؛ لأن كل واحد منا حين سمع لغة مخصوصة من إنسان، فإنه لم يسمع منه أنه سمع من أهل التواتر، وأن الذين أسمعوا كل واحد من مسمعيه سمعوها أيضا من أهل التواتر، إلى أن يتصل ذلك بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم، بل تحرير هذه الدعوى على هذا الوجه، مما لا يفهمه كثر من الأدباء؛ فكيف يدعى أنهم علموه بالضرورة؟!
بل الغاية القصوى في راوي اللغة أن يسنده إلى كتاب مصحح، أو إلى أستاذ متقن،
ومعلوم أن ذلك لا يفيد اليقين.
وأما الثاني، فضعيف أيضا، أما أولا؛ فلأن ذلك الاشتهار إنما يجب في الأمور العظيمة؛ ووضع اللفظة المعينة بإزاء المعنى المعين ليس من الأمور العظيمة التي يجب اشتهارها، وأما ثانيا؛ فلأن ذلك ينتقض بما أنا نرى أكثر العرب في زماننا هذا يتكلمون بألفاظ مختلة، وإعرابات فاسدة، مع أنا لا نعلم واضع تلك الألفاظ المختلة ولا زمان وضعها، وينتقض أيضا بالألفاظ العرفية؛ فإنها نقلت عن موضوعاتها الأصلية، مع أنا لا نعلم المغير ولا زمان التغيير فكذا هاهنا.
سلمنا أنه يجب أن يشتهر ذلك؛ لكن لا نسلم أنه لم يشتهر، فإنه قد اشتهر، بل بلغ مبلغ التواتر أن هذه اللغات إنما أخذت عن جمع مخصوصين كالخليل، وأبي عمر بن العلاء، والأصمعي،
وأبي عمرو الشيباني، وأضرابهم ولاشك أن هؤلاء ما كانوا معصومين، ولا كانوا بالغين حد التواتر، وإذا كان كذلك لم يحصل القطع واليقين بقولهم.
أقصى ما في الباب أن يقال: نعلم قطعا استحالة كون هذه اللغات بأسرها منقولة على سبيل الكذب، إلا أنا نسلم ذلك، ونقطع بأن فيها ما هو صدق قطعا، لكن كل لفظة عينَّاها، فإنه لا يمكننا القطع بأنها من قبيلما نقل صدقا أو كذبا؛ وحيينئذ لا يبقى القطع في لفظ معين أصلا، هذا هو الإشكال على من ادعى التواتر في نقل اللغات.
أما الآحاد، فالإشكال عليه من وجوه:
أحدها: أن رواية الآحاد لا تفيد إلا الظن، ومعرفة القرآن والأخبار مبنية على معرفة اللغة والنحو والتصريف، والمبني على المظنون مظنون، فوجب ألا يحصل القطع بشيء من مدلولات القرآن والأخبار، وذلك خلاف الإجماع.
وثانيها: أن رواية الآحاد لا تفيد الظن، إلا إذا سلمت عن القدح، وهؤلاء الرواة مجرحون.
بيانه: أن أجل الكتب المصنفة في النحو واللغة: "كتاب سيبويه" وكتاب "العين".
أما "كتاب سيبويه": فقدح الكوفيين فيه وفي صاحبه أظهر من الشمس، وأيضا فالمبرد كان من أجلِّ البصريين، وهو قد أورد كتابا في القدح فيه.
وأما "كتاب العين": فقد أطبق الجمهور من أهل اللغة على القدح فيه.
وأيضا فإن ابن جني قد أورد بابا في كتاب "الخصائص" في قدح أكابر الأدباء بعضهم في بعض وتكذيب بعضهم بعضا، وطول في ذلك وأفرد بابا آخر في أن لغة أهل الوبر أصح من لغة أهل المدر، وغرضه من ذلك القدح في الكوفيين؛ وأفرد بابا آخر في كلمات من الغريب لا يعلم أحد أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي.
وروي عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظا لم يسمعاها، ولم يسبقا إليها، وعلى نحو هذا قال المازني: ما قيس على كلام العرب، فهو من كلامهم.
وأيضا، فالأصمعي كان منسوبا إلى الخلاعة، ومشهورا بأنه كان يزيد في اللغة ما لم يكن منها.
والعجب من الأصوليين أنهم أقاموا الدلالة على أن خبر الواحد حجة في الشرع، ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة، وكان هذا أولى؛ لأن إثبات اللغة كالأصل للتمسك بخبر الواحد، وبتقدير أن يقيموا الدلالة على ذلك،
فكان من الواجب عليهم أن يبحثوا عن أحوال رواة اللغات والنحو، وأن يتفحصوا عن أسباب جرحهم وتعديلهم، كما فعلوا ذلك في رواة الأخبار، لكنهم تركوا ذلك بالكلية مع شدة الحاجة إليه فإن اللغة والنحو يجريان مجرى الأصل للاستدلال بالنصوص.
وثالثها: أن رواية الراوي إنما تقبل إذا سلمت من المعارض، وهاهنا روايات دالة على أن هذه اللغة تتطرق إليها الزيادة والنقصان.
أما الزيادة: فلما نقلنا عن رؤبة وأبيه من الزيادات، وكذلك عن الأصمعي والمازني.
وأما النقصان: فلما روى ابن جني بإسناده عن ابن سيرين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: كان الشعر علم قوم، لم يكن لهم علم أصح منه فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم، وغفلت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب في الأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئولوا فيه إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، وقد هلك من العرب ما هلك، فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم أكثره.
وروى ابن جني ايضا بإسناده عن يونس بن حبيب، عن أبي عمرو بن العلاء، أنه قال: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير.
قال ابن جني: فهذا ما نراه، وقد روي في معناه كثير؛ وذلك يدل على تنقل الأحوال بهذه اللغة، واعتراض الأحداث عليها، وكثرة تغيرها.
وأيضا فالصحابة مع شدة عنايتهم بأمر الدين، واجتهادهم في ضبط أحواله، عجزوا عن ضبط الأمور التي شاهدوها في كل يوم خمس مرات، وهو كون الإقامة فرادى أو مثناة، والجهر بالقراءة، ورفع اليدين، فإذا كان الامر في هذه الأشياء الظاهرة كذلك، فما ظنك باللغات، وكيفية الإعرابات، مع قلة وقعها في القلوب، ومع أنه لم يشتغل بتحصيلها وتدوينها محصل إلا بعد انقراض عصر الصحابة والتابعين؟!
وأما ما يتركب من العقل والنقل، فالاعتراض عليه أن الاستدلال بالمقدمتين النقليتين على النتيجة،
لا يصح إلا إذا ثبت أن المناقضة غير جائزة على الواضع، وهذا إنما يثبت إذا ثبت أن الواضع هو الله تعالى، وقد بينا أن ذلك غير معلوم.
فإن قلت: الناس قد أجمعوا على صحة هذا الطريق، لأنهم لا يثبتون شيئا من مباحث علم النحو والتصريف إلا بهذا الطريق، والإجماع حجة.
قلت: إثبات الإجماع من فروع هذه القاعدة، لأن إثبات الإجماع سمعي، فلا بد فيه من إثبات الدلائل السمعية، والدليل السمعي لا يصح إلا بعد ثبوت اللغة والنحو والتصريف، فالإجماع فرع هذا الأصل، فلو أثبتنا هذا الأصل بالإجماع، لزم الدور؛ وهو محال، فهذا تمام الإشكال.
والجواب: أن اللغة والنحو على قسمين:
أحدهما: المتداول المشهور، والعلم الضروري حاصل بأنها في الازمنة الماضية كانت موضوعة لهذه المعاني؛ فإننا نجد أنفسنا جازمة بأن لفظ السماء والأرض كانتا مستعملتين
في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذين
المسميين، ونجد الشكوك التي ذكروها جارية مجرى شبه السوفسطائية القادحة في المحسوسات التي لا تستحق الجواب.
وثانيهما: الألفاظ الغريبة، والطريق إلى معرفتها الآحاد، إذا عرفت هذا فنقول: أكثر ألفاظ القرآن ونحوه وتصريفه من القسم الأول، فلا جرم قامت الحجة به.
وأما القسم الثاني: فقليل جدا، وما كان كذلك، فإننا لا نتمسك به في المسائل القطعية، ونتمسك به في الظنيات، ونثبت وجوب العمل بالظن بالإجماع، ونثبت الإجماع بآية واردة بلغات معلومة لا مظنونة، وبهذا الطريق يزول الإشكال، والله أعلم.
قال القرافي: قوله: "النظر الخامس .... " إلى آخره عليه ثلاثة عشر سؤالا:
الأول: النقل إما تواتر أو آحاد، القسمة ليست حاصرة؛ لأن التواتر هو خبر جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب.
والآحاد: هو ما أفاد ظنا أخبر به واحد أو أكثر، هذا هو الاصطلاح، ونفى خبر الواحد إذا أفاد العلم بما يقترن به من قرائن الأحوال وغيرها كأخباره عليه السلام مشافهة، واحتفت به قرائن
تقتضي إرادة ما فهم منه قطعا لا ظنا، ولذلك ميزه عليه السلام مع القرائن.
تقرير قوله قبل هذا: " ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب"
يريد بالمطلق ما لا يفيد في أصل الخطاب بشرط أو سبب وانتفاء مانع في الوجوب، فإن سبب الوجوب وشرطه وانتفاء مانعه لا يجب إجماعا نحو: ملك النصاب سبب وجوب الزكاة، والإقامة شرط للصيام، والدين مانع من وجوب الزكاة فلا يجب تحصيل النصاب ولا الإقامة ولا وفاء الدين لأجل
الزكاة إجماعا، إنما الخلاف فيما يتوقف عليه إيقاع الواجب وصحته بعد تقرر الوجوب، ففرق بين قول السيد لعبده: إذا نصبت السلم فاصعد السطح، وبين قوله: اصعد السطح، فالخلاف في النصب الثاني دون الأول؛ لأن الثاني مطلق والأول مقيد.
وقوله: وكان مقدورا للمكلف احتراز من عجزه عن نصب السلم؛ فإنه تكليف مالا يطاق، فإن جوزناه، فإنا لا نفرع عليه؛ لأنا لا نعتقد وجوبه في الشريعة على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فكل معجوز عنه عادة لا نعنى بوجوبه كان واجبا أصالة، أو توقف عليه واجب.
وقوله: "الأمور الوضعية لا يستقل العقل بدركها".
معناه: أن جميع الشرائع وغيرها من الأمور المكتسبة لا بد وأن يكون للعقل فيها مدخل، إذ من لا عقل له لا يحصل علما ولا ظنا مكتسبا، لكل لا يستقل العقل إلا في ثلاثة مواطن:
وجوب الواجبات، واستحالة المستحيلات، وجواز الجائزات، وما عدا هذه الثلاثة لا بد من أمر زائد على العقل من الحواس أو غيرها.
وقوله بعد هذا: " كما إذا بلغنا أنهم جوزوا الاستثناء في صيغة الجمع" يريد المعرف بالألف واللام، أو الإضافة، أو كان في سياق النفي نحو الرجال أو رجالك أو لا رجال لك.
أما النكرة نحو رجال، فلا عموم فيها دخل عليه الاستثناء أم لا، فنقول: صيغة المشركين يدخلها الاستثناء عملا بالنقل، وهو عبارة عما لولاه لوجب اندراج المستثنى تحت الحكم، وما من نوع إلا يصح استثناؤه، وما استثنى فيندرج تحت الحكم، فتكون الصيغة للعموم، وهذا العموم إنما حصلناه من مجموع النقل، وتصرف العقل، فإنه لم ينقل إلينا أن الصيغة للعموم البتة، بل تانك المقدمتان فقط، فقد حصل لنا مطلوب لغوي بالتركيب من العقل، والنقل.