الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحقيقة، إذا قل استعمالها، صارت مجازا عرفيا، والمجاز، إذا كثر استعماله، صار حقيقة عرفية.
المسألة الرابعة: في أن اللفظ، متى كان مجازا، فلابد وأن يكون حقيقة في غيره، ولا ينعكس:
أما الأول؛ فلأن المجاز هو المستعمل في غير موضعه الأصلي؛ وهذا تصريح بأنه وضع في الأصل لمعنى آخر، فاللفظ متى استعمل في ذلك الموضوع، كان حقيقة فيه.
وأما الثاني؛ فلأن المجاز هو المستعمل في غير موضعه الأصلي؛ لمناسبة بينهما، وليس يلزم من كون اللفظ موضوعا لمعنى- أن يصير موضوعا لشيء آخر، بينه وبين الأول مناسبة.
المسألة الخامسة: فيما به تنفصل الحقيقة عن المجاز:
الفروق المذكورة منها صحيحة، ومنها فاسدة: أما الصحيحة فنقول: الفرق بين الحقيقة والمجاز: إما أن يقع بالتنصيص، أو الاستدلال:
أما التنصيص، فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يقول الواضع: هذا حقيقة، وذلك مجاز.
-
وثانيها: أن يذكر أحدهما.
وثالثها: أن يذكر خواصهما.
وأما الاستدلال، فمن وجوهٍ أربعةٍ:
أحدها: أن يسبق المعنى إلى أفهام جماعة أهل اللغة عند سماع اللفظ من
دون قرينة؛ فيعلم أنها حقيقة فيه؛ فإن السامع لولا أنه اضطر من قصد
الواضعين إلى أنهم وضعوا اللفظ لذلك المعنى، لما سبق إلى فهمه ذلك المعنى دون غيره.
وثانيها: أن أهل اللغة، إذا أرادوا إفهام غيرهم معنى، اقتصروا على عبارات
مخصوصة، وإذا عبروا عنه بعبارات أخرى، لم يقتصروا عليها، بل ذكروا معها قرينة؛ فيعلم أن الأول حقيقة؛ إذ لولا أنه استقر في قلوبهم استحقاق تلك اللفظة لذلك المعنى، لما اقتصروا عليها.
وثالثها: إذا علقت الكلمة بما يستحيل تعليقها به، علم أنها في أصل اللغة غير موضوعة له، فيعلم أنها مجاز فيه؛ كقوله تعالى:{واسأل القرية} ] يوسف: [.
ورابعها: أن يضعوا اللفظ لمعنى، ثم يتركوا استعماله إلا في بعض مجازاته، ثم استعملوه بعد ذلك في غير ذلك الشيء، علمنا كونه مجازا عرفيا؛ مثل استعمال لفظ الدابة في الحمار.
فالخاصيتان الأوليان للحقيقة، والأخريان للمجاز.
وأما الفروق الضعيفة، فقد ذكر منها الغزالي وجوها أربعة:
أحدها: أن الحقيقة جارية على الأطراد؛ فقولنا: (عالم) لما صدق على ذي علم واحد، صدق على كل ذي علم، والمجاز ليس كذلك؛ فإنه لما صح:{واسأل القرية} ] يوسف: 82 [صح (واسأل البساط).
وهذا ضعيف؛ لأن الدعوى العامة لا تصح بالمثال الواحد.
وأيضا، إن أراد باطراد الحقيقة استعمالها في جمع موارد نص الواضع، فالمجاز أيضا كذلك؛ لأنه يجوز استعماله في جميع موارد نص الواضع، فلا يبقى بينهما فيه فرق.
وإن أراد استعمال الاسم في غير موضع نص الواضع؛ لكونه مشاركا للمنصوص عليه في المعنى، فهذا هو القياس، وعنده لا قياس في اللغات.
سلمنا جواز القياس في اللغة؛ لكن دعوى اطراد الحقيقة ممنوعة؛ لأن الحقيقة لا تطرد في مواضع كثيرة:
الأول: أن يمنع منه العقل؛ كلفظ الدليل عند من يقول: إنه حقيقة في فاعل الدلالة؛ فإنه لما كثر استعماله في نفس الدلالة، لا جرم لم يحسن استعماله في حق الله تعالى إلا مقيدا.
الثاني: أن يمنع السمع منه؛ كتسمية الله تعالى (بالفاضل والسخي) - فإنها
ممنوعة شرعا مع حصول الحقيقة فيه.
الثالث: أن تمنع منه اللغة؛ كامتناع استعمال (الأبلق) في غير الفرس.
فإن اعتذروا عنه بأن الأبلق موضوع للمتلون بهذين اللونين بشرط كونه فرسا!!. فنقول: جوز في كل مجاز لا يطرد أن يكون سبب عدم اطراده- ذلك؛ وحينئذٍ، لا يمكن الاستدلال بعدم الاطراد على كونه مجازا.
وثانيها: قال الغزالي رحمه الله: امتناع الاشتقاق دليل كون اللفظ مجازا؛ فإن الأمر، لما كان حقيقة في القول، اشتق منه الآمر والمأمور، ولما لم يكن حقيقة في الفعل، لم يوجد منه الاشتقاق.
وهذا ضعيف؛ لما تقدم أن الدعوى العامة لا تصح بالمثال الواحد، ولأنه ينتقض بقولهم للبليد: حمار، وللجمع: حمر، وعكسه: أن الرائحة حقيقة في معناها، ولم يشتق منها الاسم.
وثالثها: أن تختلف صيغة الجمع على الاسم، فيعلم أنه مجاز في أحدهما؛ إذ الأمر الحقيقي يجمع على الأوامر، وإذا أريد به الفعل، يجمع على أمورٍ.