الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المسألة الثالثة: في أقسام هذا المجاز)
قوله: (الأسباب أربعة: القابل، والفاعل، والصورة، والغاية).
تقريره: أن السبب القابل هو: ما يصلح في العادة أن يرد عليه مسببه، كالحفيرة تقبل أن يرد عليها الماء فتسمى: واديا، وكذلك الزير، والكوز، والكأس، وجميع هذا النوع كذلك، وتارة يقبل أن يرد عليه وينقام منه المسبب كما تعمل من الشمع قدحا، ومن الخشب بابا، ومن الحدي سكينا وهو الهيولى عند الفلاسفة، فالسبب المادي فيه هذان القسمان.
والفاعل: هو كالنجار بالنسبة إلى السرير.
والصورة: هي الهيئة التي تتأتى بها من تلك الحقيقة، مقصوده بالصور البيت للسكن، وصورة السرير للنوم عليه، فلو كان البيت غير ساتر لم يحصل المقصود من الشيء، ولو كان السرير محدبا لم يتأت عليه النوم، وكذلك بقية النظائر.
والسبب الغائي: هو الثمرة المقصودة من الشيء الباعثة عليه كالنوم على السرير والسكنى في البيت، وهذا السبب الغائي هو المراد بقول القدماء: أول الفكر آخر العمل، وآخر العمل أول الفكر، فأول ما يخطر للإنسان أن يكون له بيت يؤويه يشرع في تحصيل اللبن، والبناء، وتصوير البيت، وبعد
ذلك يحصل له أول فكرته وهو الاستتار والإيواء، في البيت، وكل شيء في العالم له هذه الأسباب الأربعة، فالكتاب مادته الورق والحبر، وسببه الفاعل الناسخ، وسببه الصوري هو انتظام حروفه على الصورة المخصومة، فلو كان محيطا لم يحصل المقصود، وغايته حفظ الأسرار فيه والعلوم ليطلع عليها عند حاجتها، ويحفظ عند الغفلة عنها.
والإنسان له أربعة أسباب: النطفة سببه المادي، وما جعله الله - تعالى في الرحم من الحرارة الخاصة، والرطوبة، والكيفية فاعلة في مجارى العادات بقدرة الله تعالى، وصورته الخاصة، وشكله الإلهي، وتوفيق مزاجه، وتهذيب أخلاقه، ورقة طبعه، وشفوف روحانيته هو سببه الصوري، وغايته القيام بأوامر الله تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. قال ابن عباس- رضي الله عنه: (لآمرهم بعبادتي)، وكذلك جميع الكائنات على هذا الترتيب في هذه الأسباب الأربعة.
قوله: (مثال التجوز بالسبب الصوري تسميتهم اليد بالقدرة).
وقع في كثير من النسخ هكذا اليد بالقدرة، وهو غلط وصوابه القدرة باليد، فإن الموجود في لسان العرب إطلاق اليد على القدرة، كقوله تعالى:(قل لمن في أيديكم من الأسرى)[الأنفال: 70] أي: في قدرتكم،
…
وقوله تعالى: {لما خلقت بيدي} [سورة ص: 75]، أي بقدرتي {ومما عملت أيدينا} [يس: 71]، أي قدرتنا، {يد الله فوق أيديهم} [الفتح: 10]، أي قدرته محيطة بأيديهم، {وقالت اليهود يد الله مغلولة} [المائدة: 64]، أي: قدرته عاجزة، وكذبوا في ذلك، فالاستقراء دل على استعارة لفظ اليد للقدرة لا لفظ القدرة لليد، ولو
استعيرت صح، وكان من باب التجوز بلفظ المسبب عن السبب، وهو لم يقصد تمثيله، وإنما مثل التعبير بلفظ السبب عن المسبب، فلذلك كان الصواب في المثال العكس
(فائدة)
إطلاق اليد في حق الله تعالى، وسائر الآيات والأحاديث الدالة بظاهرها على التجسيم اختلف فيها أهل الحق، هل يتعين مجازها أم لا؟ بعد إجماعهم على أن ظواهرها غير مرادة، وإذا قلنا بالمجاز وتعينه فقيل: هي صفات مجهولة لنا لا نعرفها تضاف للصفات السبع التي دلت الصيغة عليها.
وقيل: بل تتعين مجازها في الصفات السبع التي دلت الصيغة عليها، وهى: القدرة، والعلم، والإرادة، والكلام النفساني، والسمع، والبصر، والحياة، فعبر بالعين عن العلم، وباليد عن القدرة، والرحمة والغضب عن الإرادة، والجنب والوجه عن الذات، وإذا قلنا بأن اليد القدرة فلم ثنيت وجمعت وأفردت في مواطن مع أنها واحدة؟
والجواب: أنها أفردت باعتبار ذاتها، لا أنها واحدة؟ وجمعت باعتبار متعلقاتها، واستعير لها ما صدر عنها من الآثار العديدة مجازا، وثنيت باعتبار أن آثارها قسمان، واختلف في تعيين القسمين.
فقيل: جميع آثارها منحصرة في الدنيا والآخرة.
وقيل: الجواهر، والأعراض.
وقيل: الحبور، والسرور، فلما كان جميع آثارها قسمين ثنيت باعتبارها مجازا.
تقرير:
ووجه كون صورة اليد للاقتدار؛ أنها لو خلقت رخوة كالجلد، لم يقتدر أحد بها على عمل، أو صلبت عظما واحدا تعذر العمل بها، فجعلت مركبة
من عظام عديدة، وأربطة، وعضل متعددة؛ ومن ورائها، وقدامها، وورائها، وألا تقبض وتبسط، وتدار، وطولت أصابعها لتحيط بالأشياء الغليظة، وقعر كفها لتشتمل على الأشياء، الكروية، وجعل إبهاماها أمام أصابعها لتقابله ويقابلها، فتقوى كل منهما بصاحبتها، بخلاف لو جعلت كلها في جهة واحدة ضعفت، ورققت أظافرها لتمسك بها الأشياء الدقيقة، وجعل جلدها أقوى الجلد حسا لتدرك به الكيفيات المختلفة، فيتناول منها عند عدم الإدراك بالبصر مقصوده، ويجتنب مكروهه، فهذه الصورة على هذه الهيئة أوجبت هذه الأعمال، فكان إطلاق لفظ اليد على القدرة من باب إطلاق اسم السبب الصوري على المسبب.
قوله: (ومثال التسمية باسم الفاعل حقيقة أو ظنا: تسميتهم المطر بالسماء (.
إنما قال: حقيقة أو ظنا؛ لأن قرائن الأحوال في العادة اقتضت أن السحاب أجسام لطيفة يخلقها الله- تعالى- من بخار الأرض أو من غير ذلك، الله اعلم بأسرار ملكه، الأول قول الفلاسفة، والثاني قول أصحابنا، فإن فرعنا على الأول فيكون اللطيف من البخار يختفي في بطن السحاب، وينعكس، ويقطر ماء، كما تراه في غطاء القدر يصعد البخار من القدر، فإذا انعكس من غطائها رجع ماء وقطر، وعلى هذا التقدير يكون تكون الماء في بطون السحاب كتكون الأجنة في بطون الأمهات، فكما يقال: إن رحم المرأة فاعل عادة لا حقيقة في تكوين الجنين، كذلك السحاب فاعل عادة في تكوين الماء، كما تقول: الشمس تفعل في العادة نضج الثمار، ويبس الحبوب، وإذابة الشمع، وتجفيف الماء من الثياب وغيرها، أو الله- تعالى- يلقح السحاب بالرياح، ويجعلها تولد الماء بطريق آخر الله- تعالى- يعلمه، فلما كانت هذه الاحتمالات قائمة لم يحصل الجزم بأنها فاعل عادة.